مع اقتراب موعد المحادثات التي دعا اليها رئىس الوزراء طوني بلير في لندن في 4 ايار مايو، لتحريك عملية السلام في الشرق الاوسط، ربما كان من المفيد ان نلقي نظرة على مساعي الديبلوماسية البريطانية خلال الاسابيع القليلة الماضية وما واجهته من مصاعب. ولا بد هنا من التطرق الى تلك الزيارة المثيرة التي قام بها وزير الخارجية البريطاني روبن كوك الى تلة جبل ابو غنيم في ضواحي القدس. حظيت تلك الزيارة باهتمام اعلامي واسع، بينما تعالت في بريطانيا أصوات تهاجم كوك بقوة. وفي مقال شديد اللهجة نشرته صحيفة "دايلي تلغراف" في 20 آذار مارس الماضي، قال ستيفن غلوفر ان "زيارته الكارثية الى اسرائيل هي الاخيرة ضمن كوارث متتالية". الغريب في الامر ان مسؤولية الازمة التي شهدتها العلاقات الانكلو - اسرائيلية اُلقيت على وزير الخارجية البريطاني. فيما جرى تجاهل حقيقة ان رئىس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو كان هيّأ بعناية كميناً لكوك. معروف ان ديبلوماسيين من مستوى متوسط في وزارة الخارجية البريطانية، ممن يتعاملون يومياً مع العالم العربي، عقدوا اجتماعاً خاصاً قبل بضعة اشهر للبحث في الخطوات التي يمكن القيام بها للحد من الأذى الذي لحق بعلاقات بريطانيا مع 21 دولة عربية نتيجة الموقف الذي تبنته حكومة العمال الجديدة. ويكمن في جوهر هذا الموقف تصميم رئيس الوزراء بلير على استثمار علاقته الشخصية مع الرئىس بيل كلينتون. وضمن الامثلة على عدم الاكتراث بآراء العرب في بريطانيا، يكفي ان اشير الى خطاب ديريك فاتشيت امام غرفة التجارة العربية - البريطانية، بصفته وزير دولة للشؤون الخارجية، في 3 كانون الاول ديسمبر الماضي الذي أثار انزعاج سامعيه، وهم من نخبة رجال الاعمال والديبلوماسيين، وكلمة بلير الغريبة والمؤسفة امام جمعية اصدقاء اسرائيل في 9 كانون الاول ديسمبر الماضي. قاد هذا الاجتماع المغلق الداخلي الى الكلمة الممتازة التي القاها كوك امام الرابطة الانكلو - عربية في 5 آذار مارس الماضي. وكانت وزارة الخارجية لمحت قبل ذلك الى انها ستكون الكلمة الاكثر اهمية على صعيد الشرق الاوسط التي تلقى من وزير خارجية منذ سنتين. وينبغي ألا يفوتنا ان البلاغ الصحافي الذي اصدرته الوزارة ذكر في اول سطوره ان "روبن كوك اعاد اليوم تدشين العلاقة بين بريطانيا والعالم العربي في كلمة امام الرابطة الانكلو - عربية". واشار في كلمته الى اللقاء مع زملائه في الاتحاد الاوروبي قبل يوم من مغادرته متوجهاً الى الشرق الاوسط "لأنقل الى زعمائه افكارنا في شأن كسر الجمود". وجاءت زيارة وزير الخارجية الى جبل ابو غنيم في اعقاب زيارة مماثلة قام بها فاتشيت في ايار مايو الماضي وانتهت من دون ان تثير اي اهتمام يُذكر. وكان وزير يوناني قام ايضاً بزيارة رسمية الى موقع هذه المستوطنة الجديدة. لم يكن كوك يريد الاطلاع على الارض وبشكل مباشر على ما تنوي السلطات الاسرائيلية القيام به فحسب، بل كان ينوي ايضاً التعبير عن استياء بريطانيا واوروبا من هذه المستوطنة غير الشرعية بالذات التي اتضح انها تمثل عقبة رئىسية في وجه عملية السلام. وحصلت وزارة الخارجية على موافقة السفارة الاسرائيلية في لندن على برنامج الوزير قبل ما لا يقل عن اسبوعين من الزيارة. وكان موظفو الوزارة اجروا تعديلات متكررة على تفاصيل البرنامج استجابة لاعتراضات من نظرائهم الاسرائيليين - الذين طالبوا عندذاك بمزيد من التنازلات. ولم يوجه نتانياهو خلال رحلته الاخيرة الى لندن اي انتقاد علني الى زيارة كوك المرتقبة الى جبل ابو غنيم. وهناك ما يكفي من الادلة على ان نتانياهو قرر، لأسباب تتعلق في جانب منها بالسياسة الداخلية، ان يثير اعتراضاته بطريقة علنية وبشكل غير ديبلوماسي تماماً. وكما لمحت صحيفة "ذي تايمز" في 19 اذار مارس الماضي فإن "مواجهة مع الاتحاد الاوروبي، خصوصاً مع البريطانيين، سيكون لها وقع جيد لدى الناخبين وهم يستعيدون الآن الذكرى الخمسين لكفاح اسرائيل السري ضد سلطة الانتداب البريطانية". هكذا، اُلغي حفل عشاء رسمي ولم يحضر اي مسؤول عند مغادرة وزير الخارجية البريطاني اسرائيل. ويُعتبر هذا الموقف، على الصعيد الديبلوماسي، بمثابة اهانة خطيرة لوزير خارجية يمثل رئاسة الاتحاد الاوروبي. ولا يتعلق هذا الخلاف بين المملكة المتحدة واسرائيل في جوهره بحساسية اسرائيل المفرطة ازاء انشطتها اللاشرعية في القدس فحسب، بل يدور ايضاً حول تصميم نتانياهو على منع اي محاولة من جانب الاتحاد الاوروبي للقيام بدور في عملية سلام في المستقبل. ويبدو ان الطريقة المنحازة تماماً والضعيفة وغير الفاعلة التي تعتمدها ادارة كلينتون للنهوض بمسؤولياتها الدولية تحظى بقبول اكبر من جانب نتانياهو الذي لا يؤيد مبادىء اتفاق اوسلو والذي اتسمت ولايته بالإصرار على تجنب التنازل عن الاراضي العربية المحتلة، إن في الضفة الغربية او مرتفعات الجولان. ان التصدي لاساليب التهديد والتخويف التي يتبعها نتانياهو والحؤول دون ان تؤتي ثمارها اصبح شيئاً بالغ الاهمية. ولم يعد التأييد الاوروبي لدور اميركي كافياً - يجب ان يكون لأوروبا ايضاً دورها الخاص سواء شاء ذلك نتانياهو أم أبى.