غالباً ما يتجه الحديث عن آثار الحصار المفروض على العراق بموجب قرارات المقاطعة الاقتصادية التي تفرضها الاممالمتحدة منذ نحو ثماني سنوات، الى الآثار المباشرة التي خلفها الحصار على الاحوال المعيشية والصحية خصوصاً على تلك الفئات العمرية والاجتماعية الاكثر تضرراً مثل الاطفال والمسنين وطبقات السكان ذات الدخل المنخفض او المحدود التي تدهورت احوالها بشكل مأسوي وبشهادات معتمدة الآن من قبل منظمات انسانية دولية، فاليوم اصبح العالم اجمع يعرف بفضل التقارير التي تنشرها هذه المنظمات ان مليون عراقي ولربما اكثر راحوا ضحية الحصار نتيجة انعدام الدواء او نقصه وتدهور الخدمات الطبية وشحة الغذاء، وان هناك ربما ضعف هذا الرقم من العراقيين الذين يعانون من مختلف الامراض الناتجة من سوء التغذية والمشاكل الصحية المرتبطة باختفاء العناصر الغذائية الاساسية من وجبات الغذاء. ومع هذا فإن هناك مشكلات ذات جوانب خطيرة وبعيدة المدى في محتواها ونتائجها الاجتماعية والنفسية ويصعب تحديد تطورها اللاحق وآثارها ليس على فئات سكانية بعينها بل على المجتمع العراقي قاطبة قد غابت عن عناوين الأخبار أو توارت الى زوايا خافتة عند الحديث عن نتائج الحصار المدمر. هذه المعضلات التي تنتهك وربما تدمر كل منظومة القيم الاجتماعية والاخلاقية التي حافظت عليها اجيال من العراقيين هي في الواقع أشد وطأة في نتائجها من الآثار الاقتصادية التي خلفها وسيخلفها الحصار. ولإلقاء الضوء على بعض هذه المشكلات سأستعين ببعض ما نشرته الصحف العراقية اخيراً من اخبار وتعليقات في صفحات الحوادث عن وقائع جرت في بعض المدن العراقية، بما يعكس الآثار الاخرى للعقوبات التي لا يطالها عادة الحديث. "قام المدعو س. ه. ص ببيع ابنته البالغة من العمر 17 عاماً في أغرب عملية مزاد جرت في داره شاركت فيها مجموعة من الافراد، بينهم امرأتان مسنتان، تمثل عوائل تمارس السمسرة والبغاء في منطقة الكمالية وقد رسا البيع على مبلغ 200 ألف دينار" جريدة "نبض الشباب" 6/4/1998. "قام عدد من العشائر بعقد اتفاقية في ما بينها حددت بموجبها اسعار الفصل العشائري الدية، فحدد سعر الراشدي الصفعة بمبلغ 75 الف دينار والضرب بالعصا من دون خروج دم من جسم المعتدى عليه بمبلغ 100 - 150 الف دينار، والضرب بآلة حادة بمبلغ 200 - 300 الف دينار، اما القتل فقد حدد بملايين الدنانير حسب جنس القتيل وعمله" "نبض الشباب" 6/4/1998. "تحول الاحتفال بيوم الجامعة المستنصرية في 2/4/1998 الى مهرجان ل "الحرشة" الفاضحة والاعتداء على الطالبات في أروقة الجامعة التي اكتظت بالمحتفلين. شهدت انتهاكات لحركة الجامعة، اذ احاطت مجاميع من الطلبة بالطالبات وبدأوا يتحرشون بهن ليس بالألسن بل بالأيدي فاختلطت الزغاريد بصراخ الطالبات واستغاثتهن" "نبض الشباب" 6/4/1988. "هناك ظاهرة سيئة اعتاد البعض على سلوكها من الذين يرتادون الحمامات الشعبية التي تقع في الاماكن المزدحمة كالمساكن الشعبية أو الاسواق حيث يقوم هؤلاء بالخروج من تلك الحمامات وهم بالملابس الداخلية الى الشارع أو السوق من دون خجل أو حياء لشراء الصابون أو ليفة الاستحمام أو السكائر وأمام المارة. وقد باتت هذه الظاهرة مسيئة للأخلاق. ياحبذا لو قامت ادارة البلديات أو الصحة بتوجيه اصحاب الحمامات بعدم السماح للزبائن أو العاملين لديهم بالخروج الى الشارع او الاسواق". "بابل" 7/4/1998. "في الاسبوع الماضي كنا عرضة لاحدى تلك السرقات وفي وضح النهار... اللص صبي بين العاشرة والثانية عشرة... والمكان شقتنا التي تقع في عمارة في منطقة المنصور... والخطة بسيطة جداً لا يحتاج المرء الى جهد كبير لسرقة اسطوانة غاز، فقد اغتنم الصبي فرصة العطل الدائم في المصعد الكهربائي وراح يطرق الابواب من اجل تقديم خدماته في بيع الغاز وتوصيله الى الشقق... وما أن امتلأت عربته بالاسطوانات حتى دفعها سريعاً وغاب". الف باء 11/4/1988. نماذج اخرى من ظواهر اجتماعية مرضية يصعب عدها تزخر بها عناوين الصحف العراقية في اسبوع واحد مثل: اتساع استخدام المخدرات بشكل علني وحتى في الحدائق العامة وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبدالحميد الصائغ يكشف عن ازدياد حالات استخدام اقراص الحبوب المخدرة في داخل السجون. 6/4/1998، شيوع ظاهرة الرشوة في صفوف رجال الشرطة والقضاء، سرقات بالإكراه وسطو وسلب مسلح في وضح النهار، عمليات قتل بشعة لأسباب واهية، زيادة جرائم الاغتصاب، عمليات انتحار في صفوف النخبة الاجتماعية مثل الاطباء والاساتذة، تزوير وغش على نطاق واسع، ازدهار تجارة الرقيق الابيض والدعارة اللواء هاشم هادي اسماعيل مدير شرطة بغداد يكشف عن 77 حالة في يوم واحد 6/4/1998. زيادة حالات الطلاق بسبب الخلافات الزوجية وغير ذلك من الحالات المرضية الشاذة التي اخذت تنخر جسم المجتمع العراقي في سنوات الحصار. ليس يعنينا هنا ان النظام الذي يشدد قبضته على وسائل الإعلام قد يلجأ الى ابراز وتضخيم مثل هذه الظواهر في صحفه لأسباب تتعلق بخدمة اهدافه الدعائية في القاء اللوم في المشاكل التي تضرب بالبلد على الحصار، كما قد يتبادر الى الأذهان. فالحقيقة ان ما لا تتناوله الصحف يتجاوز بكثير ما هو منشور كماً أو نوعاً. والذي يصل الينا من القصص الدالة على سوء الوضع الاجتماعي وتدهور منظومة القيم كفيل بأن يعطي صورة قاتمة عما وصل اليه المجتمع العراقي من ظواهر وسلوكيات مرضية بالغة الحدة لا يمكن التظاهر بأنها ستخلف وراءها مجتمعا معافىً وصحياً. حقاً ان المجتمع العراقي شأنه شأن المجتمعات الانسانية الاخرى لم يكن مجتمعاً مثالياً من الملائكة، ولكن من المناسب الاقرار بأن الندب التي حفرتها سنوات الحصار في الضمائر والركام الهائل من الخراب الاخلاقي لا ينبغي تجاهله فهو وحده القادر على الكشف عن الحجم الحقيقي للدمار الذي سيخلفه الحصار. لعل مناسبة هذا الحديث هو انعقاد مؤتمر لندن الاخير حول ما ادعى بتأمين الاحتياجات الانسانية للشعب العراقي، وأيضا ما تسرب من قيام الادارة الاميركية بالبدء بمراجعة سياساتها العراقية جيم هوغلاند - الواشنطن بوست 23/4/1998. فالواضح ان الهدف وراء عقد اجتماع لندن كان دعم سياسة ترسيخ الحصار كأسلوب تتمسك به الولاياتالمتحدة وبريطانيا في مواجهة النظام العراقي وارغامه على الانصياع كما هو معلن لقرارات الاممالمتحدة أو للسياسات الخفية التي تصاغ لتقرير مستقبل العراق. وعلى رغم ان النتائج التي جاء بها الاجتماع ظلّت غامضة الا ان من المؤكد ان الهدف سيبقى تحويل برنامج النفط مقابل الغذاء الى حال دائمة في الوقت الذي يراد تطويره بالشكل الذي يمنع النظام من استخدام اي من موارد البرنامج خارج اطار اهدافه المعروفة وآليته المتفق عليها. اما المراجعة الاميركية فرغم شحة المعلومات المتوافرة عنها حتى الآن الا ان ما تسرب منها يوحي بأن الادارة الاميركية تحاول ايجاد صيغة مرنة لاسلوب مواجهتها للعراق ترتكز في جوهرها على ادامة نظام العقوبات وتعزيز التأييد الدولي له من دون الاضطرار الى الانجرار الى مواجهات عسكرية مع العراق اثناء كل ازمة تندلع بين الطرفين يصعب حشد التأييد لها اقليمياً ودولياً كما تبين اثناء الازمة الاخيرة. ان مثل هذه التحركات يكشف ان الاستراتيجية الاميركية البريطانية تجاه العراق ستظل ترتكز على الابقاء على نظام العقوبات الاقتصادية في تحقيق اهدافها على رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب العراقي بسببها والخراب والدمار الذي تخلفه. ولكن السؤال سيظل كما كان منذ البداية ما هي هذه الاهداف التي ينبغي للعقوبات ان تنجزها؟ طبعا هناك جواب جاهز دائماً عن هذا السؤال، وهو ان هدف العقوبات حسب قرارات مجلس الامن الخاصة بحرب الخليج الثانية هو ضمان قيام العراق بالتخلص من اسلحة الدمار الشامل والتأكد من انه لن يصبح مرة اخرى خطراً على جيرانه. ليس هناك ادنى شك في ان تقليص القوى العراقية الى حدها الأدنى هو هاجس اساسي للسياسة الاميركية الحالية في المنطقة وهدف تسعى الى تحقيقه في ظروف الحصار والعزلة المفروضة على العراق وهي شأنها شأن حرب الخليج ذاتها، ظروف قد لا تتكرر ثانية امام مخططي الاستراتيجية الاميركية، كما ان تفويتها يعني إهدار اهم فرصة سنحت امامهم ليس لدعم الدور والمصالح الاميركية في المنطقة بل لاعادة رسم مستقبل المنطقة في ضوء الاهداف المركزية لتلك المصالح. وهكذا فإن المهمة التي توقع رئيس مفتشي الاممالمتحدة السابق رالف اكيوس انجازها خلال بضعة شهور عندما بدأ عمله غداة الحرب قد تحولت بعد ثماني سنوات الى برنامج استراتيجي للتعامل مع الوضع العراقي مفتوح النهايات ولا يرتبط بمدى زمني معين، اي بمعنى آخر تحول نظام العقوبات من وسيلة لتحقيق غاية التخلص من اسلحة الدمار الشامل الى هدف. ومن المؤكد ان ما يسهل تحقيق هذا الهدف هو لعبة القط والفار الجارية بين النظام واللجنة الخاصة بالتفتيش عن الاسلحة والتي ساهمت الى حد كبير في عرقلة اغلاق ملفات الاسلحة وبالتالي استمرار مبرر بقاء العقوبات. والاهم من كل ذلك تعزيز قدرة استخدامها كنقطة انطلاق في رسم التخطيط الاستراتيجي الاميركي تجاه العراق والذي لم يتضح من عناصره حتى الآن سوى التشديد على الالتزام بنظام العقوبات واستمراره من دون اتضاح ملامحه وأبعاده الاساسية وآفاقه النهائية. وبإختصار فإن المؤشرات الحالية في السياسة الاميركية ومثيلتها البريطانية تجاه الوضع العراقي، كما عبرت عنها التقارير التي تتحدث عن اعادة تقويم ومراجعة السياسة الاميركية ازاء العراق، وكذلك مؤتمر لندن، لا تدلّ الى اي تطور جديد سوى استمرار الحلقة المفرغة التي تدور فيها منذ سنوات على أمل أن تنضج الظروف المصاحبة والناتجة من الحصار حلاً مناسباً، قليل التكلفة ومنسجماً مع بقية عناصر الاستراتيجية الاميركية في منطقتي الخليج والشرق الاوسط. واذا ما وضعنا في اعتبارنا استمرار تحدي النظام العراقي لهذه السياسة من خلال سلسلة الازمات الدورية التي يطلقها بين الحين والآخر، فإن معنى ذلك هو أن نظام العقوبات سيبقى المضمار الذي يجري على ارضه الصراع على مستقبل العراق بينما يدفع الملايين من العراقيين الثمن الباهظ لذلك من دون سبب واضح ومشروع. هذه المعادلة الجهنمية لن تحلها كل الجهود التي يقال ان هدفها تحسين برنامج النفط مقابل الغذاء من خلال تأمين الاحتياجات الانسانية للشعب العراقي أو من خلال حملات التضامن وارسال المعونات. ان مثل هذه المحاولات، على رغم ظاهرها النبيل، فضلاً عن استخدامها الواضح لأغراض الاستهلاك السياسي امام الرأي العام أو لدوافع بعض الذين يقفون وراءها التجارية المستقبلية فانها تتسم بالتبسيط الشديد لمشكلة شديدة التعقيد وتخاطر بتحويل قضية شعب يتطلع الى الخلاص الى مجرد جهود تطوعية لإملاء بطون خاوية وكأن العراق هو مجرد مخيم للاجئين. حقاً إن بعض التساؤلات لا تجد اجابات سهلة ومنها سؤالنا متى تنتهي مأساة الحصار المضروب على العراق؟