لم تكن هناك مفاجأة في العرض الذي قدمته اسرائيل للانسحاب من جنوبلبنان . وكما كان يبدو من تصريحات نتانياهو وموردخاي ولوبراني وسائر أفراد العصابة، فإن المطروح اسرائيلياً ليس الانسحاب وانما الترتيبات الأمنية. كل ما فعلته الحكومة الاسرائيلية انها صاغت تلك التصريحات في بيان يتنازل بقبول القرار 425. وواضح من لهجة البيان ان اسرائيل لا تحترم حكومة لبنان التي تدعوها مع ذلك الى مفاوضات، أي أنها لا تزال عند صلف المفاوض الذي واجهه الوفد اللبناني في لقاءات واشنطن غير المجدية بعد مؤتمر مدريد. ولم يكن هذا المفاوض أحداً آخر غير لوبراني، المهووس بذهنية "اتفاق 17 ايار" 1983 وبهواية اللعب على التناقضات اللبنانية الداخلية، كذلك باللعب على التناقضات اللبنانية - السورية. في المقابل، لا يبدو رد بيروت على مستوى الحدث، اذ لا يزال الجانب اللبناني يعطي انطباعاً بأنه مرتبك وذو هواجس على رغم انه توفر له كل الوقت اللازم لتحضير رده. للمرة الأولى يبدو صاحب أرض محتلة محرجاً حيال قوة الاحتلال التي تعرض الانسحاب من أرضه. اذا كان سبب الارتباك هو الشروط الاسرائيلية فهذا لا يمنع لبنان من أخذ الفرصة المتاحة وتجييرها لمصلحته، فلا أحد يستطيع فرض الشروط عليه، لكنه مدعو بل مجبر على القيام بحملة ديبلوماسية قوية لشرح موقفه من الشروط. لا بد ان يكون الموقف اللبناني مفهوماً جيداً على المستوى الدولي، لئلا يخسر مستقبلاً إمكان الدفاع عن قضيته. اذ ان استمرار التلكؤ على هذا المنوال سيجعل القرار 425 سلاحاً في يد اسرائيل في حين انه صدر أصلاً لمصلحة لبنان ضدها. صحيح ما ذهب اليه بيان الحكومة اللبنانية عندما قال إن العرض الاسرائيلي يحمل في ذاته العناصر التي تلغيه. فقوة الاحتلال التي تضع شروطاً على انسحابها من أرض احتلتها تعني أنها لا ترغب فعلاً في الانسحاب، واذا رغبت في ذلك فلقاء ثمن للانسحاب. وبديهي ان هذا الثمن قد دفع أصلاً بحجم الخسائر البشرية للبنانيين في الجنوب، فضلاً عن الدمار في العمران والارزاق اضافة الى الدمار النفسي والمعنوي. وكل ذلك لا يقاس اطلاقاً بما تدعيه اسرائيل عن معاناة "مناطقها" الشمالية التي استولت عليها أصلاً بالقوة وخلافاً للقوانين الدولية وميثاق الاممالمتحدة. ولا بأس ايضاً في الدعوة اللبنانية الى استئناف المفاوضات في اطار صيغة مدريد، حتى ولو حرصت على القول باستئنافها "من النقطة التي وصلت اليها" - باعتبار أنها لم تصل الى أي شيء على المسار اللبناني - ولكن السؤال يطرح نفسه: هل لبنان مستعد فعلاً لاستئناف هذه المفاوضات على مساره وحده مع استمرار الجمود على المسار السوري؟ وهل حسم لبنان أمره بپ"التضحية" من أجل تلازم المسارين؟ وهل يستطيع لبنان ان يتحمل فعلاً هذا العبء؟ يلفت في هذا المجال قول الأمين العام للامم المتحدة ان هناك "زاوية سورية" لا يمكن تجاهلها في موضوع الانسحاب الاسرائيلي. لكن هذا التعبير مطاط وملتبس، وبالتالي يحتاج الى تعريف وتحديد، خصوصاً ان القرار 425 واضح كل الوضوح في تأكيده سيادة لبنان على أرضه. في المرحلة المقبلة لا بد من تفعيل دور الاممالمتحدة في العمل على تنفيذ القرار 425، فهذا من اختصاصها وصلاحيتها. لكن الأهم من عرض الانسحاب اسرائيلياً معرفة الخطة التي وضعتها اسرائيل لتنفيذه، اذ لا شك انها ستعمد الى استفزاز لبنان وبالتالي الى استفزاز سورية في لبنان مستقوية بأن هدفها هو "الانسحاب" لا البقاء في الأرض التي تحتلها. الرأي العام الدولي لا يستطيع رفض هذا الهدف، ومن شأن لبنان ان ينشط ديبلوماسياً ليكسب رفضاً دولياً للشروط الاسرائيلية. المهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة.