الوجه السلبي الذي لم يعاينه كفاية الكثير ممن تصدوا الى تشابك الثقافي العربي بالسياسي يتمثل في اغواء "الجملة القومية"، المتحيزة، غير المعتدلة، التي يطلقها الساسة يومياً على واجهات الصحف وفي مقدمات البرقيات الاخبارية، حيث اخترقت النص الثقافي، وقبل هذا اخترقت وعيه. نعني بهذا ان المثقف العربي الذي تواكل على مسؤولية مفترضة في تقديم شهادته ازاء الأسئلة المعقدة التي تطرحها المرحلة سرعان ما انتهى الى معلق، متعجل الفكرة، متوتر المفردة، وأبعد ما يكون عن التروي. وبذلك استباح المسافة التي تفصل بين وظيفتين ترسمت حدودهما منذ زمن طويل: وظيفة السياسي المتمثلة في "التوصيف" بكل ما يتطلبه ذلك من تحزب وتطرف تمليه الاعتبارات الآنية، ووظيفة المثقف المتحد بالتأمل بما يعنيه استشرافاً متأنياً، مسؤولاً، للآتي. وحسب الموقف الذي ابداه المثقفون العرب من تداعيات الأزمة العراقية واندفاعها الى حافة الحريق ان يكون فاصلة للبحث في ظاهرة الاغواء التي سقطت فيها الديباجة الثقافية. فبين ايدينا ثماني شهادات بيانات لمثقفين عراقيين ومصريين ومغاربة يمنيين ولبنانيين وأردنيين وبيان مشترك لمثقفين عرب خدمة الفاكس والهاتف فضلاً عن بيان لرئاسة اتحاد الكتاب العرب سجلوا فيه انفسهم كدعاة لنصرة العراق في خطاب بقي رهين اغواء "الجملة القومية" التي عكف على صياغتها الساسة ورجال الحكم بعناية الحريص على ان يقول ما يكفيه شر الاتهام بالتقصير وظنّة التواطؤ مع عربدة الأجنبي. من البداهة ان يتفاعل المثقف العربي مع بيئته المسكونة بالتوتر والخوف ومع معاناة الملايين العراقية الجائعة، ولكن من البداهة ايضاً ان يكون النص الذي يرتدي هوية الثقافة محاذراً للاغواء السياسي التبسيطي فلا يأسر نفسه في المفردة التي تحول بينه وبين العبور الى ما وراء السياق، ولا يعدم أداته التعبيرية التي تتعمق بابداع التأويل، الماماً، في النهاية، بجدل المشهد وأسراره، وبصلة ما يجري بالاختلالات البنيوية السلطة، الاقتصاد، الوعي الحضاري… التي اندلعت منها الكوارث. ولعل الاعتدال في القول من حيث هو عدالة في الاستبصار وعدل في الحكم هو الأكثر خذلاناً وخسارة من سقوط المثقف العربي في اغواء "الجملة القومية" المتهافتة للسياسي العربي، وستكون الصورة اكثر عتمة حين نعد قراءة أعمدة ومقالات، ونستعيد حوارات فضائية ابطالها مثقفون عرب "أدلوا بدولهم" في الموضوع وذهبوا الى ما ذهب اليه السياسي في مداهنة الدكتاتورية الحاكمة، حتى لم نعد نميز بين الداعية والدعيّ فرط غياب التسبيب والاعتدال والموضوعية، بل ان ساسةً وحكاماً بادروا الى الاعتدال والموضوعية اللذين كان يتعين على المثقفين اجتراههما، ففكروا، وتجاوزوا ديباجات السوق، في تبادل - مع المثقفين - للموقع والوظيفة والدور - تبادل يحمل على البحث في جذوره. ان الاعتدال في التفكير والكلام ليس بدعة او شعاراً تفترضه الأسئلة الجديدة لصراع العربي مع الذات ومع الآخر، فقد صاغته الحافظة التراثية العربية كقيمة وسطية بين نزعتي الانكفاء والمغالاة. ذلك ما حدده ابن ابي أصيبعة بالقول انه بين "الغربة والرهبة"، او ما يسميه الغزالي "رذيلتي الغبن والتغابن"، وهو التأني والتصبّر بمواجهة ابتزاز المانشيتات الصارخة لكي تنصرف البيعة الى مكانها ويحط الحكم في موضعه، وهو تمهل عن الجواب مؤجل بالبحث في جوانب السؤال المختلفة. ولم يتخل المصلح والمفكر عن حقه هذا وحصانته تلك مع انه قد يغيظ غيره في ابطاء القول، وكان علي بن ابي طالب قد باهى النفس في التروي في رسالته الشهيرة الى معاوية حين أعلن: "اما البطء فما اعتذر للناس عنه" فيما كان ياقوت قد صف الجواليقي العالم بهذه الكلمات: "كان طويل الصمت، لا يقول شيئاً إلا بعد التحقيق، ويكثر من قول لا أدري". داخل النص الاعلامي القومي للمثقف العربي - في الحالة العراقية - ثمة اهتبال للمستقبل يوم قيّد بعجالة صداقته المجانية لحاكم مستبد برسم مناهضة المعتدي وسياسة الاملاء والاحتلال واستعراض القوة، وكأنه لا يمكن ان تحلّ عداوة لهذا الجانب من دون صداقة للجانب الآخر، او كأن الخيارات اختُزلت الى عداوة وصداقة حسب، وهي معادلة المطلق في المعاينة والتبسيط في التحليل تنبه لخطلها ابو حيان التوحيدي بالقول: "احبب حبيبك هوناً، عسى ان يكون بغيضك يوماً ما. وابغض بغيضك هوناً عسى ان يكون حبيبك يوماً ما". وكان يتعين على المثقف العربي الجديد الكشف عن خطيئة هذا الفن من حكم الفرد الذي أحيل العراق في عهده الى الشيخوخة وهو في عز عطائه وصلابة عوده مما لا يصح ان يكون ذلك الحاكم بريئاً مما حدث، عطفاً على نهج اتسم بالغطرسة والحماقة والقسوة. وليس أدل على عجالة الشهادة الاعلامية للمثقف العربي ازاء الحالة العراقية من الزعم بأن حاكم العراق يقود خيار التحدي ضد الهيمنة الأميركية، ذلك لأن هذه الهيمنة، إذا ما أُخذت بالتروي وأُمعن النظر في شواهدها الحيّة للسنوات العشرين الأخيرة، مدينة لسياساته وحروبه التوسعية. كما انه نفسه عرض ويعرض استعداده مباشرة وعن طريق وسطاء للانخراط في خدمة هذه الهيمنة او مساومتها لقاء مراضاة تسمح ان يحتفظ بمستقبلة السياسي وأن يعود الى موقع، ولو هزيل، في الهيئة الدولية. ولا ريب في ان المثقف العربي تهجى، ولو عن بعد، العمليات القيصرية المبكرة التي صنعت دكتاتور العراق من قاع الشارع السياسي، بمباركة من مراكز الهيمنة، ليرسل ثلاثة أجيال من القيادات السياسية لحزبه الى ساحات الاعدام وليستأصل شواهد التعددية الاجتماعية والفكرية المتأصلة في المجتمع العراقي بالقوة وبواسطة حروب سرية لا سابق لشراستها. وبمقدرة هذا المثقف، إذا ما أراد ا يعتدل في معاينته والاعتدال في اللغة: تقويم السهم ان يستدل بشاهد واحد الى حقيقة هذا الحكم ومسؤوليته عما حدث للعراق، ونعني به العراقي المهاجر والمهجر الى الخارج الذي زادت اعداده على المليونين، وإذا شاء الاعتدال حقاً فليتملّ معنى ان يكون هذا العدد الكبير من بناة الثقافة الوطنية العراقية واعلامها وممثلي تياراتها وأجناسها الأدبية، قد اضطرا الى التخلي عن مواطنتهم وارتضوا المنافي مواطن لهم، مما لا يمكن تفسيره بغير امعان الحاكم في تبديد أسباب النهضة المدنية، وغير ضيق سواحل هذا الحكم من ان تتسع للثقافة الحيّة، الطليقة، وغير المرائية. اما المثقفون الذين قاوموا "الجملة القومية" المتداولة للسياسي العربي وتحصنوا ضد ارهابها وكذبتها الجديدة، فقد اكتفوا بمجد ان لا يكونوا شهود زور، مثل نجيب محفوظ الذي أبى توقيع نداء بالتضامن مع العراق ينفذ الى تبرئة حاكمه مما حل به، ومثل ادونيس الذي ألقى بالدعوة لحضور مربد السلطة الى سلة القمامة. وفي نص صادق السريرة لاحظ قاسم حداد ان الساسة صنعوا من طينتهم صنماً "تركوه حارساً جسوراً للبوابة الشرقية، قالوا واطمأنوا، ولم تكن هنا بوابة شرقية وانما شُبّه لهم" ورصد حقيقة ان تواطؤ الوعي الثقافي ازاء هذه الأكذوبة "جرنا الى حلبة تعج بالمحن وفوضى التأويل". وشاء فؤاد زكريا ان يستبق ما سيحدث يوماً ما، ليتأمل المصير المخزن لجماعة المثقفين المستسلمين لمشيئة السياسي، بالقول: "ان الكثير من أفرادها لم ينقدوا انفسهم بعد ان ارغمتهم الأحداث على تغيير صورة الزعيم من بطل الى طاغية… وهكذا تظل هذه العقول تكابر وتبدد نصف حياتها في تبرير الأخطاء". وستدفع الحقيقة ثمن هذا التعسف قبل ان ندخل الطور الثاني من مرحلة الانحطاط، تسبقنا اليه الجملة القومية في ردائها الزائف الجديد.