الى وضاح شرارة 1 - الأحد، 15/3/1998 "مصادفة غريبة"، أتمتم لنفسي وأنا أجرجر الحقيبة الثقيلة. في الخامس عشر من آذار مارس من عام 1988 دخلت لبنان وها أنا أغادره في اليوم نفسه ولكن بعد عقد من الزمن. كان الثلج يتساقط في ذلك الوقت وها هو الجو، اليوم، ينذر بما يشبه الثلج. حين اتصلت بالصديق البيروتي، على الهاتف، وأخبرته عن وصولي سألني ان أمكث في المكان الذي أنا فيه كي يأتي ليأخذني. "أين نحن؟". سألت الرجل الذي قرب الهاتف، "فندق البوريفاج"، قال. دبّ الرعب في أوصال صديقي. سألته "ما بكَ"، بلع ريقه وأقفل الخط. الآن تغيرت الأمور. صار البوريفاج، كباقي الفنادق، يشع بالأضواء ويستقبل السائحين الحاملين حقائب ستمتلئ بأشياء بيروت في أشهر التسوق .الساعة الثانية عشرة الا الربع. ستقلع الطائرة بعد قليل. سأغادر بيروت. هل سأراها ثانيةً؟ حين جئتها أول مرة، لم أبقَ فيها طويلاً. ذهبت الى صيدا وأصبحت فدائياً. كنت أضيع وسط بساتين البرتقال واللوز وكانت البندقية تحتك بأغصان الأشجار فتعلق وريقات خضراء في ماسورتها. "انتشار، طيران"، كان الضابط المسؤول يصرخ بنا فنهرع نتشتت ونتمدد في السواقي الممتلئة بأغصان يابسة. كان صوت الطائرات الاسرائيلية يملأ الهواء من حولنا. "انها عاصفة ثلجية"، تخبرني رشا على الهاتف. رحلة الطائرة تتأخر ساعتين. 2 - الاثنين 16/3/1998 تسير الطائرة على المدرج الطويل كما لو انها نسيت ان تقلع. أتذكر الممر الطويل لبيت بسام حجار في صيدا. حين يفتح أحدهم الباب يتحتم عليك ان تجتاز ذلك "المدرج" فتسمع صوت أقدامك على البلاط وتشعر بالخجل. يجلس بسام وراء الطاولة بكامل اناقته، يكتب، يقرأ، يترجم "السيد بالمومار" من خلفه تتدلى الستائر فترد الخارج وضياءه. هو يدخن الغولواز الأزرق ورينيه تدخن الأحمر. "لكن كيف تعلمت اللغة العربية؟" تسألني رينيه ببراءة وهي تنطق الراء غيناً. "لقد قرأت القرآن في الصغر"، أقول ذلك وأنا أخفي حقيقي كوني يزيدياً. "وهل الأكغاد الأكراد مسلمون؟"، طبعاً، طبعاً، غالبيتهم من المسلمين، اتطلع حولي وأرى أشياء البيت الصغيرة والأنيقة. كلما أقرأ قصيدة أو نصّاً لبسام أو لرينيه أتذكر ذلك البيت الوديع في شارع دلاّعة. تحط الطائرة في مطار شيبول في أمستردام. أهي مصادفة أيضاً ان أعبر من امستردام حيث يرقد في أحد مستشفياتها صديقي اقبال علي زاهر الذي أذهل شوقي أبي شقرا بنصه النقدي عن ت. س. اليوت؟ كنا معاً، اقبال وأنا، في شرقي صيدا نحرس محاور القتال في البيوت الخربة في عين المير ولبعا وكفر جرّة. حين قال المسؤول الفلسطيني ان الأكراد يستحقون ما يفعل بهم صدام حسين تركنا أسلحتنا وغادرنا الموقع الى بيروت. أعبر ممراً مسقوفاً طويلاً الى الطائرة التي ستحملني الى أوسلو. "الحياة ممرات مسقوفة"، أقول لنفسي. ماذا فعلت في بيروت هذه السنين؟ لا شيء. أقول وأنا أحدق في السماء الحبلى بالغيوم. دخلت لبنان محملاً بالطوبى والمشاريع أنوء تحت ثقل ماركسية صارمة، وأخرج من لبنان خفيفاً تاركاً تلك الأشياء على الروشة. علمتني بيروت ان لا أطارد الأوهام. "من أين أنت؟" سألني الشرطي اللبناني حين أوقفني على حاجز أمني: "من كردستان". "وماذا جئت تفعل هنا؟". لم أجد جواباً ولكني قلت بعفوية: "جئت أشارك الفلسطينيين كفاحهم". حدجني الشرطي بقسوة وقال: "ولماذا لم توفر كفاحك لكردستانك العظيمة؟". عظمة البحر تبدو بجلاء من الأعالي. تبدو المياه مثل سحر غامض. والغيوم التي تحجب زرقة البحر مثل لحاف من القطن مده أحدهم ليخفي إغراء البحر للناظر من فوق. تحاول الطائرة ان تهبط في مطار فورنبو فتبدو بيوت أوسلو ذات القرميد الأحمر مثل حبّات من الرمان تناثرت على صفيحة مغطاة بالثلج. الثلج في كل مكان. والأشجار التي تؤلف جزراً خضراء وسط البياض تتسلق الهواء لتبلغ السماء. أوسلو تغسل قدمها اليمنى في البحر أما قدمها اليسرى فقد ضُمدت وضُمّت الى بر السويد. 3 - الثلثاء 17/3/1998 "كيف ذلك؟"، "كيف ماذا؟" "التحقيق الذي انجزوه معك في بيروت يقول انك ناشط فلسطيني وها أنت تحمل جواز سفر لبنانياً جواز مرور لمرة واحدة وتقول المهنة انك صحافي تكتب باللغة العربية وانت تقول انك كردي، كيف ذلك بحق الجيسوس كريست؟". "أنا كلَّ ذلك". "J See"، يقول المسؤول النروجي وهو يهز رأسه. انتظر وحيداً في غرفة اقفل عليّ بابها. انظر حولي وأرى جرائد مبعثرة على كرسي أو اثنين. "انها جرائد صربية"، أقول ذلك لنفسي اذ أشاهد صوراً للناشطين الصربيين في كل صفحة يرفعون شارات النصر في كوسوفو. حين يطلب مندوب دائرة اللاجئين ان يصطحبني من المطار أتذكر، من جديد، لبنان وحروبه. كان الكل يصطحب الكل في محيط من الخوف والتحفز. من الذي كتب أجمل نص عن الحرب اللبنانية؟ أسأل صديقي اللبناني. "كثيرون كتبوا. ولكن النصوص الجميلة نادرة. روبرت فيسك، أظنه كتب أشياء جميلة" لكن عباس بيضون كتب نصاً ملفتاً. نصه حميمي ووجداني وفردي. اسلوبه ممتع. لم أكن أعرف كثيراً عن الأدب اللبناني حين جئت قبل عشر سنين. كنت قرأت بعضاً من جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وآخرين قدماء. حين قرأت "أيام زائدة" لحسن داوود أحسست بالدهشة لفتت نظري طريقته الخاصة في بناء العبارة وتشكيل المشهد. سرده متقن، محبوك ببطء وأناة، عباراته دقيقة وموحية. عمله أشبه بالمنمنمات الفارسية. تجد نفسك أمام لوحة كاملة صارخة بألوانها مؤلفة من جزيئات صغيرة ومتناثرة في ثنايا النص. كان حسن داوود اكتشافاً لي في بيروت: "وكيف كان لون حقيبتك؟" يسألني الموظف في المطار "رصاصياً" أجيب ببرود فاقداً الأمل في العثور على الحقيبة. لقد طارت، اذن، روايات حسن داوود التي جلبتها معي. 4 - الأربعاء 17/3/1998 انهض من السرير وأحاول فتح عيني بصعوبة. انظر من النافذة لأرى كل شيء في الخارج مغطى بالثلج والغيوم. الأشياء ضائعة، أتلمس حولي باحثاً عن نظاراتي. من دون نظارات لا أبصر بوضوح. كل شيء يلتف بالضباب والرمادي سيد الألوان. تحط طيور غريبة على النافذة. لا أميّز بين الطيور كثيراً. أعرف النورس بزعيقه وصدره الأبيض. لكن هذه الطيور رمادية مثل لون الطقس. أوسلو كلها رمادية: شوارعها، تماثيلها، أشجارها، حدائقها. البرد يتغلغل الى النخاع. عليك ارتداء كل شيء يقع تحت يديك. "حين أزورك بعد شهر ستكون قد تعلمت التزلج على الثلج والجليد". قال لي لقمان سليم. آه، لن أتعلم هذا ولو قُطع رأسي. لقمان اجبرني على تذوق طعم الصداقة الفعلية. رفيق الأوقات الحرجة والمنشرحة معاً. "الحياة لعبة" هذا شعاره الذي لا يبوح به. لكنه يتعامل مع الحياة مثل قطة فارسية، يلاعبها حيناً ويهملها حيناً. شخص سخي، حنون، مرح، ذكي. ثم فجأة ينكمش على نفسه، مثل ولد طائش كسر ألعابه. ورشا الأمير؟ أميرة ناشرات بيروت. الفتاة الأروستقراطية، المهذبة، المثقفة، الرقيقة مثل ضوء القمر. ومع ذلك حين تصافحها تشد على يدك مثل امرأة من الطوارق. طرقات خفيفة على الباب وأفتح لزمردة الفتاة الكردية الايرانية، التي تصحبني الى السوق. سأشتري ما يلزم من الأشياء التي تجعلني احس نفسي كائناً يعيش. 5 - الخميس 18/3/1998 "هذا هو البيت الذي جرت فيه المباحثات بين الفلسطينيين والاسرائيليين". يقول صديقي كوران حاجو وهو يشير الى بناية بيضاء نظيفة في شارع يطل على حديقة جميلة. أتفحص البناية بعناية علني أجد فيها شيئاً يفسر فشل التسوية السلمية التي عقدت جلساتها خلف هذه النوافذ البهية. عريضة هي شوارع أوسلو، تمشي محاذراً الاصطدام بالحمام الذي يتنقل بين الأرجل بثقة بالغة. حتى الطيور هنا لا تخاف شيئاً. "هذا هو قصر الملك"، يقول كوران. "أي ملك؟" أسأل في حيرة. "ملك النروج". و"لكن!". أنظر حوالي متطلعاً مندهشاً. لا مدافع، لا دبابات، بل لا حراس مسلحين. أمام القصر فسحة واسعة تحاذي بستاناً أخضر يجلس فيه الناس. الى الجانب الآخر حديقة كبيرة يتقافز فيها الأولاد ويتقاذفون الثلج. "في الصيف يندلق اللحم الأبيض على الكراسي مثل ثلج ذائب"، يقول كوران ضاحكاً. "حقاً!" أحاول ان أضحك بدوري. 6 - الجمعة 19/3/1998 ساندفيكا. يا للبلدة الجميلة، تحاصرها الجبال من جهتين، وتفتح الجهتين الأخريين للسهل والبحر. يتقاطر الناس من على جسر البلدة كأنهم في عيد. أهل النروج فرحون دوماً، أو هكذا يلوحون لي. هم متفائلون بلا شك. ولماذا لا يكونون كذلك؟ ساندفيكا تشبه صيدا من دون مخيم عين الحلوة. كنا نسير في شوارع المخيم، حاملين بنادقنا على أكتافنا، مثل امراءٍ عائدين من حفلة صيد. قال لي الشرطي اللبناني: "أنتم الأجانب سبب كل هذه الفوضى والخراب في لبنان". ثم ألقى عليّ محاضرة في الاستقلال والسيادة وعدم التدخل. احمر وجهي من الخجل وشعرت كما لو انني أنا من أشعل الحرب الأهلية في لبنان. "عودوا الى بلادكم يا عمي، أليست لديكم بلاد تقعدون فيها على أقفيتكم؟". نظر في عينيّ للحظات ثم أدار وجهه وقال: "شو هيدا؟". تركت المنظمات الفلسطينية وخلعت عن صدري جعبة الماركسية وقذفتها بعيداً كما يقذف المرء شيئاً ملوثاً بالطاعون. كان سمير اليوسف يحمل مجلة "الحرية" بإصبعيه ويمدّها بعيداً عنه كما لو كانت خنفساء ميتة. ينتابني الضحك. يحدق زوجان نروجيان فيّ بذهول. أسرع لأعبر جسر سانديكا الى محطة الباص. 7 - السبت 20/3/1998 شارع كارل جوهانس في أوسلو مثل شارع الحمراء في بيروت. طويل، مستقيم يخترق القسم الغربي من المدينة من الشرق الى الغرب. تتناثر على جانبيه المخازن والمطاعم والمقاهي. ومكتبة نورلي الضخمة قرينة مكتبة انطوان. يتجول الناس، جيئة وذهاباً، كأن لا عمل لهم. الناس في أوسلو يعيشون في رخاء. ورغم انعدام مظاهر البذخ والترف العالية فإن الغنى هو سمة العيش. مع هذا فقد صادفت متسولاً في شارع كارل جوهانس. خاطبني بالنروجية. أجبته بالانكليزية قال: "هل تعتقد انك تستطيع ان تساعدني بقليل من المال؟"، قلت له: "لا أعتقد ذلك". غداً عيد النوروز. سيحتفل به الأكراد مثل كل عام. في بيروت سيسرع حازم الأمين وديانا مقلد الى مكان الحفلة ليكتبا تقريراً جميلاً. ستظهر ديانا على شاشة "المستقبل" لتقول: "العيد القومي للأكراد…". هناك مجموعة من الأكراد ستحتفل به في أوسلو. أنا لن أذهب. سيقف أحدهم ويلقي على مسامعنا محاضرة في العقل الجمعي للأكراد. أي عقل هذا الذي يقدس زعماء يقتلون الناس صباحاً ويعدون نقود الجمارك مساءً؟ "دير بالك عَ حالك". قال وضاح حين صافحته مودعاً. سأضع القهوة على النار ثم أحدّق في السماء الرمادية. يجب ان أدير بالي عَ حالي.