قالت الولاياتالمتحدةوبريطانيا باستمرار ان المحاكم فيهما تستطيع توفير محاكمة عادلة للمتهمين الليبيين في انفجار طائرة الركاب الأميركية فوق لوكربي سنة 1988، ولكن هل هذا صحيح؟ الولاياتالمتحدةوبريطانيا بلدان ديموقراطيان ولا جدال ليت أي بلد عربي مثل أي منهما، والمحاكم فيهما ذات تقاليد عريقة راسخة ولا جدال أيضاً، إلا أنني شاركت قبل يومين في برنامج تلفزيوني تكلّم فيه العقيد معمر القذافي، وعرضتُ أمثلة ثابتة تدعم موقف ليبيا في عدم ارسال المتهمين الى الولاياتالمتحدة أو بريطانيا للمحاكمة، وهو موقف أيدته محكمة العدل الدولية في لاهاي أخيراً. بالنسبة الى الولاياتالمتحدة فهناك تقليد معروف هو أنه إذا لم تضمن حقوق المتهم كاملة حيث ارتكبت الجريمة، فإنه ينقل الى مكان آخر لمحاكمته. وأشهر مثل على ذلك، وهو أيضاً آخر مثل، نقل تيموثي ماكفي، المتهم في انفجار اوكلاهوما سيتي، الى دنفر حيث حوكم ودين بالجريمة. فإذا كان أميركي بروتستانتي أشقر بعينين زرقاوين لا يحظى بمحاكمة عادلة في بلده، فكيف يتوقع ذلك لليبي مسلم أسمر؟ ومثل آخر، فقد شاهد العالم كله على التلفزيون شريطاً عن أربعة شرطيين من البيض وهم يعتدون بالضرب على سائق سيارة أسود هو رودني كنغ، في لوس انجليس. وعندما حوكم الشرطيون أمام محلفين كلهم من البيض مثلهم برئوا. وقامت أعمال شغب في لوس انجليس أوقعت خسائر ببليون دولار. وأعيدت محاكمة الشرطيين الأربعة أمام محلفين مختلطين فدينوا بالاعتداء على كنغ. والولاياتالمتحدة تقدم لنا هذه الأيام مثلاً غريباً عن سير القضاء، فهناك صموئيل شاينباين، وهذا ولد يهودي أميركي في السابعة عشرة اتهم بقتل الفريدو انريك تيلو، وكان في التاسعة عشرة، وتقطيع أوصاله في جريمة قرب العاصمة واشنطن هزّت المجتمع الأميركي. وفرّ شاينباين الى اسرائيل، وادعى انه اسرائيلي، فالقانون في اسرائيل يمنع تسليم اسرائيلي متهم الى أي بلد آخر. وقد عرض محامي شاينباين أن يعود موكله الى الولاياتالمتحدة للمحاكمة فإذا دين بتلك الجريمة البشعة يعاد الى اسرائيل لتنفيذ مدة العقوبة فيها. وتتزاحم الأسئلة، فلماذا لا تسلّم اسرائيل أي مواطن، ويفرض على ليبيا أن تسلّم مواطنيها؟ وماذا سيحدث لو أن ليبيا قبلت محاكمة المتهمين في الخارج، شرط تنفيذهما أي حكم بحقهما في ليبيا؟ وكيف يمكن أن يحظى ليبيّان، تقول عنهما وسائط الإعلام الأميركية كافة أنهما مجرمان، وارهابيان، بمحاكمة عادلة في أميركا؟ ولو أن عمر عبدالرحمن وأحمد رمزي يوسف ورفاقهما حوكموا خارج نيويورك أمام قاضٍ غير يهودي هل كانوا دينوا بهذه السرعة؟ بالنسبة الى بريطانيا، وهي أم القضاء العادل، فهناك بادي نيكولز الذي أفرج عنه في أول هذا الشهر بعد أن سجن 23 سنة في جريمة تبيّن أخيراً أنها لم تقع. وهناك محمود حسين ماتا الذي أعدم سنة 1952 بتهمة قتل بقّال، وأصدرت المحكمة العليا في 25 من الشهر الماضي، أي بعد أكثر من 45 سنة من إعدامه، قراراً بتبرئته. وأهم من هذين المثلين قضايا سياسية اكتفي منها هنا ب "ستة برمنغهام" و"أربعة غيلفورد"، ففي القضية الأولى دين ستة من أنصار الجيش الجمهوري الايرلندي بتفجير بار في مدينة برمنغهام قتل فيه 21 شخصاً، وحكم عليهم بالسجن مدى الحياة. إلا أنهم بعد قضاء 17 سنة في السجن افرج عنهم في الرابع من آذار مارس سنة 1991 بعد ان تبيّن أن اعترافاتهم انتزعت منهم تحت الضرب والتهديد. أما في القضية الثانية فحكم على أربعة في غيلفورد بالسجن المؤبد سنة 1974، ثم افرجت عنهم محكمة الاستئناف سنة 1989، أي بعد أكثر من 14 سنة من سجنهم لأن الأدلة ضدهم لم تكن كافية أو كانت مزوّرة. الواقع ان عندي ألف معلومة أخرى عن تقصير القضاء في الولاياتالمتحدةوبريطانيا، إلا أنني اعتبرت ما سبق كافياً، ورحب العقيد القذافي بما تطوعت لتقديمه من معلومات، فسألته: مع اخطاء أميركا وبريطانيا القضائية وخطاياهما بحقكم، ألا ترون ان السياسة الخارجية الليبية مكّنت الأعداء من الوصول اليكم وفرض حصار على الشعب الليبي، وكيف تبررون هذه السياسة بما نرى من نتائجها؟ واختار العقيد القذافي ألا يرد على السؤال، وانما تحدث عن صعوبة ايجاد محلفين غير منحازين في أميركا، ثم توقع بعد قرار محكمة العدل الدولية ان تُرفع العقوبات عن ليبيا أو تُعلّق. وأتمنى أن ترفع العقوبات أمس، إلا أنني أقول للعقيد القذافي انها لن تُرفع، فالولاياتالمتحدةوبريطانيا تملكان الفيتو في مجلس الأمن وستنقضان أي اقتراح لرفعها. وعندي هنا مثل مشهور، فالولاياتالمتحدة استصدرت في الخمسينات قراراً من مجلس الأمن بالتدخل في كوريا بعد أن انسحب المندوب السوفياتي من الجلسة، ولا يزال الجنود الأميركيون في كوريا الجنوبية يعملون تحت القبعات الزرقاء حتى اليوم لأن المندوب السوفياتي في حينه، والروسي الآن، لا يستطيع تقديم مشروع قرار لالغاء القرار القديم من دون أن تمارس الولاياتالمتحدة الفيتو ضده. وهكذا فالعقوبات على ليبيا لن تُرفع الى أن تُحل القضية بشكل أو بآخر، ولا يكفي هنا أن ليبيا على حق، وأن محكمة العدل الدولية تقول ذلك، فقد تعلّمنا في هذا العصر ان طريق الجبّانة معبّدة بأصحاب القضايا المحقة.