منذ نجاح القوميتين الالمانية والايطالية في توحيد بلدهما يمكن القول ان الصهيونية اصابت من النجاح ما لم يصبه غيرها من الحركات السياسية. حتى القومية الهندية التي نجحت في التحقق السياسي عام 1947 ترافق نجاحها وفشلها اذ، في المناسبة نفسها انفصلت باكستان عن الهند الأم وفي وقت لاحق انفصلت بنغلاديش عن باكستان. اذن من بين كل الايديولوجيات العائدة الى القرن التاسع عشر، تقدم الصهيونية الايديولوجيا التي توفّر المثال الناجز، بل الوحيد، على نجاح لم يتحقق لسواها. وحتى نقطع الطريق، منذ البداية، في وجه كل سوء فهم، ونبتعد تالياً عن كل احتمال مهاترة جانبية ونافلة، نقول اننا لا نعني بالنجاح هنا حكم قيمة، او ضرباً من ضروب التقريظ، بل نحدده بما هو تمكّن حركة من الحركات من تحقيق ما طرحت على نفسها مهمة تحقيقه. ووفق هذا التحديد، وقياساً بما عداها من ايديولوجيات العصر، تنفرد الصهيونية بكونها الوحيدة التي استطاعت انجاز وعودها واجندتها كاملة، او شبه كاملة، وهي الوحيدة التي لم يصبها الانهيار الذي ألمّ بغيرها. هل من حاجة الى التذكير بما اصاب الايديولوجيات، اشتراكية "علمية" كانت، ام قومية وبعض هذه ادعت بدورها علمية قائمة على بعض الاستيهامات البيولوجية، منذ نحو العقد من الزمن، بل حتى قبل ذلك بكثير، ان نحن استعدنا تجارب الحركات الفاشية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وما آلت كلها اليه من فشل ذريع؟ فالصهيونية، على العكس من كل ذلك، انجزت ما وجدت من اجله. فهي تمكنت من انشاء كيان قومي لليهود، وهو كيان تمكن من ان يحقق اسباب البقاء ومن ان يحوز على تمثيله ليهود العالم سياسياً او قانونياً او معنوياً او كل ذلك مجتمعاً حتى وان لم يفلح في تجمعيهم كلهم، ولا في تجميع اغلبهم، في "ارض الميعاد"، على ما كان طموح ذلك المشروع في بداياته. واذا ما حلا للبعض ان يعد هذا الامر فشلاً، فمثل ذلك الاخفاق بالغ النسبية، لان اسرائيل، وان لم تكن وطناً لكل اليهود فعلاً، الا انها تضطلع بتلك الوظيفة بالقوة، او هي استوت ملاذاً آمنا، مسيجاً بقوة السلاح وببعض اوثق التحالفات الدولية، به يستجيرون ان دعت الضرورة الى ذلك. وقد دلّت موجات الهجرة الاخيرة، باتجاه الدولة العبرية، من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، الى مدى جاذبية ذلك الكيان وراهنيته بعد نصف القرن من انبعاثه، ما يعني ان الحماسة له لم تكن مجرد طفرة تتنزل في بعض اطوار التاريخ لا تتعداها. وحتى ان افترضنا ان اولئك الوافدين لا تحركهم بالضرورة نوازع ايديولوجية وان الامر لا يعدو ان يكون، بالنسبة الى عدد منهم على الاقل، مجرد وجهة هجرة سنحت ولم يسنح سواها، او ان يكون ضرباً من طمع في الحصول على مواطنية دولة تتمتع بالرخاء الاقتصادي وتتوافر فيها الفرص، فقد لا يكون في ذلك ما من شأنه ان ينال من مدى النجاح المذكور الا لماماً. فقد استطاعت الحركة الصهيونية ان تقيم كياناً مكيناً، وان تجترح مجتمعاً، وان تنشئ اقتصاداً متطوراً مزدهراً حديث الاداء، فأصبح كل ذلك من عناصر جاذبية الكيان وهذا من مقومات منعته. وربما لسنا في حاجة الى مزيد من الاسهاب في هذا الصدد. فكل ذلك معلوم. اما السؤال الذي يعنينا هنا، فهو ذلك المتعلق بالاستثناء الصهيوني، اي ذلك الذي مفاده: لماذا تمكنت الحركة الصهيونية من تحقيق النجاح، في حين انهار سواها من باقي الايديولوجيات التي عاصرتها ميلاداً، وتباينت عنها مآلاً، وهذا مع العلم ان صعوباتها فاقت كثيراً صعوبات زميلاتها، نظراً لانطوائها على عملية انتقال سكاني ضخمة، فيما قوميتها لا تتأثر على نحو حاسم بدخول العالم طور ما بعد القوميات؟ مثل هذا السؤال هو من بين ما يتعين التوقف عنده، تحليلاً وسبراً، ان نحن ارادنا تعقّل الواقعة الصهيونية وادراكها، تلك التي لن نضيف في شأنها جديداً ان قلنا ان الجانب العربي قد قصر عن استكناهها قصوراً كبيراً، فاكتفى حيالها بالتنديد، او اكتفى منها بتلقي التبعات والآثار لا يستطيع لها دفعاً. فأين مكمن الفرادة في الايديولوجيا الصهيونية، مقارنة بأيديولوجيات سواها، ولماذا حققت من النجاح ما لم يكن من نصيب غيرها؟ سنتعمد في محاولتنا الاجابة عن هذا السؤال تحديداً، تضييقاً نرتضيه ونسلم به منطلقاً، لاسباب منهجية. فنحن لن نخوض، في هذا المجال، في ما هو صلب خصوصيات الايديولوجية الصهيونية وما يصنع هويتها وتمايزها الحاسم من حيث المحتوى، مكتفين بالتركيز على ما هو مشترك بينها وبين بقية الايديولوجيات التي كانت مماثلة ومعاصرة لها من بعض الاوجه، وان ناصبتها العداء من بعض الاوجه الاخرى. وذلك الاستبعاد للصفات، او للمحتويات، الخاصة بالصهيونية لا يعني، بطبيعة الحال تبخيساً من اهميتها، او استخفافاً بفعلها. فهي، بالتأكيد، مما يحفز على بذل اقصى الجهود التحليلية. الا ان ما نتوخاه هنا يستلزم ضرورة الانطلاق مما يجمع بينها وبين سواها، ومما تلتقي فيه معه، قصد التوصل الى مقاربة العلة التي جعلت نفس ما كان فاعلاً هنا قاصراً هناك، وما تكلل بالنجاح في هذه الحالة، يمنى بالاخفاق في تلك. فلعل الملمح الابرز للايديولوجيات عموماً، وتلك الثقيلة منها على وجه التخصيص التي تقدم نفسها على هيئة منظومات متكاملة متجانسة يجري الانخراط الايماني فيها على اساس من مواصفاتها تلك انها فعل ارادي يتنزل على الواقع لأجل تغييره تغييراً جذرياً، وفق مبادئ وباتجاه مآل حُددا سلفاً. يصح ذلك على الثورة الروسية، تلك التي ارادت اعادة النظر في الواقع الامبراطوري المتخلف لاجتراح مجتمع اشتراكي، او شيوعي غير مسبوق في التاريخ، كما يصح على هذه او تلك من الحركات الثورية القومية التي سعت الى ابتداع نقاء كياني، تزعم في بعض الحالات استعادته من سحيق التاريخ، في حين انها لا تريد الا التنكر الحاد، والقاطع، لواقع هو نتاج لذلك التاريخ في مجراه الفعلي وفي ما آل اليه ملموساً ماثلاً. وهذا يصح، من هذه الزاوية، على الحركة الصهيونية - تلك التي وضعت نصب عينيها جمع يهود الشتات، في شرق اوروبا اساساً، والقطع الجذري مع واقعهم ذاك، من اجل ادراجهم في حركة انبعاث قومي هي التي رأت النور على ارض فلسطين. وفي كل الحالات، تقوم الايديولوجيات على التنكر للواقع القائم جملة وتفصيلاً، او لبعض عناصره، فتسعى حتى الى اجتثاثه بالقوة ان لزم الامر، وهو غالباً ما لزم، لتُحل مكان التاريخ القائم، تاريخاً افتراضياً. وانطلاقاً من الملمح المشترك هذا، والذي نورده بتجريد، ومن دون الدخول في تفاصيل المفاضلة بين مختلف الايديولوجيات، ودونما حكم على الصعيد القيمي على اي منها، يمكننا ان نلاحظ ان محاولات تعنيف الواقع تلك غالباً ما افضت الى الفشل في تحقيق اغراضها، وان الواقع اياه، وهو على ما نعلمه من عناد، قد عاد في نهاية المطاف، الى فرض نفسه على الايديولوجيات واصحابها. بل ان تلك الظاهرة، ربما كانت كونية، بما قد يجعل من الحالة الصهيونية استثناء لافتاً وبالغ الاهمية. فالى ماذا يعود ذلك الاستثناء الصهيوني؟ ربما عاد الامر الى تمايز اساسي انفردت به الحركة الصهيونية عن سواها من الحركات ذات الصفة الايديولوجية، بالمعنى الذي سبق لنا تحديده، هو ذلك المتمثل في كونها لم تكتف فقط بابتداع منظومة ايديولوجية تُنزلها على واقع تريد له ذلك التغيير الجذري الذي تصبو اليه، بل انها، اضافة الى ذلك، "اخترعت" في الآن نفسه، الحيّز الذي يشهد، وبشكل فوري، على مصداقية ذلك الوعد الخلاصي الذي بشرت به الايديولوجيا، اي على ارض فلسطين من خلال عملية الهجرة. فيهودي الشتات المنخرط في الوعد الصهيوني ما كان عليه ان يواجه وضعه ما قبل القومي ذاك في المكان نفسه وفي الوجود التاريخي اياه أكان في روسيا او بولندا او سواهما، بل هو بواسطة الانتقال الى فلسطين، ينسحب من ذلك التاريخ بالكامل ويتنصل منه ويتركه وراءه، بكل ما له وما عليه، بكل ما قد يحتمله من وشائج، وبكل ما قد ينجر عنه من انشداد الى حالة سابقة او وضع مألوف، له من قدرة على المقاومة بقدر ما له من ألفة، لينغرس فوراً في تاريخ جديد، او في اسطرة جديدة للتاريخ، هي تلك التي تزعم انها وضعت الفي سنة من التيه بين قوسين، لتستعيد تواصلاً مع عهد النبوة وعهد ممالك بني اسرائيل الاولى. وهكذا، ولأن مكان تحقيق الصهيونية في فلسطين هو غير مكان الواقع الذي جاءت من اجل تغييره في الشتات عموماً، ولكن عملياً في شتات الشرق الاوروبي بالدرجة الاولى، فان ذلك ما يشكل ابرز عوامل تمايز التجربة القومية اليهودية. فتلك الخاصية مكّنت من تحييد واقع الشتات بالكامل، على الاقل على صعيد كل من اقدم على الهجرة الى فلسطين، وهو ما ابعد المشروع الصهيوني عن كل تناقض معه قد يأتيه من داخل ذلك الوضع القائم الذي جاء ليجبّه وينقلب عليه، جاعلاً من عودته الى مقاومة المشروع القومي اليهودي في حكم الاستحالة. فالمواجهة الوحيدة المطروحة غدت التناقض العدائي مع الاهالي الفلسطينيين، وذلك تناقض يظل خارجياً، يمكن تجاهله، وحتى عدم تجشم عناء فهمه، على الاقل ما استمر ميزان القوة يسمح بذلك. ومن اجل تقريب الصورة اكثر، لنفترض ان لينين وصحبه من قادة الثورة الروسية كانوا، عوض ان يستولوا على السلطة في بلادهم، وأن يدخلوا من جراء ذلك في صراعات مضنية مديدة مع خصوم كثر ومع عقلية وبنية تاريخية راسختين، قد أخذوا كل أنصار الحزب الشيوعي إلى مكان قصي، وأقاموا مجتمعهم الطوباوي فيه، وفق هواهم وإرادتهم، على ما بشّرت حركات انسحابية وخلاصية كثيرة قبل تلك الثورة وبعدها. افتراض لا معقول؟ ذلك صحيح في ما يخص الثوار الروس، ولكنه ليس كذلك في ما يتعلق بأنصار الحركة الصهيونية، فذلك بالتحديد ما فعله هؤلاء لدى انتقالهم من الشتات إلى أرض فلسطين. وبهذا وبما أن مكان تحقيق الوعد بإنشاء الوطن القومي هو غير مكان واقع الشتات الذي جاء ذلك الوعد نافياً له قاطعاً معه، وبما ان الجمهور الصهيوني، على الأقل في البداية، كان حصراً من المؤمنين بتلك الايديولوجيات أو أقله بالحل العملي الذي ينجم عنها، فإنه أمكن للمشروع الصهيوني ان يقوم بعيداً عن كل عناصر الارتداد المحتمل عليه من داخل الوضع الذي جاء ليضع له حداً ويُنهيه. هكذا، فإن الفارق بين الحركة الصهيونية وبين الحركات الايديولوجية الأخرى، أنه إذا ما كانت هذه الأخيرة بمثابة تجربة علمية تجري في الهواء الطلق، وفي جو غير معقم، ما يجعلها معرضة لشتى المؤثرات "الخارجية" التي قد تشوشها، أو تعرقلها أو تفسد نتائجها، فإن التجربة الصهيونية جرت في إطار أشبه بإطار المختبرات، أي بعد توفير جميع شروط النجاح، وبعد أن جرى تحييد واقع الشتات بالكامل، ثم جرى، بعد ذلك، تحويل واقع الشتات ذاك إلى زخم وعنصر دعم لصالح تلك التجربة. أما أصحاب البلد من الفلسطينيين، فقد مثلوا، على ما سبقت الإشارة، تناقضاً من نوع آخر، تناقضاً أمكن تجاهله طويلاً، أو أمكن اعتباره عدواً يمكن طمسه، أو هو خصم اليهودي صاحب مشروع الدولة، أي خصم يهودي من نوع آخر غير ذلك الذي كان يسكن شتتلات القرى اليهودية شرق أوروبا. ولعل تلك الخاصية أحد العناصر التي مكّنت التجربة الإسرائيلية من أن تتلازم مع الديموقراطية لا تتناقض معها. فبقطع النظر عن أي اعتبار قد يتعلق بالثقافة السياسية أو بما عدا ذلك من عوامل، فإن ما لا شك فيه ان كون الحركة الصهيونية قد تمكنت من أن توفر على نفسها وجود عدو داخلي، بعد أن تركت مثل ذلك العدو هناك وراءها في بلاد الشتات، كان من بين حوافز الالتزام بالديموقراطية. أما العدو الخارجي، الفلسطيني أو العربي، فهو لا يدخل في عداد تلك الديموقراطية، وهو انما يحارَب بشكل أفضل في ظل وجودها الذي يفتح الباب على معسكر ديموقراطي عالمي واسع مما في ظل انعدامها. غير أن تلك الرؤية أفضت، من وجه آخر، إلى شكل من أشكال الانغلاق على ما يقع خارجها، سواء في ذلك الفلسطيني، بعد أن انتقل من صفة الساكن المحلي أو الأهلي، الذي وجد في أرض الميعاد واعتُبر وجوده ذاك عارضاً، إلى صفة الكائن ذي الهوية السياسية، أو الحركات الدينية، ان على الصعيد الإسرائيلي المحلي أو على صعيد المنطقة. وفي الحالتين، لا تني الايديولوجيا المؤسسة في إسرائيل تتعامل مع الظاهرتين بقدر من الارتباك كبير: فهي تبدو في بعض الأحيان كمن اكتشف وجودهما فجأة فأصيب بالجفلة، أو أنها لا تجد لها حيزاً تحشرهما فيه، ضمن نظرتها إلى نفسها وإلى العالم المحيط، فلا تمتلك، من جراء ذلك، أدوات ومعايير قراءتهما. وهكذا يبدو ان "اكتشاف" الفلسطيني من قبل الوعي الإسرائيلي، أو وعي بعض الإسرائيليين، لم يجدّ إلا في أعقاب حرب سنة 1967، بعد ان تمددت سيطرة اسرائيل من أراض كانت تعتبر أنها حررتها 1948 إلى مناطق لا مناص لها من الإقرار بأنها قد احتلتها، يقيم عليها شعب لا يمكن القول بأنه "غير موجود"، أو ان وجوده حادث طارئ غير ذي دلالة تاريخية وسياسية. وهو ما جاءت سنوات الانتفاضة لتؤكده بما لا يدع مجالاً لشك أو لإمكانية تنصّل. وما لا يمكن للمرء أن يجحده أن أنصار السلام في إسرائيل قد أقروا بتلك الواقعة من دون مكابرة، وكانوا من أكثر الأطراف فعلاً في التنديد بالاحتلال. لكن تزوير العدو الفلسطيني بدل اللاسامي الأوروبي يبقى تتمة لتزوير الذات بنتيجة ما سبقت الاشارة اليه. وهذا العنصر التاريخي هو، بالضبط، ما يعيدنا الى نقاط الاختلاف بين الصهيونية وزميلاتها من الحركات القومية حتى في لحظات التشابه. فالأولى، على عكس الأخريات، لا تكتفي بمبارحة السياق الذي ظهرت فيه، بل تبادر ايضاً الى مبارحة الكثير من المعاني التي تنطوي عليها. فإذا صحّ، وهو صحيح، انها حركة روّاد علمانيين تمردوا على الدين، وتأثروا بالمناخ القومي الأوروبي والعلماني في القرن الماضي، تأثرهم، إلى هذا الحد أو ذاك، بمناخ الاصلاح الديني ل "الهسكالاه"، فالصحيح أيضاً ان بناء وطن لجماعة معينة يُراد نقلها من مكان إلى آخر، استدعى جرعة كبيرة من الدين وجرعة كبيرة من التناحر مع السكان الأصليين من ذوي الاديان الأخرى. وفي الحساب الأخير فالعنصر الديني المتمكّن من جمهرة اليهود الروس والذي حدا بهرتزل لأن يسقط الخيار الأوغندي ويعتمد الخيار الفلسطيني، هو ما كان من المستحيل ضبطه وكبته الى ما لا نهاية. فكيف وأن الكيان العبري انما نشأ وتطور في موازاة حروب هوية لا تفعل غير مفاقمة الاحساس بالدين وتمايزه؟ غير أن هذا وذاك يرتبان، حتى اليوم، نتائج ليست قليلة الأهمية. ذاك ان النشأة الانسحابية من مسرح التناقض الفعلي مع اللاسامية الأوروبية، كانت بمعنى ما انسحاباً من التاريخ والرواية التاريخية لنشأة إسرائيل، في اتجاه رواية طبيعية يُستعاض بها عن ذاك الانسحاب وعن نقص التاريخية بالتالي. فإسرائيل 1948 تضحي من طبيعة الأمور، يحدث استقلالها تماماً كما يحدث أي استقلال من الحكم الكولونيالي، وتتطور، من ثم، تطوراً تدرجياً وحداثياً لا يمكن ان يقطعه صعود ديني بالحجم الذي نعرفه. أما إسرائيل 1967 فهي موضع الدهشة، لأنها أسفرت عن شعب محلي، ثم أسفرت لاحقاً عن اصولية غير متوقعة. فالطبيعية بدل التاريخية تفترض ان التطور التلقائي لم يصطدم بسكان محليين، تماماً كما أنه لن يصطدم بنزعة دينية تستطيع ان تشقّ المجتمع وتطرح الأسئلة التأسيسية على المحك بما فيها "مَن هو اليهودي؟". وعماد التحليل التاريخي الذي لا زالت اسرائيل تتجنبه، ان اللاسامية هي الأم المرضعة للصهيونية، بدءاً بالتجارب المعروفة لأقطاب كليو بنسكر وثيودور هرتزل ممن انحازوا إلى فكرة الوطن والدولة المستقلين لليهود بعد تاريخ مديد من الاندماجية، وصولاً إلى الشروط التاريخية التي فرضتها النازية وغلّبت وجهة النظر الصهيونية على ما عداها من وجهات نظر اندماجية في اوساط يهود أوروبا. هكذا لا يزال الإسرائيليون العلمانيون والمحبون للسلام يفاجأون ويفجعون بآثار 1967، وهي المفاجأة والفجيعة اللتان لن تتوقفا وتتحولا إلى فعل ايجابي إلا بإعادة الاعتبار ل 1948 ولإعادة الاعتبار للتأويل التاريخي، بالتالي، وتصفية الحساب مع التأويل الطبيعي. وإذا كان الاقتراب من السلام، والاسترخاء النفسي الذي يُحدثه، كفيلين بإشاعة مناخ كهذا، فالمؤكد ان ثمار مراجعة تاريخية كهذه، ستتعدى كثيراً ما رأيناه حتى الآن في "المؤرخين الجدد" ومن ماثلهم ويماثلهم. * صالح بشير - كاتب تونسي. ** حازم صاغية - كاتب لبناني