كان صدور قرار مجلس الأمن رقم 1145 بناء على مذكرة التفاهم بين كوفي أنان سكرتير هيئة الاممالمتحدة والسلطات العراقية، نهاية مرحلة وصلت فيها الأزمة إلى حافة الهاوية التي إن تخطاها احد الأطراف حدثت المواجهة المباشرة باستخدام القوات المسلحة. وكان صدور القرار نفسه بداية مرحلة جديدة تشكلت فيها الأزمة بصورة أخرى. فصدور القرار شيء وخطواته التنفيذية في مسرح الأحداث شيء آخر. وقد قررنا في مقالنا السابق ان الفتائل لا تزال موجودة، وأن الانفجار يمكن ان يحدث في اي وقت، وأن الزلزال محتمل الوقوع بما يترتب عليه من توابع لا يمكن التكهن بمداها. وحتى لا يفهم أننا وضعنا العربة امام الحصان، بدأنا في مناقشة قضيتين: الأولى تتعلق بمن يضيء النور الأخضر لتحرك الحشود الأميركية - البريطانية في منطقة الخليج وحولها لتنفيذ عملية "رعد الصحراء"، أي من الذي يحدد ساعة الصفر ويومها، والقضية الثانية تتعلق بمن سيحدد تجاوز اللاعبين الخطوط الحمر التي حددها القرار 1154؟ ومن مناقشتنا للقضية الأولى ظهر ان الأمر باشعال النور الأخضر يحيطه الغموض ولم يمكن لأعضاء مجلس الأمن الاتفاق عليه بطريقة قاطعة. فهل هو البيت الأبيض في واشنطن، أم هو مجلس الأمن في نيويورك؟ وهذا أمر مقلق لأن الحشود الكثيفة لا تزال في اماكنها تُكثف من استعداداتها على الدوام. ووسط الغموض الذي يحيط بالوضع نناقش القضية الثانية التي تتعلق بمن سيحدد تجاوز اللاعبين الخطوط الحمر التي حددها القرار 1154؟ وهو موضوع مهم جداً، لأن اهتمام العالم يركز عادة على الأوضاع عند إطلاق الطلقة الأخيرة، ولا يهتم كثيراً بالأوضاع عند اطلاق الطلقة الأولى ولا بمن اطلقها خصوصاً ان الولاياتالمتحدة قادرة على إطلاق الطلقة الأولى في المكان الذي تريده وفي الوقت الذي تحدده وبالطريقة التي تختارها لافتقار اللاعبين الآخرين الى قوة الردع والقدرة على العقاب ولعدم احترام الولاياتالمتحدة للشرعية الدولية وتهديدها باتخاذ الإجراءات الانفرادية التي قد تقوم بها حسب نظرتها للامور. والقضية هنا هي أكثر تعقيداً وتشعباً لتعدد الفرق التي تلعب في المسرح ولحساسية المواضيع التي تبحث فيها، وهي مواضيع تتعلق بالبحث عن اسلحة التدمير الشامل وتدميرها. والشيء الذي يبعث على الدهشة هو ان هذه القضية لم يتم الانتهاء منها بعد 7 سنوات كاملة من البحث وتقويم الأوضاع وتقديم تقارير، ما يجعلنا نعتقد ان القضية هي سياسية اكثر منها فنية، تماماً كقضية "لوكربي" التي أدت الى فرض الحصار على ليبيا لتحقيق اغراض غير التي يعلن عنها. كانت الأمور قبل صدور قرار مجلس الأمن الأخير الرقم 1145، وبموجب القرار القديم 687 وفقرته 20 الشهيرة بخصوص موضوع التفتيش في اللجنة الخاصة للأمم المتحدة التي كان يرأسها رالف اكيوس ثم تلاه ريتشارد بتلر الرئيس الحالي، وهي تبحث في محاور ثلاثة: الصواريخ والأسلحة الكيماوية والأسلحة الجرثومية. وافتتح بتلر عمله بأعمال مثيرة تتنافى تماماً مع الحياد الذي يتحتم ان يلتزم به، ثم اطلق قنبلته بأن لدى العراق اسلحة كيماوية كافية لتدمير تل ابيب، وكان يعاونه في عمله - ولا يزال - مفتشون مثيرون للجدل والأعصاب مثل، سكوت ريتر الذي اتهمه العراق صراحة بالجاسوسية وأبعده مع غيره خارج العراق. ولكن عاد اليها مرة اخرى بعد صدور قرار لمجلس الأمن. إلا أن هذا الوضع كان موضع شكوى من العراق، إذ ان التفتيش كان يتم من دون تحديد مدة ينتهي فيها، وبذلك لم تكن هناك شمعة مضيئة في نهاية النفق الذي ادخل العراق نفسه فيه. وأصبحت الفقرة 20 من القرار 687 التي تقرن التفتيش باعلان العراق منطقة نظيفة، ومن ثم ترفع العقوبات، وكان ذلك أهم سبب لإثارة الأزمة الأخيرة حتى يعاد تشكيلها في صورة اخرى. ولذلك جاءت الفقرة 7 من مذكرة التفاهم لتعالج هذه الثغرة وتعطي املاً غير محدد برفع العقوبات آخر الأمر. وكأن كل هذا لم يكن كافيا لتعقيد الأزمة فأضيفت اليها جماعة تفتيش ما سمي بالمواقع الرئاسية الثمانية، الأمر الذي تجري معالجته الآن بتشكيل فريق خاص يرأسه جاناثا دانابالا الذي وصل الى بغداد فعلاً وبدأ في تشكيل اعضاء فريقه الذي يتكون من 22 عضوا منهم اعضاء من اللجنة الخاصة التي يرأسها بتلر وممثلون من الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبعض الديبلوماسيين الموجودين في بغداد وهذا يعني ألا يكون بينهم اميركيون أو بريطانيون، لأن العلاقات مقطوعة بين العراق وكل من الولاياتالمتحدةوبريطانيا. ويلاحظ ان هذا الفريق لن يبدأ عمله إلا بعد اسبوعين مما يتيح للعراق اخفاء أي وثائق أو مواد خاصة بالأسلحة المحظورة داخل المواقع الرئاسية الثمانية. ويوحي هذا بأن الغرض من تشكيل الفريق هو تأكيد حق الأممالمتحدة في دخول أي موقع مطلوب تفتيشه اكثر من التفتيش من الناحية الفنية. وهذا الفريق سيرفع تقاريره الى مجلس الأمن من خلال الأمين العام للامم المتحدة إلا ان ريتشارد بتلر يصرّ على ان تعبر التقارير من خلاله ايضا. وعلاوة على ذلك عين الأمين العام للامم المتحدة ممثلاً شخصياً له في بغداد هو براكاش شاه الذي سيكون عيون الأمين العام وآذانه ولكنه لا يملك سلطة على فريق التفتيش وسيقتصر دوره على ان يكون حلقة اتصال بين القيادة العراقية والأمانة العامة للامم المتحدة، ولن يتدخل لحل أي مشاكل خاصة بعمليات التفتيش بتطبيق اتفاق النفط مقابل الغذاء، ويبقى دوره محدوداً بالإبقاء على الحوار لحل المشاكل ولتوفير حسن النية. وتدخل روسيا على الخط لعمل "عقدة" أخرى في الحبل الطويل الذي يكون العراق في نهايته، فيتقدم المندوب الروسي لدى الاممالمتحدة بطلب تعيين مساعد روسي لرئيس اللجنة الدولية لإزالة الأسلحة المحظورة في العراق ريتشارد بتلر، ويسارع بيل ريتشاردسون السفير الاميركي لدى الاممالمتحدة بالتعليق عليه، قائلاً: "على جثتي". ويضطر أنان بحركة إجرائية للتمهيد لعرض الطلب الروسي على مجلس الامن "ولو انني متأكد ان الفيتو الاميركي لن يسمح بتمريره" ثم يعود يتلكأ في عرضه حتى يحاول اقناع بيل كلينتون بالموافقة عليه، لكن هذا الأخير يرى في تصريحه عقب اللقاء "انه لا حاجة الى ذلك". وكما نرى فإن مسؤولية تحديد التجاوز العراقي للخط الأحمر غامضة هي الأخرى، فهل الولاياتالمتحدة هي التي ستقرر ذلك ام يترك القرار للجان وفرق الاممالمتحدة؟ المقلق في الأمر هو ان كل هذا يتم في ظل حشود متزايدة في الخليج وحوله، وإدارة اميركية غاضبة ومتميزة في واشنطن لا تريد ان تدفع استحقاقاتها للأمم المتحدة والتي بلغت 2،1 مليون دولار، وهيئة دولية تسيرها في واقع الحال سيطرة اميركية في يدها الحل والربط عن طريق فيتو يستخدم برعونة وبلا منطق. إذن فالأزمة العراقية تتحرك بين ترقب اضاءة النور الأخضر لبدء عملية "رعد الصحراء" وبين خطوط حمر قد يتم تجاوزها. ومسؤولية تقرير التجاوز أو إضاءة النور الأخضر غير محددة تماماً في الظاهر، ولكنها في واقع الحال في يد الولاياتالمتحدة وذيلها بريطانيا، الأمر الذي يجعلنا أمام احتمالات ثلاثة: الاحتمال الأول: وهو إلغاء عملية "رعد الصحراء" واتباع استراتيجية الردع من دون قتال لتنفيذ الأغراض السياسية من خلال الضغط باستخدام القوة. ولكن هذا الاحتمال لا يمكن تنفيذه عملياً إلا اذا حُدد موعد لرفع العقوبات عن العراق وعودته كعضو في الجماعة الدولية، أي بنزع الفتائل تدريجياً وبناء على برنامج زمني متفق عليه، مع ملاحظة ان هذا مرتبط تماماً بحل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي في قلب المنطقة. الاحتمال الثاني: وهو تنفيذ عملية "رعد الصحراء" بعد اسابيع قليلة يحددها إمكان بقاء الحشود واستمرارها في مواقعها الحالية، إذ ان بقاء القوات في حال استعداد مرتفعة لمدد طويلة أمر مستحيل ولأن الغرض الحقيقي للولايات المتحدة ليس تدمير الترسانة العراقية التقليدية أو اسلحة التدمير الشامل فقط فهذه مجرد اهداف لتنفيذ الغرض الاصلي وهو تدمير القدرة العراقية الشاملة كجزء من تدمير القدرة العربية الشاملة. كما اوضحنا في مقالنا السابق "القدرة العربية الشاملة في مهب الرياح" في "الحياة" بتاريخ 22/2/1998. الاحتمال الثالث: وهو تنفيذ الحل الثاني مؤجلاً ومرتبطاً بالوقت الذي يقرب فيه رفع التقارير النهائية لجماعات التفتيش الدولية أو الفرق الخاصة، وقد يقتضي هذا إعادة انتشار الحشود الموجودة بصفة موقتة وتحسين العلاقات مع ايران والذي بدأت خطواته الأولى عن طريق "ديبلوماسية المصارعة" باشتراك فريق المصارعة الاميركي في دورة طهران "كديبلوماسية البنغ بونغ" التي بدأها نيكسون - كيسنجر للاقتراب من بكين لحل ازمة فيتنام في السعبينات لأن المحافظة على الغرض هي من أهم صفات استراتيجيات الدول العظمى ولأنه بعد انتهاء الحرب الباردة على المستوى الإعلامي أستبدل العدو السوفياتي بالعدو العربي - الإسلامي. هذه هي الاحتمالات، فماذا نحن فاعلون لتفويت الفرصة عليهم؟ بكلمتين مختصرتين: تفويت الفرصة عليهم هو في يد بغداد وفي ضم الصفوف لبناء نظام عربي حقيقي في كل العواصم العربية بواسطة اصحاب القرار. ولكن كيف؟ هذا مسؤولية الادارة العربية لجهة أنه يجب ألا تكتفي بالنظر الى من يتخطى الخطوط الحمر أو يقترب لإضاءة النور الأخضر، فكل فعل لا بد له من رد فعل، ورد الفعل يحتاج الى الإدارة.