إذا كانت الأمة كلها جلست الى جوار سرير نزار قباني في مرضه، واذا كانت شيّعته بقلوبها الى مثواه الأخير، فإنه يبقى ان شاعر النصف الثاني من القرن العشرين حطّ رحاله في "الحياة". ولن أحاول ان أمدح نزار قباني فهو لا يحتاج اليّ، ولن أحاول ان أنقد شعره، فهناك من النقاد من هو أهل لذلك أكثر مني. غير انني سأحاول ان أعطي معلومات دقيقة عن تعاملي معه، ربما استفاد منها الباحثون، فقد عرفت الشاعر الكبير منذ أيامنا في بيروت، الا ان علاقتي به توطدت في السنوات العشر الأخيرة، فكان اتصالي به يومياً أو اسبوعياً. نزار قباني لم يرتبط بپ"الحياة" بعقد عمل من أي نوع، فكل ما كان بيننا هو "كلمة جنتلمان". وكتب بعض الموتورين مرة اننا ندفع له مرتباً خيالياً في عقد بمئات الألوف، إلا ان الواقع ان مرتبه كان عالياً، إلا انه لم يكن أعلى من غيره، ممن في مستواه، فهو في مستوى ما ندفع مثلاً ثمناً لمقالات الدكتور ادوارد سعيد، اعطاه الله الصحة. وبما ان كلمة الرجل أهم من أي عقد، فقد نفذ نزار قباني التزامه تقديم قصيدة أو مقال كل اسبوعين، ولم يخلّ به حتى في أيام السفر. وتشاء الصدف ان يمرض وعندنا مجموعة من مقالاته فلم يغب عن قرائه. وهو انتقل الى جوار ربه الآن، وعندنا مجموعة للنشر على مدى ثلاثة اشهر. وكما أسلفت، فسأقصر حديثي عنه على معلومات يستفيد منها الباحثون، ولا أكتب إلا ما أعرف شخصياً وبشكل مباشر، فأشهد هنا ان نزار قباني كان وطنياً عربياً بالطول والعرض، من المحيط الى الخليج. وهو في مرضه الأخير كان يعاني من ألمين، الألم الذي اعتصر جسده، والألم من أحوال الأمة، فيكلمني وهو يتقلب ألماً شخصياً عن آلام الأمة، وهل تقوم وتستقيم، ويصب غضبه على اليهود، لا يفرق أحياناً بين يهودي واسرائيلي. وبما انه شاعر يسبق قلبه عقله، ويسبق لسانه أو قلمه الاثنين، فقد اخطأ مرة بعد مرة، في "جمل من الصحراء لم يلجم"، وفي صدام حسين، وغير ذلك. الا ان عذري له ان نواياه كانت دائماً عربية خالصة يكتب مقهوراً ويحلم بأمجاد أموية جديدة. وقصيدته البائية في تونس سنة 1980 لا يمكن ان تصدر إلا عن عاطفة صادقة، بقدر ما هي عميقة. وفيها يقول: من أين يأتي الشعر حين نهارنا قمع وحين مساؤنا إرهاب والحكم شرطي يسير وراءنا سراً فنكهة خبزنا استجواب ثم يقول: أنا يا صديقة متعب بعروبتي فهل العروبة لعنة وعقاب وهو انطلق من الشعور الطاغي نفسه في قصيدته الشهيرة الاخرى "متى يعلنون وفاة العرب" التي نشرتها "الحياة" سنة 1994، وبدأها قائلاً: أحاول منذ الطفولة رسم بلاد تسمى - مجازاً - بلاد العرب تسامحني ان كسرت زجاج القمر ولعله كان يشير الى اخطاء الشاعر، وهو يطلب ان تسامحه بلاده. غير انني أعود فأقتصر على المعلومات، لأن مقطعاً قبل الأخير قال: أيا وطني جعلوك مسلسل رعب نتابع أحداثه في المساء فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء ويبدو ان القصيدة نشرت وهناك نقص في الكهرباء، في بلد عربي، مع انقطاع التيار احياناً، فجاء رقيب غيور ومنع عدد "الحياة"، رافضاً ان يكون الأمر صدفة، ولكن تدخل بعض العقلاء من كبار المسؤولين بعد ذلك ورفع الحظر عن العدد فوراً. وحكيت لنزار قباني ما جنى الرقيب فقال غاضباً: أنا ما بفهم هذا العقل السرماية أي الحذاء. واعتقدت انه يشتم، إلا أنه أكمل موضحاً "عقل مثل السرماية... يعني لا يكبر ولا يصغر. بس يهتري". ووجدت ان نزار قباني انتزع في سورة غضبه صورة شعرية نادرة رغم أنف رقيب لم يقرأ قول نزار عن نفسه: أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي لسال منه عناقيد وتفاح ولو فتحتم شراييني بمديتكم سمعتم في دمي أصوات من راحوا. وأكمل غداً.