ذاكرة الكاتب السوري لطف الله حيدر ، تتجول في أركان متباعدة من العالم، كي تجمع حكايات قصص، تعبق بخصوصيات، وتشي بعوالم وعادات متباينية، يجمع بينها ذلك الألق الانساني، والشفافية البشرية الذي نشمه بين السطور والكلمات، والذي يختاره الكاتب في انتقائية جميلة، تنتخب ما يدهش، وما يبقى في النفس. لطف الله حيدر في هذه المجموعة القصصية الأولى "النبع الكبير"، يقترب من حلمه الذي تأجل طويلاً في كتابة الأدب، ويسحب نفسه قليلاً من مشاغل الحياة وتفاصيلها ليقارب ذلك العالم الجميل الذي ظل يراود مخيلته، فعاش له دون ان يمارسه، او بالأدق دون ان يمنحه ما يستحقه من وقت وتفرّغ، إذ أخذته الديبلوماسية فطاف البلاد، ورأى بحدقتيه… واختزنت ذاكرته، فيما روح الأدب لم تخمد جذوتها في نفسه، فكان يرضيها بهذه القصة او تلك… وفي أوقات متباعدة، حيث "الآن، وبعد ثلاثين عاماً وما ينوف، وبعد مليون سؤال طرحه على نفسه وطرح عليه: متى؟ ولماذا؟ وكيف؟ يخرج الأدب أخيراً من معطف الديبلوماسي في هذه المجموعة القصصية، كما كتب حيدر حيدر في تقديمه للمجموعة "النبع الكبير" منشورات ورد للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق 1997، خمس عشرة قصة تنبع من استقصاء حادٍ لذاكرة غنية، تحن الى الأيام الأولى، أيام الرومانسية والعيش الهانيء، فتتبع ما يشبه ذلك في طرق العالم ومدنه البعيدة، حيث نلحظ بوضوح انشداد الراهن بكليته للماضي الذي يبدو لوحة غامضة تحتاج الى تظهير جديد، كما هو حال قصة "الثوب الأبيض" والتي تحكي بمفردات الطفولة وعبثها حكاية الموت الذي يمكن ان يختطف طفلة صغيرة من بين أقرانها، فيشيع موتها اللامفهوم بين الصغار في لحظة بداية انطلاقهم في اللعب، دون ان يدركوا بالضبط مغزى الموت ومعناه النهائي. في "الثوب الأبيض"، احتفال ببراءة الطفولة وعفويتها، حيث لا مكان للاسم او الجنسية بين اللاعبين، بل للرغبة المشتركة عند الجميع في الاستحواذ على متعة اللعب والصداقة. قصة تناوش معنى الموت كما يرتسم في مخيلات أطفال لم يسبق لهم ان صادفوه من قبل. أسلوب الكتابة هنا يعتمد سردية بسيطة، تشبه الى حدٍ بعيد سردية حكايا الهرات بما فيها من عفوية وسهولة، وإن تكن لا تخلو من ايحاء ايديولوجي، يمتح من الاتكاء على انسانية لطيفة، يساعد الكاتب على حسن استخدامها انه يضعها في عالم الأطفال بما فيه من بدائية لم تتلوث بعد، ولم تكتشف الفوارق التي تقف بين الناس. قصة "الأمل"، تكاد تنفرد بين قصص المجموعة بموضوعها المميز، المختلف، والمنتمي زمنياً الى ذاكرة الحرب العالمية الثانية، فالعجوز الألماني يرى في فتاة روسية يقابلها في احدى الحدائق العامة ملامح تذكّره بفتاة أحبها ذات يوم، حين كان ضابطاً في جيش الاحتلال النازي، وانجبت منه فتاة لم يرها بعد ذلك. في هذه القصة مناخ رومانسي ينجح الكاتب في ربطه بوقائع الحياة اليومية والمشاعر الانسانية الحارة، تاركاً نهاية القصة، مفتوحة، غامضة، تحتمل أكثر من حل، وتشي بأكثر من مصير: "شاعت هذه القصة في كييف، ويؤسفني ان أخيب أملك، فأنا من مواليد 1947. قالت مخادعة. حاولت ان تغتصب ابتسامة، إلا ان القشعريرة والارتعاش اللذين لفا جسدها بكامله حالا دون هذه الابتسامة، كما أحست بدمعتين تتكثفان في مقلتيها". واضح هنا، ان العلاقة العاطفية التي تربط ضابطاً نازياً محتلاً، بفتاة روسية هي علاقة غير طبيعية في تلك الأيام، ولهذا نجد لطف الله حيدر لا يعمد الى حلول ميلودرامية، بل يدع كل واحد من طرفي العلاقة يعيش حياته في صورة طبيعية، خصوصاً الفتاة، التي لا يتبدل موقفها من الاحتلال النازي لأرض وطنها، بل تواصل العمل في صفوف المقاومة المسلحة ويقبض عليها النازيون مرات متعددة ينقذها فيها حبيبها الذي يزعم لهم انها تقوم بما تقوم به بالاتفاق معه ولمصلحة المانيا. يبني لطف الله حيدر قصته "الأمل" على صدفة نادرة الوقوع، وهي نقطة الضعف الرئيسة في هذه القصة الموشحة بالشجن، إذ هي صدفة تقارب الفانتازيا اكثر من مقاربتها الواقع الحقيقي، وما عدا ذلك يمكن قراءة القصة في صورة مغايرة لا تلزم القارئ باعتبار الفتاة ابنة الراوية بالضرورة، وهو ما يفقد القصة متعتها، أي ان القارئ لا بد ان يتواطأ مع الكاتب على قبول المصادفة الفانتازية. مع ذلك تبقى "الأمل" واحدة من أجمل قصص هذه المجموعة. شيء من هذه الأجواء يمكن العثور عليه ايضاً في قصة بعنوان "العطاء"، حيث خيالات مثقف تحاور مفاهيم الحب والزواج والعائلة في أحداث افتراضية تشبه الحلم حيناً، وحلم اليقظة أحياناً أخرى، وتتصاعد هذه الأجواء الفانتازية لتبلغ ذروتها في قصة "القرار" التي تحكي حلم رجل بأنه تحول ذات صباح الى سيارة، فيروي تفاصيل ما يقع له مع سائقه. قصة فيها من المفارقات قدر ما فيها من الخيال. اما في "ذلك النهر… تلك الحجارة"، فإن الكاتب يعود بنا الى ضيعته "حصين البحر" قرب طرطوس ليقدم حكاية التشبث الروحي بالبيت القديم بما يحمله من ذكريات وعواطف. قصة تقليدية في حكايتها ولكن لطف الله حيدر ينجح في تحميلها الكثير من الشجن: "استدارت أمي، تطلعت اليها، فالتقت عيوننا لحظة ثم مالت ببصرها جهة الجذور التي بدأت تنقلع، وعادت فاحتضنت الطفلين بنظرة حانية، متأملة، ثم أطرقت الى الأرض، بينما الطفلان يقتسمان بينهما البيت الذي سينبني". في قصص "النبع الكبير"، ثمة قصة قصيرة جداً، تجري حوادثها في المانيا تحكي عن جلسة تعقدها احدى المحاكم الالمانية للنظر في طلب زوجة الطلاق من زوجها لسبب واحد فقط هو نظاميته في كل شيء، بما في ذلك معايشته لزوجته حيث "دأب على مدى عشرين عاماً على مضاجعة زوجته تمام الساعة العاشرة والنصف ليلة كل سبت وأربعاء فقط" حيث يوافق القاضي على طلب الزوجة ويصدر حكماً بالتفريق بينهما، ليقدم الكاتب بعد ذلك خاتمة جميلة للقصة حيث "لحظة فرغ القاضي من قراءة الحكم وحيثياته، تطلع الزوج الى ساعته ليكتشف انه لم يبق سوى أقل من خمس عشرة دقيقة للوصول الى ملعب التنس، وممارسة هوايته في الموعد التقليدي المعتاد، فهرع مهرولاً خارج المحكمة". "النبع الكبير"، كتاب أول لكاتب اختمرت تجربته الحياتية وتجول كثيراً في مدن وعواصم متباعدة، وبقي ان يكرس جهده للأدب بعد هذه المجموعة المبشرة.