لم تنفع ضوابط التنسيق التي حددها الرئيس حافظ الأسد في تقريب وجهات النظر بين رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري ووزير الخارجية فارس بويز. والشاهد على ذلك ان تعاونهما لم يعمر أكثر من رحلة واحدة اكتشف بعدها الوزير بويز ان استقلاليته في أداء المهمة الديبلوماسية يمكن ان تقيه عثرات المشاركة في طريق وعر إعتاد ان يسلكه وحيداً. اللقاء المؤجل مع كوفي أنان في باريس كان اختباراً للتباين الفاصل بين الحريري وبويز، وشهادة عملية على وجود هوة تحول دون عملهما المشترك، خصوصاً ان الاعتبارات المحلية والخارجية التي تفرض على وزير الخارجية عدم اثارة شكوك سورية حول أدائه، تعفي رئيس الحكومة من هذه التحفظات. وعليه يضطر الوزير بويز الى تضييق هامش التحرك الديبلوماسي لأنه لا يريد ارتكاب أي خطأ سياسي في مرحلة الاعداد لطبخة رئاسة الجمهورية... ولأنه مطمئن الى صحة تفسيره للايحاءات السورية الغامضة. وبما ان الحريري لعب دوراً مؤثراً في كسب موقف الرئيس جاك شيراك لصالح المصلحة السورية في لبنان، فقد منحه هذا الدور درجة متميزة في العلاقات تسمح له بتحرك أوسع من دون ان يثير ريبة دمشق أو مخاوفها. ويعترف المسؤولون الفرنسيون بأن المحادثات التي أجراها في باريس عبدالحليم خدام وفاروق الشرع نجحت في إقناع جاك شيراك بالتراجع عن دعم القرار 425 حسب الصيغة الملغومة التي عرضها عليه الوزير الاسرائيلي موردخاي، وهي صيغة مختلفة عن ديباجة القرار تحمست لها فرنسا في بادئ الأمر، ووعدت بإرسال قوة اضافية تساند قوة حفظ السلام في الجنوب. ولكن المحاذير التي بيّنها خدام والشرع أظهرت للفرنسيين مخاطر الانسحاب المشروط بضمانات أمنية لأنه يلغي ورقة المقاومة اللبنانية التي تستعملها دمشق كأداة ضغط على اسرائيل. ويتردد في باريس ان سورية قدّرت أهمية التراجع الفرنسي ووعدت بمشاركة الرئيس شيراك في قرار انتقاء رئيس الجمهورية اللبنانية المقبل. وهو قرار منحته سورية لواشنطن في دورة سابقة، أي عندما طرح مورفي اسم مخايل الضاهر. ويبدو ان الانعطاف السوري باتجاه فرنسا وأوروبا سيأخذ بعداً جديداً بعد الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الأسد الى باريس ربما قبل شهر تشرين الأول اكتوبر. ويُستدل من مراجعة التطورات السياسية التي رافقت اعلان قبول اسرائيل تنفيذ القرار 425 مطلع آذار مارس الماضي، أن إلغاء اللقاء مع كوفي أنان في باريس كان مطلباً سورياً. والسبب ان أمين عام الأممالمتحدة فتح باب المراجعة عندما أخضع القرار للاجتهاد. قال في تصريحه: "إن متغيرات كثيرة طرأت على أرض الواقع منذ صدور هذا القرار عام 1978". أي انه لم يحسم رأيه في قرار حسمه مجلس الأمن، موحياً ان هناك تفسيرات مختلفة. ولقد استند في تحليله الى التطورات المستجدة على أرض الواقع، ومنها كتاب سلفه خافيير بيريز دو كويار الموجه الى مجلس الأمن عام 1984 وفيه يطالب بترتيبات أمنية تسبق الانسحاب الاسرائيلي. وفسر الأمين العام السابق الدوافع التي أملت عليه هذا الطلب بالقول ان مجلس الأمن عام 1978 خاطب عبر القرار 425 اسرائيل ولبنان فقط، متحاشياً الخوض في النزاعات القائمة بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من حيث شرعية وجودها في لبنان. ومن المفروض ان يخاطب القرار الطرف المشترك عملياً في القتال والمسبب للاجتياح، أي الطرف الفلسطيني. ولقد أشار اليه كورت فالدهايم في الفقرة الرابعة من القرار 426 عندما قسم التدابير الى قسمين: الأول منها يتعلق بالأطراف المشتبكة في القتال. والثاني، يتعلق بقوات الأممالمتحدة والدولة اللبنانية المشرفين على تنفيذ القرار. وعندما طلب دو كويار من مجلس الأمن الحصول على ترتيبات أمنية مسبقة كان يعني ان الدولة اللبنانية عام 1984 لم تعد رهينة المقاومة الفلسطينية التي أخرجت من الجنوب، وانه من المفترض ان تكون المقاومة الجديدة منسجمة مع إرادة السلطة المطالبة بتحرير الجزء المحتل. التغيير الآخر الذي لمح اليه كوفي انان يتعلق بمشاركة لبنان في مؤتمر مدريد خريف 1991 وبحرص وزير الخارجية فارس بويز على ضرورة تطبيق القرار 425، معتبراً انه القاعدة الشرعية التي دخل لبنان المفاوضات على أساسها. وكان هذا هو المطلب المركزي الذي كرره السفير سهيل شماس خلال الجولات الاثنتي عشرة من المفاوضات مع أوري لوبراني الرافض الاعتراف بالقرار. يقول نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام: "ان القرار 425 يعالج الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب المحتل لا مسألة السلام بين البلدين. إن الشروط الاسرائيلية تجعل من القرار أمراً آخر. فالقرار طلب من اسرائيل الانسحاب الفوري الى ما وراء الحدود الدولية ولم يضع شرطاً على لبنان". ثم تساءل: "إن الاختبار الوحيد للتأكد من رغبة اسرائيل في السلام هو التخلي عن سياسة التوسع والتهديد وقبول استئناف المفاوضات على المسار السوري من حيث توقفت، أي منذ تعهد رابين للادارة الاميركية بالانسحاب الكامل من الجولان"! في التفسير الذي قدمه فالدهايم للقرار 425 قال: "ان الديباجة تضمنت نظرة مجلس الأمن الى الموقف في جنوبلبنان معتبرة انه مثير للقلق على السلم الدولي. كما اعتبرته معرقلاً لإقرار السلام العادل في المنطقة". ومعنى هذا ان ديباجة القرار 425 ربطت بين الموقف المتفجر في جنوبلبنان والجهود الرامية لتحقيق التسوية المنشودة في القرار 242. لهذا علق الوزير موردخاي على هذا الموضوع بأن القرار 425 لن يكون بديلاً للقرار 242، على اعتبار انه لا يتحدث عن التسوية النهائية الشاملة التي قد تستأنف من خلال المفاوضات مع السوريين. كتب أوري لوبراني مقالاً في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الشهر الماضي يتحدث فيه عن آلية تنفيذ القرار 425، مدعياً ان التدابير التي طلبها مجلس الأمن هي كلٌ لا يتجزأ لأنه من الصعب تنفيذ واحد منها بمعزل عن الآخر. ثم عرض البنود الأربعة التي يتألف منها القرار وهي: كف اسرائيل عن عملياتها العسكرية، الانسحاب من الأراضي التي اجتاحتها، بسط سيادة لبنان على أراضيه واستعادة النظام والأمن فيه، وتشكيل قوات طوارئ دولية لتنفيذ القرار. ويتبين من تحليل نصوص القرار 425 ان الديباجة الأولى تشير الى الشكويين، اللبنانية والاسرائيلية، المقدمتين الى المجلس واللتين كانتا السبب في تحركه. والهدف من هذه الاشارة يكمن في رغبة مجلس الأمن في اظهار الموقف في الجنوب، ان كان بالنسبة للهجوم الاسرائيلي، أم بالنسبة للعملية الفدائية التي وقعت قرب تل أبيب قبل الاجتياح. يوم الجمعة الأسبق 8 الجاري قدم نتانياهو تفسيراً لعرضه الخاص حول تنفيذ القرار 425 عبر شبكة التلفزة الاميركية "سي.ان.ان". وقال في رده على الحكومتين اللبنانية والسورية بأنه "عرض جدي جداً ولا يخادع فيه". وأضاف: "إذا كانت الحكومة اللبنانية لا تريد التفاوض مع اسرائيل، ففي الامكان اجراء المفاوضات عبر وسيط يختاره لبنان. واذا شاءت الحكومة اللبنانية ان يكون الوسيط كوفي انان، فإن اسرائيل لا تمانع. بل تريد وعداً بترتيبات أمنية تضمن ان حزب الله لن يهاجم اسرائيل". فور صدور هذا التصريح تحاشى المسؤولون اللبنانيون الاجتماع بكوفي أنان خشية الانجرار الى مأزق، يصعب الخروج منه. خصوصاً ان الأمين العام تحدث عن ظهور متغيرات ومستجدات بعد عشرين سنة، يمكن ان تغريه بإعادة تفسير القرارين 425 و426. وكان الاميركيون طالبوا بضرورة التفسير لإزالة مواطن الغموض والنقص التي ظهرت اثناء التطبيق عملاً بالمادتين 98 و99 من ميثاق الاممالمتحدة. والمؤكد ان نتانياهو كان يعتمد في اقتراحه على وساطة فرنسا المؤيدة دائماً تنفيذ القرار. من هذه الخلفية السياسية المعقدة تطرح تساؤلات كثيرة حول دوافع مخاوف سورية التي عبرت عنها زيارات خدام والشرع لايران وفرنسا، اضافة الى التحركات المكثفة التي قامت بها دمشق عربياً، خصوصاً مع مصر بهدف نسف كل محاولة يمر عبرها الاقتراح الاسرائيلي. وبين هذه الأسئلة ما يتعلق بتجاوز دور الحكومة اللبنانية التي رفضت الطرح الاسرائيلي، ولكن ذلك لم يحصنها تجاه شكوك سورية التي نشطت بشكل غير اعتيادي لتسد كل المنافذ الاقليمية والدولية. والسبب ان دمشق اكتشفت منذ مدة ان هناك فريقاً داخل الادارة الاميركية يسعى الى فصل العلاقات المميزة بين سورية ولبنان كمدخل لعزل دمشق ودفعها الى احياء المفاوضات المتوقفة منذ مطلع عام 1996 من دون شروط مسبقة. ويقود هذا الفريق دنيس روس المختلف مع مارتن انديك حول أولويات التسوية. فالأول يعتبر ان الاتفاق على الجبهة الفلسطينية هو الحل المركزي لكل الحلول، بينما يرى انديك ان سورية تملك العديد من الأوراق الرابحة اقليمياً ولا يجوز تعطيل مسارها. والاختلاف بين النظ رتين أدى الى طرح بالونات اختبار اسرائيلية بدأت بپ"لبنان أولاً"... و"جزين أولا"... وانتهت بالقرار 425 المشروط. وهو قرار ملغوم يقود الى فصل المسار اللبناني عن المسار السوري، ويساعد على عزل سورية وإبقائها خارج حلبة التسوية. ولقد قرأت دمشق في هذا الطرح مدخلاً لعودة النفوذ الاميركي والفرنسي والدولي الى الساحة اللبنانية بعد مرور عشرين سنة، نجحت خلالها في طرد البعض وإقصاء البعض الآخر بما في ذلك نفوذ الفاتيكان لدى المسيحيين. ولقد راعها ان تقف وراء التحرك الاميركي المريب شخصيات اميركية من الحزبين بينها: دنيس روس، ومستشاره آلان ماكوفسكي، ووزير الخارجية الأسبق الكسندر هيغ، ومدير الاستخبارات المركزية السابق جيمس ولسي، والسفير الاميركي السابق في اسرائيل صموئيل لويس، وريتشارد هاس، المستشار في ادارة جورج بوش. هؤلاء جميعاً يدعمون فكرة اخراج لبنان من الحظيرة السورية، وذلك عن طريق دفعه الى تسوية منفردة ومنفصلة عن الجولان. ولكي تلغي دعوة المطالبين بتحرير الجنوب بأي ثمن كان لبنان مستعداً لدفعه اثناء التحاقه بركب مدريد... قامت دمشق بسلسلة تحركات على الساحتين اللبنانية والدولية أظهرت عمق قلقها من احتمال مشاركتها النفوذ في وطن لا تقبل فيه المشاركة. من هنا يمكن تفسير الزيارة الرسمية التي قام بها الشرع للبنان كمظهر من مظاهر الاعتراف باستقلاليته... اضافة الى قرار الافراج عن السجناء المسيحيين، وزيارات قام بها رسميون لبنانيونلدمشق بهدف اختبار مواقفها حيال إغراء الاقتراح الاسرائيلي. في نهاية الكر والفر، ثبت لنتانياهو ان سورية وحدها تملك القرار النهائي في سياسة لبنان الخارجية، وان اجتراح أي موقف يضر بالعلاقات المميزة يصعب تنفيذه. ومعنى هذا ان دمشق نجحت في دفن الاقتراح الاسرائيلي الثالث... وان الجنوب يستعد لاستقبال عمليات ثأرية جديدة لم تتوقف منذ العام 1978.