تستهدف هذه السطور صياغة مجموعة محدودة من المقترحات والأفكار او الخطوط العريضة بخصوص ضرورة رفع دعاوى قضائية ضد بعض من مجرمي الحرب الصهاينة، من ناحية، وبخصوص امكانية دفع الامور من ناحية عملية واجرائية بهذا الاتجاه وربما النجاح في انعقاد محكمة خاصة بهذا الصدد، من ناحية ثانية. وهي افكار اولية بمعنى انها ما زالت بحاجة الى التعميق والتطوير والتعديل والاضافة، و/أو يمكن استخدامها كورقة عمل لاطلاق النقاش لهذا الغرض نفسه. وسوف اقوم هنا بعرض فكرتي بأقصى ما يمكنني من الوضوح وبأقل ما يمكن من الكلمات، على ان أتناول الحيثيات الفكرية والسياسية للاقتراح في مقال لاحق آخر. ينبغي ان أشير الى ان هذه الملاحظات تستند الى فرضية مركزية قوامها القول بوجود ترابط وثيق بين الشرعيات السياسية ومصادرها الاخلاقية وإذن الفلسفية التي تؤسس لها. بيان ذلك، كما لا يخفى، ان الشرعية السياسية، اي المبرر الفكري والاخلاقي لكل اجتماع انساني ولكل سياسة على الاطلاق، في رأسمال معنوي يُكتسبُ بمدى وضوح تطابقه مع منظومة القيم الخلقية التي تشكل القاعدة المعنوية لكل اجتماع، ويهتلك ويتآكل بانكشاف التناقض بين السياسة والعمل السياسي من طرف، وبين المبادئ الخلفية العامة التي يمكن اختصارها باسم حقوق الانسان بشكل خاص، من طرف ثان. واكتفي بالقول هنا إن احداً لن يقوم بإدانة الجرائم الصهيونية ان لم ندفع، نحن أنفسنا، بهذا الاتجاه، وان مطالبة ذوي الضحايا وتأكيدهم على ضرورات اجرائها باسم العدالة نفسها سيرفع كذلك من سوية العمل السياسي، وسيطلق حملة من التضامن والتأييد هي اولاً ممكنة في هذه الايام فضلاً عن دورها الايجابي الكبير، ثانياً. ان الجريمة لا تدخل "التاريخ"، اي الوقائع السياسية، الا عبر الضحية وليس عبر الجريمة وأهوالها. فحين لا يختفي المهزومون، وحين لا ينسحبون الى المواقع التي أرادها لهم المجرمون، وحين يتشبثون بالكوكب الذي اليه ينتسبون، يصبح ممكناً تصنيف الجريمة وتسميتها كما هي فعلاً، اي كجريمة بحق الانسانية، ويمكن بالتالي ادانتها ومحاكمة مرتكبيها. فحوى الاقتراح، هو القول بضرورة العمل على ملاحقة عدد من كبار مجرمي الحرب الصهاينة المعروفين والسعي الى ادانتهم قضائياً. وغايته هي، باختصار، تحويل مناسبة مرور خمسين سنة على النكبة الفلسطينية الى محفز لتهديم الشرعية السياسية لدولة اسرائيل، وللصهيونية اذن، وإيقاع هزيمة خلقية، اذن ايديولوجية وسياسية، بها ان على صعيد الرأي العام الدولي او حتى لدى اوساط يهودية واسعة ايضاً. اما بنية الاقتراح فهي ان يعمد عدد من أبناء الضحايا وذويهم بتقديم طلب رسمي باسمهم الشخصي بفتح تحقيق قضائي ودعوى قضائية بتهمة "الجريمة بحق الانسانية" و/أو "جريمة الحرب" ضد اشخاص يجري تعيينهم وتحديدهم بالاسم من بين الذين قاموا بتنظيم وتنفيذ عدد من المجازر بحق مدنيين فلسطينيين، وتقديم الأدلة الضرورية لذلك. يتصل بما سبق توضيح أمرين. الاجبة اولاً عن السؤال المتعلق ب "لماذا الشخصنة"، اي بخصوص دواعي التقاضي باسم أهل الضحايا وليس باسم "الشعب الفلسطيني"، من ناحية، وبخصوص "شخصنة" المجرمين، من ناحية ثانية، فلماذا توجيه التهمة ضد اشخاص معينين من بين المجرمين الصهاينة وليس ضد الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل بما هي كذلك؟ الجواب ببساطة ان المفاهيم المتعلقة بالصنف الخاص من الجرائم المسمى باسم "الجريمة بحق الانسانية" و"جريمة الحرب" هي في العدالة القضائية جرائم مشخصنة. فالقضاء لا يحاكم الا الاشخاص، باعتبار ان المسؤولية القضائية والجزائية بالتالي لا يمكن ان تكن الا فردية، أي شخصية ومشخصنة اذن. اما الامر الثاني الذي يستحسن توضيحه فيتصل بالتوقيت. فلماذا الآن؟ ترتبط الاجابة عن هذه المسألة بما ورد ذكره في الفقرة السابقة: قبل ان يموت من بقي من المجرمين الذين هم الآن على قيد الحياة، تموت معهم اية امكانية لعقد مثل هذه المحاكمة. كيف سيتم ذلك؟ يقوم ابناء وذوو ضحايا المجازر المختلفة دير ياسين، قبية، عين الزيتون، اللد، كفر قاسم... الخ بالانتظام في جمعيات من الممكن ان ينتظموا في جمعية واحدة، غير انه يفضل الكثرة باعتبار ان لكل جريمة حيثياتها وملابساتها ووقائعها اهلية او مدنية تعمل بحسب قانون الجمعيات. تتسمى هذه الجمعيات على سبيل المثال باسماء تعكس هويتها وسبب وجودها واهتماماتها المركزية كمثل "جمعية ابناء ضحايا مذبحة اللد"، "جمعية ذاكرة دير ياسين"، "جمعية عين الزيتون 1948" أو "أبناء ضحايا المجازر في فلسطين" الخ. يردف هذه الجمعيات ويعمل معها والى جانبها مركز بحث وتوثيق أو أكثر يعمل لصالحه مجموعة من الحقوقيين والباحثين والمؤرخين. ومهمة المركز الرئيسية او الوحيدة هي توثيق الجرائم وتحديد اسماء الضحايا وتفاصيل الجريمة وأسماء المجرمين وتوفير معلومات عنهم وعن اماكن اقامتهم وغير ذلك على قاعدة ان البينة على من ادعى. من أين تأتي هذه الجمعيات، ومن أين يأتي المركز بالأموال الضرورية للانفاق على اعمال التوثيق وتنظيم ملف الدعوى من أدلة وبينات ووثائق فضلاً عن أتعاب المحاماة وغير ذلك؟ من المستحسن الاشارة كذلك الى ان الجمعيات في كل مكان في العالم هي في الغالب مؤسسات غير ربحية وغير ريعية بالضرورة. وهي لذلك بحاجة دائمة للدعم المادي لكي تقوم بالمهمة التي اوكلت نفسها القيام بها. وهو دعم يأتي عادة إما من مؤسسات أو وقفيات متخصصة في دعم الجمعيات وفي الحقيقة المشروعات التي تود الجمعيات القيام بها، وإما من صندوق رسمي خاص بأنشطة المجتمع المدني، كما هو الحال في فرنسا على سبيل المثال. ومن الممكن بهذا الخصوص ان تقوم الجمعيات والمركز بحملة استكتاب للحصول على دعم شعبي ورسمي عربي، يساعدها على النهوض بمهمتها وعلى تجاوز الصعوبات التي ستواجهها بالضرورة. وأرجح القول ان العالم العربي الشعبي والرسمي قادر على توفير مبلغ هو في المحصلة الاخيرة زهيد لمثل هذه المهمة، وان الجانب المادي ينبغي ان يكون هو الجانب الاقل صعوبة من بين الجوانب الاخرى كلها.