على رغم أن اسم شلومو ساند كان متداولاً مع مجموعة المؤرخين الجدد في إسرائيل، إلا أن كتابه الأخير هو الذي بات يلفت الانتباه. وربما كان العنوان كافياً لتوضيح الفكرة التي بات يكرر تأكيدها في كل المقابلات التي تجرى معه، أو في المقالات التي يكتبها، وآخرها المقال المترجم الذي نشر في جريدة الحياة (1/7/2009). لقد عنون كتابه ب: «كيف جرى اختراع الشعب اليهودي؟»، وهو الكتاب الذي لاقى رواجاً كبيراً في فرنسا بعد أن ترجم عن العبرية. وساند يوضح أن ليس هناك شعب يهودي، حيث ينتمي اليهود إلى قوميات عدة، منها العرب ومنها يهود الخزر الذين هم أصل يهود أوروبا الشرقية والوسطى كما يشير. وبالتالي، فإن اليهودية دين ككل الأديان ولا يشكل أساساً صالحاً لتكوين شعب. ولهذا فهو يعتبر أن «المنفى أسطورة»، حيث لم يخرج «أهل يهودا» إلى الشتات، بل تنصّروا ثم أسلموا. «والفلاحون العرب هم أولاد الفلاحين اليهود حقيقة وفعلاً». وهو من هذه الأسس يشير إلى اختراع ما سمّي ب «الشعب اليهودي» الذي هو من أصل قومي واحد، تشتت بعدما طرد من «أرضه». وهو هنا يسقط الأساس الأيديولوجي الذي برّر قيام الدولة الصهيونية عبر البحث التاريخي، الذي يشير إلى أن لا علاقة لقطاع كبير من اليهود الحاليين بفلسطين، ويهودها القدامى هم سكانها العرب. ويؤكد أن الصهيونية هي التي بدأت «اختلاق فكرة تاريخ قومي» منذ نهاية القرن التاسع عشر (أي مع بدء الرأسمالية بطرح فكرة تأسيس «وطن قومي يهودي» في فلسطين). لكن سنلمس أن النتيجة التي يتوصل إليها ليست متسقة مع كل هذا السياق. وعلى رغم أنه يتعاطف مع المشكلة الفلسطينية ويدعو إلى حلها، وأحياناً يصل إلى ضرورة إنهاء الدولة الصهيونية، إلا أنه - ربما أمام الضغوط - يقترح المساواة القانونية، حيث إنه ينطلق من «الإقرار بمجتمع إسرائيلي» تشكل، وهو من هذا المنطلق بات يعرّف ذاته كإسرائيلي من أصل يهودي. لأن «ما يشكل أساس وجودنا هنا ليس الحقوق التاريخية الأسطورية، ولكن عناصر أكثر من ذلك بكثير وتشكل نقطة البدء لتأسيس مجتمع منفتح لكل المواطنين الإسرائيليين». و «على رغم أن إسرائيل تأسست على حساب اغتصاب شعب عربي، لكن من حق الطفل اللقيط أيضاً أن يبقى على قيد الحياة»، وبالتالي فإن وجود «دولة إسرائيلية في الأمر الواقع» قد أوجد «شعباً إسرائيلياً». وانطلاقاً من ذلك يدعو إلى تحملها المسؤولية التاريخية والأخلاقية والسياسية عن الآلام التي سببتها للشعب الفلسطيني. بمعنى أنه يجب أن تحل مشكلة الشعب الفلسطيني (العودة، والمساواة والحقوق)، لكن على أرضية الدولة الصهيونية. قيمة ما كتبه شلومو تفكيك الأسطورة الصهيونية، وهذا أساسي ومهم، خصوصاً من قبل من قامت الأسطورة باسمهم. لكن هل إن الحل المطروح هو الاستنتاج المنطقي لهذه المقدمة؟ أظن لا. فليست «دولة إسرائيل» هي هذا اللقيط الذي يشير إليه، بل هي فعل الاغتصاب الذي أصاب الشعب الفلسطيني، واللقيط (إذا ما تحدثنا وفق هذه الصيغة) هو البشر الذين انساقوا وراء المشروع الصهيوني، تحت وهم تلك الأسطورة التي يفككها، وأيضاً تحت ضغوط هائلة سببتها لهم الرأسمالية الأوروبية. وهنا شكلت الأسطورة وعي هؤلاء. هذا «اللقيط» هو ما يمكن النقاش حوله، حيث إن الأمر الواقع لا يؤسس لشرعية، وليس أساس فهم منطقي، خصوصاً أن شلومو ماركسي يعرف أن الأمر الواقع سيفضي إلى نفيه لتأسيس واقع جديد. والصراعات القائمة هي التي تفرض هذا التأسيس من أجل حل مشكلة الشعب الفلسطيني وكذلك «اليهود» الذين قدموا محتلين إلى فلسطين، وبقواهم مورس فعل الاغتصاب. وهو الحل الذي يعيد صياغة المنطقة انطلاقاً من أساس تشكلها العربي، ولكن بتضمن المحتلين الذين يتحوّلون إلى جزء من هذه المنطقة، ويقبلون سياق تطورها، ويشاركون فيه. إذاً، الجمهورية العلمانية والديموقراطية، لكن ليست الإسرائيلية، حيث إن الصيرورة تعيد إلى الأصل، وليس من الممكن أن تكون غير ذلك. هذا هو الوضع الطبيعي في مثل هذه الحالات، وجنوب أفريقيا كانت كذلك. وخصوصاً هنا أن جزءاً كبيراً من اليهود هم عرب، وكل الوطن العربي أرضهم، وكما يشير شلومو ذاته في إحدى المقابلات: «سنصير عرباً في شكل ما»، خصوصاً كذلك أن الدولة الصهيونية جزء من مشروع إمبريالي رأسمالي يهدف إلى السيطرة المطلقة على الوطن العربي، وبالتالي فإن الصراع معها أبعد من صراع مع كيان استيطاني على رغم خطورة هذه الظاهرة، إنه صراع مع الرأسمالية التي تسعى لصياغة المنطقة بما يحقق مصالحها على المدى الطويل. ومن هذه الزاوية ليس من الممكن سوى استمرار الصدام مع هذا الكيان الذي يلعب هذا الدور. بمعنى أن المسألة ليست مسألة كيان استيطاني فقط، بل مسألة صراع حول مصير الوطن العربي، وحول آفاق تطوره. لهذا نلمس أن رؤية الطبقة المسيطرة تقوم على إدامة الصراع، وعدم التنازل حتى حينما يوجد طرف فلسطيني يقبل بما هو هامشي. إننا لسنا إزاء كيان استيطاني تقليدي، بل إزاء مرتكز إمبريالي. من هذا المنطلق يجب أن يتطور الصراع، وأن نتلمس الحلول، بما في ذلك مصير «اليهود» الذين استوطنوا فلسطين. وأظن أن عليهم - وهم يفككون الأسطورة - أن يكونوا أشدّ عداءً للرأسمالية التي وضعتهم في هولوكوست مستمر، كونها تحوّلهم إلى «جيش مرتزق» لها وهي تسعى لاستمرار سيطرتها على المنطقة. ولا شك في أن مليارات الدولارات التي تدفع مباشرة أو التسهيلات الهائلة التي تنعش الاقتصاد الصهيوني، تصبّ في هذا المساق. ولأن هذا هو الدور الذي حُدِّد لهم كان من الضروري أن يؤسطر، وسأشير الى أن التاريخ الذي يحدده شلومو ل «تفتح التاريخ الوطني والقومي اليهودي»، والذي يرفضه، هو ما بعد عام 1848، أي بعدما بدأ رأس المال الانكليزي يبحث عن «دولة يهودية» تفصل المشرق عن المغرب، بعد محاولات محمد علي باشا السيطرة على بلاد الشام في إطار التطلع القومي الذي كان قد بدأ يترافق مع التطلع القومي في أوروبا. بمعنى أن هذه الأسطورة كانت من نتاج الرأسمالية قبل أن يعتنقها كتّاب «يهود»، وتصبح مشروع الحركة الصهيونية. لهذا، نحن لا نريد قتل اللقيط، لكن نريد له وللمنطقة مستقبلاً آخر، يعيش فيه أفضل من أن يظل محارباً وقاتلاً في شكل مستمر. وهو الأمر الذي يفرض إنهاء الدولة الصهيونية، والتخلص من السيطرة الإمبريالية، ومن الرأسمالية.