«الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    يونس محمود ينتقد ترشيح المنتخب السعودي للقب كأس الخليج    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العاقون
نشر في الحياة يوم 06 - 04 - 1998

حُكم عليّ ان احول دون انفراط سلسلة العاقين في جيلي. كان يتحتم على احد ما ان يتمثله وهذا ما كنته انا. لم يكن احد يتوقع هذا مني ولكنها حقيقة ثابتة: اني عاق جيلي. يزعم العقلاء في عائلتنا ان التأثير الذي مارسه عليّ العم اوتو كان تأثيراً سيئاً. والعم أوتو هو عاق الجيل السابق وعرّابي. كان ينبغي على احد ما ان يتمثله وهذا ما كانه. بالطبع تم اختياره ليكون عرّابي، قبل ان يتضح فشله، كذلك جرى اختياري كعرّاب لصبي صغير، ومنذ اعتبرت عاقاً يتوجس أهله لقائي به. في الواقع ينبغي ان يعترف لنا بالجميل، فالعائلة الخالية من العاقين لا تعد عائلة مميزة.
بدأت صداقتي مع العم اوتو في وقت مبكر. اذ غالباً ما كان يزورنا، حاملاً معه الكثير من الحلوى التي يعتبرها والدي تجاوزاً للحد المعقول، ويطفق يتحدث ويتحدث ثم ينتهي به المطاف الى محاولة الاستدانة.
العم اوتو متأكد جداً من انه ليس هناك اختصاص الا وكان متضلعاً فيه: كعلم الاجتماع، والادب، والموسيقى، وفن المعمار... باختصار في كل شيء، وهو على معرفة بذلك فعلاً. حتى ان الخبراء يروق لهم الحديث معه ويجدونه مؤثراً وذكياً ولطيفاً للغاية، الى ان يستفيقوا من أثر الصدمة التي تسببها محاولة الاستدانة اللاحقة منهم، لأن ذلك كان شيئاً فظيعاً: لقد عاث فساداً ليس في الاقارب وحدهم، وانما كلما بدا له الامر مجدياً كان ينصب فخاخه الغادرة.
الكل كانوا يرون انه قد "يستثمر" علمه - هذا ما تعارفوا على تسميته - لكنه لم يستثمر شيئاً، انما استثمر اعصاب الاقارب. يكمن سر مهنته في قدرته على الايحاء للآخرين بأنه لن يقوم بعمل في هذا اليوم. لكنه ينفّذه بانتظام وصرامة. اعتقد بأنه لا يرتضي لنفسه اضاعة فرصة ما. كانت احاديثه اسرة للقلب، مفعمة بالحب الحقيقي، رصينة وممحصة للغاية، طافحة بالظرافة والدعابة، مميتة لاعدائه، سامية في نظر اصدقائه. فهو حاذق وقادر على التحدث في كل الامور، بحيث يجعل الآخرين يعتقدون بأنه سوف... ولكنه مع ذلك يفعله.
يتقن العناية بالطفل الرضيع، مع انه لم يكن له اطفال قط. يعرف كيف يستدرج النساء الى احاديث شيقة اسرة ونادرة عن الرجيم لامراض معينة، ويقترح نوعاً من البودرة، ويكتب وصفات من المرهم على قصاصة ورق، ثم يحدد لهن مقدار ونوعية الاشربة، بل انه يعرف كيف يتم الاحتفاظ بها: الطفل الغارق في البكاء يركن اليه ويخلد الى الهدوء حالاً. تصدر منه اشياء سحرية ويحلل بالقدر ذاته من المهارة سمفونية بتهوفن التاسعة ويحرر الكتب القانونية ويذكر رقم القانون في الحالة المعنية اعتماداً على الذاكرة... بغض النظر عن مكان وموضوع الحديث. ما ان تصبح النهاية وشيكة حتى يأتي الوداع قاسياً، اذ غالباً ما يحدث ذلك في البهو عندما يصبح الباب نصف مطبق، يدس وجهه الشاحب ذا العينين السوداوين المفعمتين بالحيوية ويقول، كما لو كان امراً تافهاً في خضم قلق العائلة المنتظرة، موجهاً حديثه الى رب الاسرة: "على فكرة، أليس بامكانك ان...؟"
يتراوح المبلغ الذي يطلبه بين مارك واحد وخمسين ماركاً. كانت الخمسون ماركاً هي اقصى ما يطلبه، إذ تكوَّن لديه في غضون عقود من السنين قانوناً غير مدوّن وهو الا يسمح لنفسه بطلب مبلغ اكبر من هذا. ثم يستطرد قائلاً: "لأجل قصير".
وأجل قصير هي كلمته المفضلة. يقوم بوضع قبعته فوق المشجب، ثم ينتزع الشال عن رقبته، ويبدأ موضحاً اسباب حاجته للمال. لديه خطط على الدوام، خطط لا يطالها الخطأ. فهو لا يحتاج المبلغ لمصروفه الشخصي مباشرة، انما - كما هو الامر دائماً - لمجرد ان يضمن مورد رزق ثابتاً لنفسه. كانت خططه تتراوح بين فتح حانوت للمرطبات يأمل ان يدر عليه دخلاً ثابتاً باستمرار، وبين تأسيس حزب سياسي ليحفظ اوروبا من الهلاك.
اضحت عبارة "على فكرة، الا يمكنك ان..." تثير الرعب في اوساط اسرتنا. هناك نساء... عمات، وخالات طاعنات في السن، بل حتى بنات اخ وأخت كدن يغمى عليهن عند سماعهن كلمة "لاجل قصير".
لكن أسوأ طباعه، وهذا ما تحاشيت التحدث عنه لحد الآن، هو انه يعيد الفلوس في بعض الاحيان. والظاهر انه كان يكسب شيئاً من المال احياناً بطريقة أو بأخرى. ولما كان موظفاً تحت التجربة، فانه يُقدم - على ما اعتقد - بين وقت وآخر استشارات قانونية. عندئذ يعاود الزيارة ويسحب من محفظته ورقة نقدية ويصقلها بحب ممض قائلاً: "كنت كريماً جداً في مساعدتك لي، ها هنا الخمسة ماركات!...". ثم يخرج على عجل، ويعود ثانية بعد يومين في اقصى تقدير ليطلب مبلغاً هو اكثر قليلاً من المبلغ الذي سدده.
بقي سره خبيئاً، في انه استطاع ان يبلغ من العمر ما يقارب الستين سنة، من دون ان يكون له ما اعتدنا على تسميته مهنة حقيقية. كما انه لم يمت بسبب مرض ما قد يكون مبعثه معاقرة الخمرة، بل كان في اتم صحة. فقلبه كان يعمل بشكل رائع، ونومه اشبه بنوم طفل رضيع معافى، تناول لتوه من الحليب قدر ما يستطيع ونام ليستقبل الوجبة القادمة بضمير مرتاح للغاية. كلا، لقد مات بشكل مفاجئ تماماً: ان حادثة ما قد اودت بحياته، وما حصل بعد موته يبقى الشيء الاكثر ابهاماً فيه.
مات العم اوتو، كما اسلفت، اثر حادثة. في وسط حركة المدينة دهسته قاطرة حمل ذات ثلاث عربات، ومن حسن الحظ ان رجلاً شريفاً رفعه وسلمه للشرطة وابلغ اسرته. عثر في جيبه على محفظة نقود تحتوي على ميدالية للعذراء وتذكرة لسفرتين واربعة وعشرين ألف مارك نقداً، اضافة الى نسخة من وصل وقعه لموظف اليانصيب. ولم يستطع الاحتفاظ بهذه الفلوس لاكثر من دقيقة ولربما اقل لأنه دهس في مكان قد لا يبعد خمسين متراً من مكتب اليانصيب. لكن ما حدث في ما بعد كان مخجلاً للاسرة. ففي غرفته يعشعش البؤس: منضدة وكرسي وسرير وخزانة ملابس وبضعة كتب ودفتر ملاحظات كبير دوّن فيه بدقة كل اولئك الذين ينبغي عليه ان يسدد ديونهم، بضمنها المبلغ الذي استدانه في الليلة السابقة للحادث البالغ اربعة ماركات. اضافة الى وصية مقتضبة جداً اصبحت بمقتضاها وريثاً.
قام والدي بصفته منفذاً للوصية بتسديد الديون. في الواقع احتاجت قائمة دائني العم اوتو الى دفتر بأكمله. يعود تاريخ أول ديونه الى تلك السنوات التي تخلى فيها عن عمله كموظف تحت التجربة في المحكمة وبدأ فجأة يكرس وقته لخطط اخرى، كلفه التفكير بها وقتاً ثميناً واموالاً طائلة. بلغت ديونه بأجمعها حوالى خمسة عشر ألف مارك وعدد دائنيه ناهز السبعمئة، بدءاً من مفتش الحافلة الكهربائية الذي نفحه بمبلغ ثلاثين فنيكاً ليقطع تذكرة للترام، وانتهاء بوالدي الذي استعاد مبلغ الفي مارك لأنه كان يقع بسهولة في حبائل العم اوتو.
من المفارقات العجيبة اني بلغت سن الرشد في يوم تشييع الجنازة وبذلك اصبحت مستحقاً للميراث البالغ عشرة آلاف مارك. قطعت في الحال دراستي التي بدأتها لتوي واخذت اكرس وقتي لخطط اخرى. انتقلت من البيت على رغم دموع والدي، لاسكن في غرفة العم اوتو، إذ جذبت بقوة الى هناك وما زلت اسكنها حتى اليوم. بيد ان شعري بدأ يتساقط منذ فترة. اما العفش فقد بقي كما هو عليه، لم يزد ولم ينقص. اليوم أعرف ان بعض بداياتي كانت خاطئة. لقد ذهبت محاولاتي في ان اصبح موسيقياً ادراج الرياح، ناهيك عن التأليف الموسيقي لأني لم اكن امتلك الموهبة لذلك. هذا ما اعرفه الآن ولكن بعد ان دفعت ثمن ذلك بدراسة غير مجدية استغرقت ثلاث سنوات ويقين من يتمتع بسمعة الطالب الكسول. عدا ذلك فاني قد انفقت في هذه الاثناء كل ما ورثته، لكن هذا حدث منذ فترة طويلة.
لم اعد اعرف طبيعة تسلسل خططي وذلك لكثرتها. يضاف الى ذلك ان الفترات الزمنية التي احتجتها لكي ارى عبثيتها اضحت قصيرة باستمرار. في النهاية لم تعد تعمر احدى خططي اكثر من ثلاثة ايام، يا له من عمر قصير حتى بالنسبة الى خطة. وهكذا اصبح عمر خططي يتناقص بشكل مضطرد، بحيث اضحى اخيراً اقصر وأقصر ثم امسى مجرد افكار تومض للحظة عابرة لدرجة اني لم اعد قادراً حتى على ايضاحها لاحد ما، لأنها لم تكن واضحة لي انا بالذات. حين اتذكر انني امضيت بالفعل ثلاثة اشهر لتعلم تعابير الوجه، بل قررت اخيراً في خلال عصرية واحدة ان اصبح رساماً وجنائنياً وميكانيكياً وبحاراً، نمت على انني خلقت بالفُطرة معلماً وحينما استيقظت كنت مقتنعاً قناعة تامة بأني خلقت لأكون موظفاً في الجمارك...
أنا باختصار لم اكن اتمتع بظرافة العم اوتو ولا بحلمه الكبير نسبياً. عدا ذلك لم أكن متحدثاً لبقاً، إذ كنت اجلس بين الناس صامتاً وابعث الضجر في نفوسهم وانفذ محاولاتي للحصول منهم على فلوس على حين غرة وسط الصمت، بحيث تبدو تلك المحاولات اشبه بعملية ابتزاز. مع الاطفال فقط كان النجاح حليفي، وهذه في الاقل الصفة التي يبدو اني ورثتها بايجابية من العم اوتو. إذ يخلد الاطفال الرضع للراحة، حالما يسترخون على ذراعي، وحين يتطلعون اليّ يبتسمون طالما كانوا قادرين على الابتسام، على رغم ما يشاع من ان وجهي يشيع الرعب في نفوس الناس. وقد نصحني الخبثاء بانشاء قطاع لمربي رياض الاطفال بصفتي اول ممثل من فصيلة الذكور. ومن خلال تحقيق هذه الخطة اضع حداً لسياسة التخطيط اللانهائية. لكن هذا ما لم افعله. اعتقد بأن ما يجعلنا مستحيلين هو عدم قدرتنا على الانتفاع بقابلياتنا الفعلية، او كما يقال الآن: استغلالها مهنياً.
على اي حال هناك امر واضح تماماً وهو: حتى لو كنت فعلاً عاقاً - مع اني شخصياً غير مقتنع بذلك على الاطلاق - فاني امثل اذن نمطاً اخر يختلف عن العم اوتو. فانا لا امتلك سهولته ولا سحره، يضاف الى ذلك ان الديون اخذت تثقل عليّ، بينما كانت على ما يبدو لا تشغل باله. كما اني أقدمت على شيء فظيع: اذا استسلمت - طالباً الحصول على عمل - ناشدت العائلة لتمد اليّ يد المساعدة من اجل الالتحاق بعمل وتستخدم علاقاتها كي توفر لي ولو لمرة واحدة على الاقل دخلاً ثابتاً لقاء قيامي بعمل معين. وتكللت جهودهم بالنجاح بعد ان أخذت التماساتي تترى الواحدة بعد الاخرى، وقدمت التضرعات تحريراً ومشافهة وبكل الحاح وتوسل، وسرعان ما انتابني الهلع حين رأيت انهم اخذوا الامر على محمل الجد ونفذوه فعلاً. وقمت بما لم يقم به اي عاق لحد الآن: لم اتراجع ولم اغامر، انما قبلت الوظيفة التي وجدوها لي. وبذلك ضحيت بما كان ينبغي عليّ ان لا اضحي به: الا وهو حريتي!
وفي المساء حين اعود الى البيت متعباً، اغتاظ لأن يوماً آخر من حياتي لم يجلب لي سوى التعب والحنق وذلك القدر من الفلوس التي تضطرني للاستمرار في العمل، ان كان يصح تسمية مهنة كهذه عملاً: إذ أقوم بتنظيم قوائم الحسابات حسب الحروف الابجدية ثم تخريمها وحفظها في ملفات جديدة، حيث تكابد بأناة وصبر عدم تسديدها ابداً. أو أقوم بتحرير رسائل دعاية، تطوف الارض بلا جدوى وهي ليست اكثر من عبء اضافي على موزع البريد. واحياناً احرر فواتير تدفع نقداً بين الفينة والاخرى. كما ينبغي عليّ اجراء مباحثات مع مسافرين يحاولون بلا جدوى خداع الآخرين في بضاعة رديئة ينتجها مديرنا. ومديرنا غبي لا مستقر له، ليس لديه وقت ولا يعمل شيئاً، يمضي ساعات النهار الثمينة في ثرثرة سمجة - وجود عبثي مميت - لا يجرؤ على الاعتراف بمقدار ديونه ويمارس المكر كالبهلوان الذي يملأ بالوناً بالهواء في حين ينفجر البالون الاخر: ما يتبقى هو مجرد خرقة مطاطية مقززة كانت قبل ثانية تتسم بالحياة والتآلق والاكتناز.
كان مكتبنا يقع بجانب المصنع مباشرة، حيث تنتج دزينة من العمال اثاثاً يبقى من يشتريه طيلة حياته ممتعضاً، ما لم يقرر تحويله الى حطام بعد ثلاثة ايام. انها مناضد تدخين وطاولات خياطة وكوميدات صغيرة مصبوغة بمهارة فائقة تتحطم تحت اطفال في سن الثالثة، اضافة الى حاملات اصص او مزهريات صغيرة، وأدوات مستهلكة رديئة مدينة بحياتها لبراعة نجار هو في الحقيقة ليس أكثر من صباغ رديء، قام بطلائها بدهان لامع ليضفي عليها جمالاً زائفاً، وكي يجعل اسعارها مقبولة.
هكذا امضيت ايامي يوماً بعد آخر - كانت حوالى اربعة عشر يوماً - في مكتب هذا الانسان الغبي الذي يعطي اهمية لنفسه، بل حتى انه يعتبر نفسه فناناً، لانه كان يشاهد حصل هذا لمرة واحدة اثناء تواجدي بين الحين والآخر واقفاً امام لوحة الرسم يعبث بالافلام والورق ويصمم شيئاً مهزوماً اشبه بحاملة ورد او بار منزلي جديد، لا يثير سوى الاستياء اثر الاستياء لدى الاجيال.
وما ان ينتهي من تصميم كهذا وهذا حدث لمرة واحدة كما اسلفت حتى يجد ان عبث ادواته المميت لم يحقق الغاية المرجوة، فيسرع منطلقاً بسيارته للقيام باستراحة ابداعية تمتد لاكثر من ثمانية ايام، بينما هو لم يعمل اكثر من ربع ساعة. يرمي بالتخطيط الى النجار الذي يضعه فوق الطاولة ويدرسه مقطباً جبينه، ثم يفرز النماذج الخشبية للقيام بالانتاج. كنت أرى لأيام عدة كيف تتكدس الابتكارات الجديدة خلف نوافذ الورشة المتربة التي اعتاد على تسميتها بالمصنع: رفوف جدارية او مناضد للراديو تكاد لا تساوي قيمة الغراء الذي تطلى به.
الاشياء الوحيدة النافعة هي التي يصنعها العمال من دون علم المدير حين يتأكد غيابه لأيام عدة، فيصنعون مساند اقدام او علب حلي من المتانة والبساطة الباعثة على الاعجاب، ولا يزال احفاد الاحفاد يركبونها ليحفظوا امتعتهم القديمة فيها، اضافة الى حمالات الغسيل الصالحة للاستعمال التي لا زالت تنشر عليها قمصان اجيال عدة. هكذا كان يتم انجاز اشياء مسلية بشكل غير شرعي.
لكن الشخصية المؤثرة حقاً التي صادفتني بحكم عملها الوظيفي اثناء هذا المشهد القصير والمثير هي مفتش الحافلة الكهربائية الذي ابطل عليّ يوماً باستعماله خرامة التذاكر، حيث اخذ بطاقتي الاسبوعية، تلك الجذاذة الورقية الضئيلة، ودسها في خطم كماشته الفاغر وأدى الحبر المتسرب بشكل غير مرئي على امتداد سنتيمترين الى ابطال مفعول يوم من حياتي، يوم ثمين لم يجلب لي غير التعب والحنق وذلك القدر من الفلوس الذي يضطرني للاستمرار في اداء هذا العمل اللامجدي. تكمن في هذا الرجل، الذي يرتدي بزة بسيطة لمنتسبي ترام المدن والذي يبطل كل مساء آلاف الايام من حياة البشر، قدرة مصيرية.
لا زال ينتابني الغيظ حتى اليوم، لأني لم ابلغ المدير برغبتي في ترك العمل، قبل ان اصبح مكرهاً بشكل او بآخر على ابلاغه بذلك كما اني لم ارم اليه ببضاعته الرديئة، قبل ان اكون مرغماً على ذلك: لأن مؤجّرة البناية ادخلت عليّ ذات يوم انساناً يحملق في المكتب بنظرات عبوسة، وبعد ان قدم نفسه بصفته موظفاً في لجنة اليانصيب، اوضح لي قائلاً: لقد ربحت مبلغ خمسين ألف مارك الماني، اذا كنت فلان الفلاني وان كانت ورقة يانصيب معينة بحوزتي. حسناً، انا فلان الفلاني وبطاقة اليانصيب في يدي. تركت على الفور عملي من دون تقديم انذار وتحملت مسؤولية ترك قوائم الحسابات على حالها بلا تخريم وتنظيم، ولم يبق امامي خيار آخر سوى الانصراف الى البيت واستلام الفلوس وابلاغ الاقارب عن طريق موزع الحوالات بواقع الحال الجديد.
كان من المتوقع ان يظهر اني سأموت في القريب العاجل او أن أكون ضحية حادثة. لكن لا يبدو انه سيقدر لسيارة ما ان تسلبني حياتي في الوقت الراهن، كما اني اتمتع بقلب سليم تماماً، على رغم انني لا اعرض عن تعاطي المشروبات الروحية. وهكذا اصبحت بعد تسديد ديوني، املك مبلغاً يقدر بثلاثين الف مارك الماني غير خاضعة للضرائب، واضحيت عماً مطموعاً فيه، يعاد له الخيار على حين غرة للالتقاء بالطفل الذي شهد تعميده. على العموم يحبني الاطفال وقد سمح لي بملاعبتهم وشراء كرات لهم، ودعوتهم لتناول البوظة مع الكريمة، واصبح لي الخيار ان اهدي لهم عناقيد بالونات ضخمة للغاية، واخذ يحف بي هذا الجمع المرح في مراجيح على هيئة سفن وخيول.
حين اشترت اختي لابنها، الذي انا عرابه، ورقة يانصيب، كنت منشغلاً في التفكير والتآمل لساعات طويلة في موضوع من سيخلفني في هذا الجيل الناشيء، من هؤلاء الاطفال الوسيمين المتألقين اللاهين، الذين انجبتهم اخواتي واخوتي، من سيكون يا ترى عاقّ الجيل القادم؟ فنحن كنا وسنبقى عائلة مميزة. من سيكون مؤدياً حتى تلك النقطة التي يكف فيها عن ان يبقى مؤدياً؟ من سيكرس حياته فجأة لخطط اخرى، خطط افضل وأكمل؟ بودي ان اعرفه واحذره، لأننا نحن ايضاً لدينا تجاربنا وان مهنتنا تحكمها قواعد ايضاً، تلك القواعد التي يمكنني ان اطلعه عليها، باعتباره خليفتي وان كان لا يزال لحد الآن مجهولاً، كالذئب في مسوح الرهبان يلعب ضمن شلة الآخرين.
لكن مشاعر سوداوية تنتابني، لأني لن اعيش طويلاً حتى اتعرف عليه وأخذ بيده الى موطن الاسرار. سوف يظهر ويكشف عن قناعه، حين اموت ويتم تبادل الادوار. سوف يواجه والديه بوجه حامي ويقول لقد سئمت. وأني آمل في السر فقط ان يبقى شيء من اموالي، لأني غيرت وصيتي، إذ اوصيت بما تبقى من اموالي لمن يبدي للمرة الاولى سيماء لا تخطئها العين، تنبئ باختياره خليفة لي...
المهم ان يكيل لهم الصاع صاعين.
* من أبرز الكتّاب الألمان، وحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1972. توفي في 16 تموز يوليو 1985.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.