1- فتات وقف بعيداً، تحت المذياع الخشبي، نظر بطرف عينه إلى مقعدها الفارغ إلا من روحها المطفأة. نحيل، يأكل القشف أطرافه ووجهه المسحوب رغماً عنه حتى مريلته المتسخة على بطنه. الليلة شُح، والزبائن قلة، هكذا جاء زفيره متأسياً من القلب. تحرك، كمن انتفض عن ظله نحو منضدة خلت ضغط بكفه المعروقة على خرقة بالية، ململماً بقايا عجوز رحل لتوه عن المائدة. اقترب منها، توقفت عن التقليب، رفعت وجهها. اقتحمتها تلك النظرة في قلب غربتها وعيني أخيها الراحلتين في اللامكان ووجه أمها الذي هده الانتظار في ليالي الشتاء الباردة. تحاورت أنفاسها الصامتة، ضغطت على فكيها معاودة التقليب في صحنها البارد. أدارت ظهرها للسعال المتقطع. عبرت الشارع المبلل بمطر الأمس وتحت ضوء النيون الباهت، بدا ظله المتحرك بين الموائد وفتات السنين. 2- حنين لامست قدماها الحافيتان الرمال، لسعتها عين الشمس المختبئة في أحضانها. ناداها البحر فلبت، طرح العرق النشوة على جسدها الفائر وقميصها المبلول. أنّت من وجع في عمودها الفقري، انزلقت من السقف الناشع إلى الدولاب، الى المكتبة المتربة. استقرت على المرآة، فاتسعت رقعة الشيب في مقدمة رأسها وزادت الخطوط المتعرجة أسفل العينين. جرفها الحنين الى اللون الأزرق، ركضت عكس الريح، بسط البحر يده سفينة، نسجت من شعرها شراعاً. فتحا الخيمة الزرقاء البعيدة، سكنا البلاد المسحورة ولعبها البللورية. تململت في جلستها متأوهة، تذكرت ميعاد الحبة التي تبتلعها قبل النوم. دقات الساعة تزيد من سطوة الليل، تنذرها كعادتها بالاكتئاب الجميل خلف أسوار روتينية. تحاملت على ظهر الكرسي حتى وصلت الى السرير، ضغطت على زر خلفه، احتضنت الوسادة واستحلفت البحر أن يأتيها ويمحو تراب السنين.