تناول العديد من الدراسات الادبية موضوع الرواية العربية منذ نشأتها وحتى الآن، وفيما عدا استثناءات قليلة ونادرة، لم تكن هذه الدراسات تضاهي تلك التي تناولت الشعر العربي نقداً وتحليلاً، سواء من ناحية الكم أو النوع. ويمكن القول أن هذا قد يعكس حبنا كعرب للشعر في شكل تاريخي، وهو أمر يرجع الى البدايات الأولى للأدب العربي كما جاء إلينا. ويتوافر في الوقت الراهن عدد كبير من الدراسات عن الشعر العربي الحديث باللغات الأوروبية، منها مثلاً ثلاث دراسات كاملة باللغة الإنكليزية، يعالج كل منها موضوع الشعر العربي من زاوية مختلفة. أما في حقل الرواية، فقد دأبت الدراسات الصادرة باللغة الانكليزية على التركيز على قطر معين، وخاصة مصر، أو على كاتب واحد تحديداً. أما الدراسات التي تستعرض الرواية العربية وتطورها في العالم العربي بكامله، فهي دراسات نادرة، وتقتصر أساساً على تلك المكتوبة باللغة العربية. من هنا يجيئ كتاب البروفيسور روجر آلن الأخير تحت عنوان "الرواية العربية" صدرت ترجمته عن المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة 1997، ترجمة حصة ابراهيم المنيف وكان قدمه للمرة الأولى في سلسلة من ثلاث محاضرات ألقاها في جامعة مانشستر في قسم دراسات الشرق الأدنى في شهر ايار مايو 1980، لتأخذ من ثم شكل الكتاب الذي يتناول الرواية العربية من ناحيتين رئيستين، الأولى تاريخية والثانية نقدية. وللبروفيسور روجر آلن مؤلفات عدة حول الأدب العربي، إضافة الى ترجمات عديدة الى الانكليزية من الادب العربي، ومنها "فترة من زماننا: المويلحي - حديث عيسى بن هشام" 1992، و"الادب العربي الحديث" 1987. وكتب وترجم العديد من المقالات عن فن القصة والمسرحية واصول تدريس اللغة العربية، وكانت مقالته التي تحمل عنوان "نجيب محفوظ والرواية - المضمون التاريخي" ضمن مجموعة المقالات التي حررها "مايكل بيرد" و"عدنان حيدر" في كتاب عنوانه: "نجيب محفوظ - من الشهرة المحلية الى الاعتراف العالمي" وقد اصدرته "سيراكيوز" اخيراً. وترجم روجر آلن أيضاً العديد من الروايات العربية، مثل روايتي "المرايا" و"السمان والخريف" لنجيب محفوظ، و"النهايات" لعبدالرحمن منيف. ويعمل روجر آلن استاذاً للأدب العربي واللغة العربية في جامعة بنسيلفانيا. يستعرض روجر آلن في كتابه هذا، نمو الرواية العربية وتطوّرها حتى وصولها الى مرحلة النضج، خلال فترة لا تتجاوز جيلين أو ثلاثة. والروايات التي يتناولها الباحث رصداً ونقداً وتحليلاً تظهر مدى نفاذ بصيرة هذه الروايات في تحليل سمات الجزء الأكبر للمجتمع العربي المعاصر ككل، أي السمات الرائعة والبائسة لمسار هذا المجتمع في ازاء مع العالم الأكبر والأكثر اتساعاً. وتقابل تلك السمات حركة مضادة، تنحو منحى الرفض والانسحاب والعزلة عن هذا العالم. وفي مقابل العالم الأكبر يقف العالم المصغّر للفرد كإنسان في صراعه ضد قيود المجتمع والقرية والعائلة، وهو الصراع الذي يبدو فيه البطل انساناً خارجياً على طراز الغريب كطراز بدائي تماماً كما نراه في الأدب الغربي الحديث. وفي مقدمته للطبعة الأولى لهذا الكتاب، يؤكد روجر آلن بصراحة أن إدراكه للحقائق الخاصة بدراسة الرواية العربية هو الذي دفعه دفعاً لمحاولة القيام بهذه الدراسة النقدية للرواية العربية وتاريخ تطورها، وتالياً لا بد لنا من الاشارة منذ البداية الى حقيقة هي في الواقع واضحة وجلية، وهي أن الرواية العربية من التعقيد، وأن العالم العربي من الاتساع حتى ليصعب على مثل هذا الكتاب أن يحيط بهما. ويكفيه ان يكون مجرد مقدمة للموضوع، على أمل أن تأتي الدراسة الاشمل والأعم فيما بعد. ويحدد روجر آلن المقصود بكلمة "العربية" الواردة في عنوان الكتاب، بأنها اللغة التي كتبت بها الأعمال القصصية التي استعرضها في هذه الدراسة القيمة، فهو لم يحاول مثلاً ان يتناول العدد الكبير من الأعمال التي كتبها كتّاب المغرب العربي الناطقون باللغة الفرنسية مثل محمد ديب وعبد الكبيرالخطيبي وكاتب ياسين على الرغم من ان هؤلاء الكتاب عرب من دون شك، ولو أن اعمالهم كتبت باللغة الفرنسية فهي تظهر تقارباً لا شك فيه مع تقاليد الأدب الفرنسي المعاصر، وهو الأمر الذي يعترف به بكل صراحة كاتب مثل الخطيبي. وعلى الأساس نفسه، يرفض روجر آلن تناول الأعمال التي كتبها مؤلفون عرب بلغات أخرى غير العربية. تحت عنوان "الرواية: متغيرات التعريف"، يبدأ الفصل الأول بمناقشة تتعلق بالرواية كنمط أدبي وباستعراض للمحاولات العديدة للتعريف بفن الرواية، ويتقصى الباحث عملية تواجه كل من يحاول تتبع قضايا الفن القصصي، العربي الحديث، وهي قضية الغموض في استخدام التعابير الفنية كتسميات لمختلف الأنماط الأدبية، وهو الغموض الموجود في اللغات الغربية ايضاً، ففي حين توجد في اللغتين الفرنسية والالمانية تعابير متميزة في اصولها الاتيمولوجية للانماط القصصية الرئيسة الثلاثة، اذ تطلق عليها الفرنسية مثلاً مسمّيات ثلاثة هي: Roman, Nouvelle, Conte فقد استخدم الباحث في الانكليزية تعبير Novel للنمط الاكثر طولا، واستعار مسمى Novella لأقدم هذه الانواع القصصية الثلاثة. وحين يتم مناقشة هذه المسألة في ما يتعلق باللغة العربية، فإن أول ما نلاحظه هو أن اللغة العربية لا تحوي كلمة عامة تقابل بالضبط تعبير Fiction بالانكليزية، باعتبارها كلمة تعبر عن وسيلة مختلفة في النظر الى العالم ومظاهره، ولخلق عوالم جديدة مستقلة بذاتها في الواقع، فقد امكن للعربية ان تبتدع تعابير فنية لتمييز كل من الانماط القصصية المختلفة اذ حيث انتهجت التعابير المستخدمة في اللغة الانكليزية ايضا بصفة عامة، واختارت تعبير "قصة قصيرة" مقابل "Short Story" و"رواية" مقابل "Novel" في اغلب الاحيان. ويحاول آلن تقصّي اصول هذا النمط الأدبي كمقدمة لمناقشة موضوع التقاليد القصصية في الادب العربي خلال فترته الكلاسيكية. اما الفصل الثاني والذي جاء تحت عنوان "التطورات المبكرة لتقاليد الرواية العربية" فيتتبع بدايات النهضة العربية الحديثة، وبصورة خاصة نواحيها المتعلقة بتطور تقاليد النثر الادبي، ثم يستعرض المحاولات القصصية المبكرة حتى بدايات الحرب العالمية الثانية، في سورية ولبنان والعراق والخليج العربي ومصر والمغرب العربي. ويستكمل الرحلة في الفصل الثالث، تحت عنوان "فترة النضج: خلفيات سياسية واجتماعية" حيث يرصد روجر آلن ويحلل الروايات العربية التي كتبت في الفترة بين عامي 1939 و1980، على اختلاف مواضيعها واساليبها ومناحيها القصصية ودوافعها السياسية واختلاف بلدان كتابها. اما الفصل الرابع فهو عبارة عن سلسلة من التحليلات الحذرة والمتحفظة لعدد من الراويات التي اختارها "آلن" من خضم الانتاج الروائي الغزير، معتبراً اياها امثلة مميّزة على الانتاج الروائي في العالم العربي خلال العقود الاخيرة. وتبدأ هذه الروايات التي بلغ عددها اثنتي عشرة رواية، ب"ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ ثم تتوالى روايات "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني، "عودة الطائر الى البحر" لحليم بركات، "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح، "ايام الانسان السبعة" لعبدالحكيم قاسم، "السفينة" لجبرا ابراهيم جبرا، رباعية "كانت السماء زرقاء - المستنقعات الضوئية - الحبل - الضفاف الاخرى" لاسماعيل فهد اسماعيل، "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل" لإميل حبيبي، "النهايات" لعبدالرحمن منيف، "حكاية زهرة" لحنان الشيخ، وأخيرا "نزيف الحجر" لابراهيم الكوني. اكد روجر آلن في مقدمة هذه الطبعة على طريقة تقديمه للكتاب، واذا كانت الطبعة الاولى والتي صدرت العام 1982 محاولة لاختيار عينات من تقاليد ادبية تتسم بالغنى، فلا بدّ من الاشارة الى ان العقود الاخيرة شهدت زيادة كبيرة في حجم الاعمال المنشورة، سواء من ناحية العدد او التنوع، وهو الحجم الذي يصبح صعبا بالنسبة لمؤلف كتاب مثل هذا الكتاب ولعلّ التكاثر في الروايات العربية وفي الكتابات النقدية حولها يوضح أن هذا النمط الادبي يتابع دوره كمرآة للمجتمع الذي تبتدع فيه هذه الاعمال ويدعو لضرورة فهم الواقع وإحداث التغيير فيه. غير أنه في أي محاولة تستهدف تقييم الدرجة التي تمكن بها هذا الكتاب من تقديم قدر اكبر من التقاليد الخاصة بهذا النمط الادبي، فإن احد الاستنتاجات الواضحة التى لابد من استنباطها من المادة الغنية المتوافرة الآن بين أيدينا، ومن هذه الاستنتاجات أن العينة التي استعرضها البروفسور روجر آلن في هذا الكتاب انما تمثل نسبة اصغر من الاعمال القصصية والنقدية الراهنة. مقارنة بما كان متوافراً لدى صدور الصيغة الاولى، ومازال الروائيون والنقاد العرب يقدمون كمّاً متزايداً من المادة التي يمكن ان تكون موضع دراسة ويستفيد الباحثون المتخصصون في دراسات الادب العربي في الغرب من المواقف النظرية في اعداد دراسات اكثر تفصيلا لاعمال كتاب معينين ولتقاليد ادبية وطنية. وما من شك في ان العام 1988، وفيه منح نجيب محفوظ جائزة نوبل للاداب، انما يمثل حدثا تاريخيا ضمن نطاق التبادل الثقافي الذي يعبر عنه ضمناً كتاب باللغة الانكليزية عن الرواية العربية كهذا الكتاب وذلك لسببين اثنين على الاقل، فمنح هذه الجائزة وجّه انظار جمهور عالمي اوسع نطاقا من أي وقت مضى الى تقاليد روائية عربية خاصة والى من يمثل هذه التقاليد وبذا اصبح مترجمو اعمال روائيين عرب آخرين اكثر قدرة على اختبار مدى تقبل جمهور القراء لأمثلة اخرى من القصة من منطقة وثقافة كانتا تعتبران على أنهما مثالان لما يبدو غريباً جدا وغير مألوف، بل ويعتبر معاديا في كثير من الاحيان. وقد بدأت الجهات التي تنشر مجموعات قصصية عالمية تضم نماذج من القصص العربية المعاصرة في هذه المجموعات الموجهة حتى لطلاب المدارس بالاضافة الى جمهور القراء عموماً. وعلى الرغم من أن الوقت لم يزل مبكرا لتقييم الآثار البعيدة المدى لهذه التطورات الطارئة على استقبال الاعمال القصصية العربية والمكانة التي تحتلها هذه الاعمال ضمن محيط الأدب العالمي إلا انه من الممكن الافتراض على أية حال بأن أي انتقال من مرحلة الصفر المطلق إنما يمثل تحسنا ضمن نطاق تفهم الثقافات المتبادلة ويوحي الاستقبال الاول لأعمال نجيب محفوظ - ولأعمال عبدالرحمن منيف بدرجة أقل - بأن ادعاء الناشرين ب"عدم وجود سوق للرواية العربية" كان مجرد تبرير مبني على موقف خاطئ، وهو ما كان يخطر ببال الكثيرين من المتخصصين والباحثين والمستشرقين الغربيين من قبل. أما الأمر الثاني فهو أن منح جائزة نوبل الى محفوظ جاء بمثابة تأكيد، ولو أنه متأخر لعقود عدة من الزمن، بأن روايات نجيب مفحوظ التي صدرت في الاربعينات والخمسينات والستينات يمكن اعتبارها ممثلة لنهاية مرحلة البدايات الروائية العربية، وتأسيساً لقاعدة صلبة تمكنت الأجيال الجديدة من الكتاب أن تبني عليها تقاليد أدبية راسخة هي التي نستمتع بها هذه الأيام.