يليق بجمهور الفن والثقافة في الشارقة، إقامة مهرجان للموسيقى العالمية. هذا المهرجان الذي اختتمت دورته الثانية أخيراً، بحفلة أميمة خليل ولينا شاماميان؛ لا يمكن النظر إليه بوصفه مجموعة حفلات موسيقية وغنائية أحيتها المدينة الإماراتية الجميلة وحسب، بل بوصفه تجربة تستحق التأمل والتوقف، كون الوعي المؤسس لهذه التظاهرة الموسيقية (مركز فرات قدوري للموسيقى وهيئة التطوير والاستثمار بالشارقة "شروق") اختارا منذ البداية أن يقدما الموسيقى والأغنية التي تتعمد إعادة إنتاج الذائقة الموسيقية والغنائية، بل والإصرار على تصحيحها وسط فوضى الأغنيات الاستهلاكية الرائجة، وأيضاً بما يتناسب ومزاج مدينة الشارقة ذات الطابع والهوية الثقافية المعروفة، في احتفائها بمهرجانات المسرح والشعر والرواية واحتضانها لواحد من أكبر معارض الكتب في الوطن العربي. تدشين مهرجان الشارقة للموسيقى العالمية ونجاحه في تشكيل هوية خاصة به، جاء ليكمل الحلقة الجمالية ويعلن الوجه الفني الأحدث للشارقة، إنها الموسيقى والغناء البهيج وذلك عبر الاستعانة، بأحد أهم الأكاديميين وأستاذة الموسيقى العرب وهو المؤلف وعازف القانون العراقي فرات قدوري الذي أسس عام 2012، مركز فرات قدوري لتعليم الموسيقى كأول أكاديمية للموسيقى في الشارقة، لتكون اللبنة التي انطلق منها قدوري لطرح فكرة مشروع إطلاق مهرجان للموسيقى من هذه المدينة الإماراتية العاشقة للثقافة والفنون. وبدعم مفتوح من "شروق"، دُشن المهرجان، وفق اختيارات قدوري الفنية والموسيقية والغنائية بالغة الدقة، فكان الافتتاح الجماهيري المدهش مع كاظم الساهر في مسرح المجاز ذي الهيكل الروماني والتصميم الشرقي الواقع داخل بحيرة خالد. هذه الحفلة الساهرية التي لامس جمهورها الأربع آلاف متفرج، وامتدت لما يزيد على الساعتين والربع، لم يترك فيها الساهر أيقونة من أيقوناته الشهيرة إلا وغناها للجمهور المتعطش لقيصر الأغنية العربية في أول ظهور له على مسرح بالشارقة. فمن "أنا وليلى" إلى "الحب المستحيل" وصولاً ل "قولي أحب" حتى "كثر الحديث"، أشعل كاظم الساهر مدرج مسرح المجاز بالتصفيق والهتاف وترديد مقاطع من أغنياته الشهيرة، دون أن ننسى اصرار الساهر على أن تكون أسعار التذاكر مقبولة من الجميع وهو ما كان في الأساس في وعي الجهة المنظمة. نجاح حفلة القيصر كان افتتاحية المهرجان القوية، لتنطلق الليالي التالية مع الموسيقى العالمية، وفرقة الثلاثي "كانيلا" بعضواتها الثلاث: عازفة القيثارة البلغارية ليديا ستانكولوفا، وعازفة الناي الكوبية مالينا إفيلا، وعازفة التشيلو الأرجنتينية كلارا أسوجي والمشترك الذي جمع بينهما: عشق الأغنية العربية، مقدمين للجمهور موسيقى أغنيات لفيروز وأم كلثوم..الخ. ليلة مدهشة أخرى، كانت مع عازف العود العراقي صادق جعفر، وهي الليلة التي لم تمنع الرياح القوية والأمطار الغزيرة من توافد الجمهور لمسرح القصباء من أجل حضور حفلة صاحب ألبوم: (ليالي العود العربية) وهو يبهر الجمهور بعزفه الرقيق والمستلهم من مناخات العود العراقي العريق. الفن المصري كان حاضراً أيضاً من خلال فرقة دار الأوبرا المصرية، عبر حفلة موسيقية محضة، قادتاها: رئيس دار الأوبرا الدكتورة إيناس عبد المنعم وعازفة الماريمبا نسمة عبدالعزيز، التي لم تترك للجمهور فرصة لالتقاط انفاسه من خلال عرضها الفاتن على آلة الماريمبا، بطريقة لا تخلو من المسرحة والاستعراض الساحر. ومن دمشق، جاءت فرقة التخت الشرقي النسائي السوري، لتقدم مقطوعات من الفلكلور السوري بصوت ايناس لطوف التي أدت أيضاً أغنياتٍ مصرية، في الوقت الذي كان الجمهور متعطش للقدود الحلبية والتراث الغنائي السوري. ليلة الغيتار العالمية كانت مع عازف الجيتار الانجليزي جيسون كارتر بزيه المستلهم من موضة السبعينات، وايضا مع عازف الجيتار اللبناني كمال مسلم في مزجه اللافت بين الجيتار والعود. غير أن الختام المسك لم يكن أقل جماهيرية ونجاحاً من الافتتاح الساهري، يكفي أن نعرف أن أميمة خليل ولينا شاماميان ستتواجدان في مكان وليلة واحدة (جزيرة العلم)؛ ففي الحفلة الأخيرة، افتتحت خليل الأمسية بروائع تجربتها الهامة والمفصلية مع مارسيل خليفة، كأغنية: (تكبر.. أحبك أكثر) و(عصفور طل من الشباك) و(الكمنجات) ولكن بصحبة فرقتها اللبنانية بقيادة الملحن هاني سبليني والتي قدمت له أميمة في الحفلة، أغنية (الطبقة الوسطى) من ألبوم "زمن". وهو الألبوم الذي وصفته أميمة خليل: "بأنه رثاء لحالنا"، كما في أغنية (ظلالنا) من كلمات الشاعر السوري هاني نديم. وقد برعت الفرقة الموسيقية في مصاحبة أميمة وهي تشدو بأغنيات صوت أميمة الأصدق في التعبير عن روح الأغنية اللبنانية وعوالمها الخاصة جداً والجميلة، مع مطربة مستقلة عرفت بالالتزام طوال مسيرتها الإبداعية. أما المطربة السورية الأرمنية لينا شاماميان، فحضرت بكل عنفوانها وهي تقدم أيقوناتها الغنائية الشهيرة من الفلكلور، ك "بالي معاك" و"أسمر اللون" ومن روائع من ألبومها الأخير (غزل البنات). كأغنيتها الروحية ذات الجرعة الطربية العالية "أول مسافر" للشاعر ماهر صبرا، مروراً، بأغنيات "شهرزاد" و"عالروزنة" و"آخر العنقود"، التي تجلت فيها لينا بصحبة الفرقة الموسيقية القادمة من مصر. وفق ترتيب أغنيات موفق، لم يترك مكاناً للملل أو الاسترخاء، ما دفع الجمهور السوري المتواجد بكثافة في الحفلة "الشارقية"، للطلب من لينا أن تغني "موطني" بوصتها الموصول بحبل الحنين إلى دمشق المتشحة بالحزن والسواد. الأغنية الأرمنية أيضاً حضرت، بأغنية (حلالي) وسط تفاعل الجمهور المصر على استمرار الحفلة التي امتدت أكثر من ساعتين، وكانت فيها لينا شاماميان "الكاركتر" الذي أبدع في تقديم أغنيات جمعت بين الطربية والحضور العبق بالشوق، كما في أغنية (شآم) من البوم (شامات). وبين الوصلتين، كان الحضور الإماراتي مع وصلة عازف العود فيصل الساري الذي قدم عدداً من التقاسيم الموسيقي على مقامات مختلفة، لفتت انتباه وتحية الجمهور الذي غادر المسرح بعيد نهاية الحفلة، وكله أمل، بدورة جديدة لا تخلو من مفاجآت مهرجان الشارقة للموسيقى العالمية. لينا شماميان أميمة خليل في مسرح قصر العلم في الشارقة