ربما تبدو ظاهرة التمزق الذي تعاني منه المعارضة العراقية في الوقت الراهن إحدى أبرز ملامح الانهيار التي أصابت المشروع الوطني العراقي الذي صيغت اتجاهاته العامة في تشرين الأول اكتوبر عام 1992 في مؤتمر صلاح الدين الذي حضرته غالبية التيارات والقوى العراقية المعارضة. وهذا الانهيار رافقه صعود وتسلق للطرف الآخر المتمثل بالنظام العراقي على كل الأصعدة بما في ذلك العلاقة مع الطرف الكردي المؤثر، وهو الحزب الديموقراطي الكردستاني، حيث قضي بصورة شبه نهائية على عنصر المقاومة للنظام في كردستان التي كانت حسب معطيات مؤتمر صلاح الدين المنطقة المعول عليها في زعزعة الوضع وانعاش حركة الرفض الشعبية للسلطة المركزية. فمنذ اندلاع القتال الكردي - الكردي، وزحف القوات العراقية على مدينة أربيل والمناطق الأخرى، وإنهاء وجود المراكز والمكاتب والتجمعات العراقية المعارضة، بدأ العد التنازلي في أوساط هذه المعارضة التي فقدت في مسعود بارزاني حليفاً فعالاً ومؤثراً في ميدان مواجهة النظام، وعنصراً أساسياً في المشروع الوطني العراقي لاعتبارات كثيرة، منها أنه يسيطر على مناطق واسعة ومهمة في كردستان العراق، فضلاً عن كونه ممثلاً لقطاعات واسعة من الشعب الكردي، وعنده مجاميع كبيرة من المقاتلين الأشداء الذين تمرسوا في حرب العصابات منذ عقود طويلة. ولسنا هنا بصدد تقييم ابتعاد بارزاني عن المعارضة، لكن لنا أن نسجل في هذا الخصوص إشارة توثيقية بحتة، وهي ان بارزاني لم يذهب للنظام العراقي نكاية بالمعارضة، وإنما ذهب بعد ان ذاق العلقم من هذه المعارضة، وفقد الأمل كلياً في تحول الوضع باتجاه العمل الجدي والفعال انطلاقاً من حسن النوايا والتكافل واحترام الاتفاقات. بعد انفراط الاتفاقات الكردية - الكردية تصاعدت حدة الخلافات في أوساط المعارضين العراقيين من العرب، فبدأت حملات التشهير والاساءة والاتهام تسيطر على الساحة السياسية العراقية عموماً، وبذلك انهارت كل المحاولات لانقاذ المشروع الوطني العراقي من السقوط، وربما كان البعض من قادة المعارضة العراقية يأملون إلى وقت قريب بامكان ترميم الوضع، لكنهم اصيبوا بخيبة أمل كبيرة جراء إصرار البعض من الأطراف العراقية المعارضة على مواصلة نهج الاختلاف بدلاً من نهج الوحدة، ونهج الحرب الاعلامية ضد بعضها بعضاً بدلاً من التفاهم والحوار الموضوعي، وكأن هذه الظاهرة، ويقصد بها ظاهرة المواجهة والصراع غير المبدئي كانت تحركها جهات أخرى لها مصالح محددة في اضعاف وإلهاء المعارضة العراقية وتشتيت صفوفها، لأن مجمل الاختلافات والصراعات التي أثرت في هذه المعارضة لم تكن تتعلق بالمصلحة الحقيقية للشعب العراقي، لذلك فإنها ربما كانت صراعات مفتعلة تحركها وتغذيها ممارسات أشخاص أو جهات محددة، حيث يلاحظ من خلال هذه المواجهات التي وصلت إلى حد انتهاك الحرمة الشخصية للأفراد ان المستفيد الأول والأخير ليس الجهات العراقية المعارضة، وإنما تلك الجهات التي لها مصلحة في تصعيد حال التناحر والصراع الذي اكتسب مضامين غريبة جداً عن منطق الحوار الهادف والنقاش الموضوعي الذي يصب في خدمة النوايا الطيبة التي يتطلع إليها كل العراقيين من ضحايا النظام. السؤال هو من المستفيد من كل ذلك؟ يقيناً أن النظام العراقي أول المستفيدين، لكن ما هي دوافع أولئك الذين يحاولون تأجيج حدة الحرب بين بعض قوى المعارضة العراقية؟ ربما يكون ذلك بدافع التفتيش عن وسائل لإعادة فرز المعارضة وتشكيل ذهنية مختلفة للرؤيا السياسية لمستقبل العراق، وهذا الدور تنوط به عناصر متداخلة في هذا الوسط العراقي الواسع، وقد يكون احتمال لجوء هذا النفر من المعارضين إلى اسلوب خلط الأوراق بغية تفتيت المعارضة أولاً ثم البحث عن إطار جديد يخدم الذهنية التي تطالب بإعادة صياغة الوضع في ضوء الظواهر العاصفة بالمعارضة العراقية، وذلك بالاقتراب من النظام العراقي أكثر فأكثر ما دامت بعض الدول الاقليمية بدأت تمهد لهذا الاقتراب، وما على أطراف المعارضة سوى الاستعداد للانعطاف اللاحق متى ما استعاد النظام العراقي شروط تأهيله المفقودة. لا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير الخلافات التي أخذت اتجاهاً آخراً غير اتجاه الاحتكام إلى المرونة والتسامح والتفاهم وتغليب مصلحة الشعب العراقي على المصالح الذاتية للاحزاب والقوى والشخصيات المتصارعة. أقول لا يمكن تفسير ذلك على أنه انعكاس للاختلاف في وجهات النظر السياسية والاستراتيجية. فمعظم القوى المتصارعة تلتقي من خلال برامجها وسياساتها العامة على جملة من القضايا الرئيسية المهمة المتعلقة بالوضع العراقي، كما ولا يمكن تفسيرها بأنها صراع بين القادة للسيطرة على القرار السياسي المعارض لأن هؤلاء القادة يعلمون جيداً أنهم يشكلون جزءاً بسيطاً في جسم المعارضة العراقية، التي تجمع عشرات القوى والتيارات، وهذا الأمر مستبعد جداً، إذن فإن هذه الظاهرة لها أبعاد أخرى غير هذه أو تلك، ويقيناً ان قادة هذه الجهات لا يحبذون الاستمرار في منهج الخلافات التي يتبناها أشخاص آخرون، لذلك فإن ردود فعلهم تقول إنهم يدركون حجم المأساة التي يتعرض لها المشروع الوطني العراقي المعارض، ولكن عليهم ان يوقفوا هذا التناحر الآن، وهذا هو مطلب الشارع العراقي، وأن يضعوا بدلاً عنه منهج التسامح والتفاهم والنقد الموضوعي، فالمشروع الوطني العراقي مهدد الآن لا فقط في اطار الصراع الذي يقتحم المعارضة العراقية ويفتت قواها، وإنما مهدد أصلاً من قبل النظام العراقي، وبعض الدول الاقليمية التي لا تتمنى لهذه المعارضة تحقيق أهدافها البعيدة، لذلك فإن منطقة الحسم التي تتحرك منها بعض الدول الاقليمية كتركيا وإيران في تكريس انشقاق الأكراد وتقاسم ولاءاتهم، إنما تشكل عنصراً آخر في عملية تهميش المشروع الوطني العراقي المعارض. كان ولا زال مطلب تحويل كردستان إلى قاعدة شاملة للمعارضة العراقية يشكل أحد أبرز المطالب، بيد أن الخلافات والصراعات بين الأكراد حالت دون تحويل هذه المنطقة إلى إطار نموذجي لوحدة التيارات العراقية المختلفة، كما وفشلت أيضاً قضية تحقيق الحقوق القومية المستندة إلى مواثيق واتفاقات مقرة، فلا الأكراد حصلوا على حقوقهم، ولا بقية الأقليات القومية، مما دفع التركمان داخل منطقة النفوذ الكردي للمطالبة بحقوقهم، وهذا يعني حقوقاً ضمن حقوق، فليس من المعقول أن يحصل الأكراد على حقوقهم وفي داخلهم تعيش قومية أخرى ليس لها حقوق، وهذا ينطبق على الآشوريين الذين سلبت حقوقهم على مر العهود والأزمان، وهم من أهل العراق القدامى والاصليين، وهذه الظواهر التي يمكن تسميتها ب "تناسل العصبيات" قد تكون صحيحة لأنها مرتبطة بواقع ملموس، فكل هذه القوميات لها حقوق معلومة ولكن مع كل ذلك لا بد لنا ان نشير إلى ان المطالب بالحقوق القومية في ظل الوضع الراهن ربما تؤدي إلى ارباك في الاستراتيجية السياسية للمعارضة. فالانفصام بين الهدف العام والهدف الخاص في الوقت الراهن مسألة حيوية للوصول إلى نتائج ايجابية تخدم المشروع الوطني العراقي المعارض، وإذ قلنا إن إحدى أبرز الانعكاسات السلبية على وضع المعارضة كان نتيجة انغمار القوى الكردية في إطار البحث عن تحقيق المصلحة القومية لها بذاتها في وقت كان فيه الزمن يمضي باتجاه تغيير النظام، مما عرقل التنفيذ الشامل للمشروع الوطني العراقي المعارض وساهم في خلق بؤر جديدة للصراع في إطار كردستان العراق، ومهد للنظام العراقي الطريقة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب أوضاعه، وما هي إلا فترة من الزمن حتى تمزقت اللحمة بين القوى الكردية الرئيسية، وضاعت فرصة الانتقال من مرحلة ثورية إلى أخرى متقدمة تتعلق بالعراق كله. والحال أنه لا يمكن للمعارضة العراقية في إطار الوضع الراهن تحقيق مستوى معين من التعاون الصحي لا في الداخل ولا في أوروبا والولايات المتحدة، إذا لم تطور وجودها في كردستان العراق، وإذا لم تستطع ترميم ما اصيبت به من خراب في علاقاتها مع بعضها بعضاً، فيجب عليها أن تفكر جلياً بأنها ينبغي أن تجعل من كردستان العراق نموذجاً مصغراً لعراق المستقبل، فإذا كان هذا النموذج مشوهاً وقاصراً، فإن ذلك التشويه سوف يمتد نحو العراق كله وتصبح صورته المنتظرة صورة مشوهة أيضاً، أما إذا كانت صحيحة ومنسجمة وتعبر عن شكل التعاون والتلاحم وتقدر حال الاختلاف الموضوعي وتعتمد على منهج الديموقراطية الحقيقية، فإن عراق ما بعد صدام لا بد أن يكون في وضع صحي ومنسجم. إن المرحلة الراهنة مرحلة دقيقة وخطيرة، تتطلب من رجالها أن يكونوا في مستوى المسؤولية وأن لا يتحولوا إلى أشخاص يستأنسون بعوامل الخلاف والصراع والمواجهة غير المبررة، فيجب والحال ايقاف الاساليب المدانة في التعامل بين بعض الأطراف العراقية المعارضة، فلا يمكن استساغة حرب "الفاكسات" و"الأعمدة الصحافية" الهجومية ضد البعض والبعض الآخر. فالعراقيون جميعهم يعرفون الحقائق ويعرفون ما ستؤول إليه هذه الوسائل، لذلك فإن الجميع يستهجنوها، ويطالبون جهاتها بالتوقف عن مواصلة هذه الطريقة والانتقال إلى الأساليب التي تخدم توجهات المشروع العراقي المعارض، لأنه هو الذي نحتاجه، أما الخلافات غير المبررة فيجب تأجيلها إلى ما بعد تحرير العراق.