لم تشهد البشرية، طوال تاريخها المعروف، أكذوبة متعمدة ومتواترة، مثل أكذوبة محرقة اليهود في عهد ألمانيا النازية. لقد نجح اليهود في إشعار العالم بالذنب جراء جرم لم يثبت يقينا ارتكابه.. وإن حدث، فعلى نطاق ضيق وبواسطة نظام عنصري لم يكن اليهود وحدهم ضحاياه، بل كثير من أجناس البشر لأخرى، بمن فيهم الشعب الألماني نفسه. نجح اليهود في الترويج لأسطورة المحرقة، بل واستغلالها لابتزاز البشرية بأسرها. فعن طريق شرعنة قوانين صارمة، في العديد من مجتمعات الغرب، تلاحق ليس فقط من زعم اشتراكه في الجرم، بل أيضا من شكك في حدوث الجرم نفسه.. أو تساءل عن أعداد ضحاياه! لقد بلغ من جور هذه القوانين أن اختصاصها تجاوز المجتمعات التي سنتها، لتطال أيضا من يجادل في أسطورة المحرقة، خارج الاختصاص القضائي للدول التي سنت تلك القوانين، في مخالفة صريحة لحرية الرأي، ومناقشة القضايا الجدلية التي لا تتوفر لدعمها قرائن مادية ملموسة، حتى من باب احترام النهج الأكاديمي الرصين. بعد أن فرغ اليهود من الألمان واستنزفوا لعقود مواردهم المادية والنفسية بإشعارهم بجرم لم يقترفوه بصورة جماعية وظل يلاحقهم حتى بعد سقوط النازية وهزيمة ألمانيا وتقسيمها وربما ليوم الدين، فإنهم يواصلون ابتزازهم للبشرية بأسرها بدعوى أن شعوب الأرض بأسرها «مسكونة» بعقدة البغض لليهود واضطهادهم، حتى يظل سيف أسطورة المحرقة مسلطا على رقاب مجتمعات الغرب، وعلى من يشكك في حدوث المحرقة، بدعوة الحيلولة دون تكرار المأساة (الأسطورة). هناك أيضا جانب آخر لأسطورة المحرقة يتجاوز احتمالات تكرار الجرم، إلى ابتزاز منظم يتجاوز جشع وأنانية اليهود في الحصول على مواقع متميزة في مجتمعات الغرب «الليبرالي والديمقراطي»، نتاج استغلال عقدة الذنب التي أوجدتها أسطورة المحرقة. إلا أن الجانب الأخطر في عقدة الذنب هذه يكمن في التغاضي عن تنامي السلوك الإجرامي لليهود تجاه الشعوب الأخرى. لقد كان خيار قيام إسرائيل هو الحل للمسألة اليهودية في مجتمعات الغرب. إن تغاضي الغرب عن جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب، كان نتيجة الخوف من تكرار الوقوع في محظور شبهة اضطهاد اليهود، في مجتمعاتهم، إن هم فتحوا باب إدانة إسرائيل لأفعالها ضد الفلسطينيين والعرب، أو حتى تجرأوا لانتقاد ممارسات إسرائيل العنصرية والقمعية، مهما بلغت بشاعتها وأفرطت في ساديتها! من أجل أن تكتمل مؤامرة الصهاينة في فلسطين وتحقيق حلم الصهاينة بإعلان إسرائيل دولة يهودية خالصة، كان لابد من العمل على اجتثاث الإرث العربي الفلسطيني تاريخيا وجغرافيا من فلسطين، لتصبح إسرائيل دولة يهودية خالصة للصهاينة... وبالتبعية: كان لابد من فتح جبهة أخلاقية جديدة في صراع إسرائيل مع الفلسطينيين والعرب بالزعم أنه كان للفسطينيين دور مباشر، بل أولي، في المحرقة! الأسبوع الماضي فاجأ رئيس وزراء إسرائيل (بن يامين نتنياهو) العالم بطرح جديد لأسطورة المحرقة، زاعما أن من أوعز لهتلر وزين له اتخاذ قرار حرق اليهود هو: المجاهد الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، يرحمه الله!؟ ففكرة المحرقة للتخلص من المسألة اليهودية في ألمانيا النازية لم تكن من بنات أفكار هتلر، بصورة أساسية، بل كانت اقتراحا للزعيم النازي من الحاج أمين الحسيني!؟ إذن: فإن من قام بالمحرقة فعلا، هو الحاج أمين الحسيني وليس هتلر، وبالتبعية: الفلسطينيون وليس الألمان هم المتهمون الرئيسيون في ارتكاب جريمة المحرقة! وبما أن العالم انتقم من ألمانيا النازية وساعد اليهود الحصول على حقهم من الألمان، فإن المجرم الأساس في قضية المحرقة (الفلسطينيون) لم تلتفت لهم «العدالة الدولية»، بعد! بالتالي: فإن ما تفعله إسرائيل من تنكيل بالفلسطينيين، إنما هو جزء من تحقيق «العدالة» لليهود، الذي غفل عنه العالم!؟ ولا أقل أن يتغاضى العالم عن جرائم الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، من أجل تحقيق «العدلة» لضحايا المحرقة من اليهود، التي تسبب فيها الفلسطينيون، بصورة أساسية، من أجل ضمان عدم تكرار المأساة (الأسطورة)!؟ ألمانيا، لم تحتفل بتبرئتها، كمتهم أول ورئيس بارتكاب المحرقة. المستشارة الألمانية أعلنت بوضوح أن المحرقة هي مسؤولية ألمانية بالدرجة الأولى، ولن تتنصل منها ألمانيا. تصريح خطير من المستشارة الألمانية يدعم من عقدة الاضطهاد في ضمير الشعب الألماني، إلا أنها بذكاء تفادت موجة جديدة من ابتزاز اليهود إن هي قامت بانتهاك قوانين ألمانية صارمة في شأن هذه القضية. كما أن السيدة ميركل، بعدم ترحيبها بتصريحات نتنياهو التي تلقي باللائمة على الفلسطينيين وليس الألمان بارتكاب المحرقة تفادت، أيضا، نكء جراح ظن الشعب الألماني أنها اندملت ودفع فيها ثمنا باهظا، من موارده وضميره وثقافته، وكاد ينسى مرارة ذكراها المؤلمة. في النهاية: الفلسطينيون ليسوا معنيين بما يتهمهم عدوهم به، فهذا من متطلبات إدارة الصراع، بالنسبة للإسرائيليين. الفلسطينيون معنيون فقط بإفشال المشروع الصهيوني المتمثل بقيام إسرائيل في أرضهم وعلى حساب حقهم الأصيل في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم (فلسطين) وعاصمتها مدينة القدس التاريخية، بشرقها وغربها. مناورة نتنياهو الجديدة بإحياء أسطورة المحرقة والزج بالفلسطينيين في أتونها، إنما هي مؤشر لفشل الصهاينة في المضي في مشروعهم الجهنمي بتهويد فلسطين. حكومة نتنياهو تواجه حاليا انتفاضة ثالثة يشنها الفلسطينيون دفاعا عن الأقصى. فشل نتنياهو في فرض مشروعه في باحات المسجد الأقصى لهو مؤشر خطير لفشل المشروع الصهيوني برمته في إقامة مملكة داود الثانية وبناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى وجعل إسرئيل دولة يهودية خالصة للصهاينة في أرض فلسطين. لقد قامت إسرائيل على الأساطير: من أسطورة أرض الميعاد، لأسطورة المحرقة، مرورا بأسطورة عقدة اضطهاد اليهود. لكن التاريخ يقول: إن الدول لا تقيمها الأساطير، بل تقيمها إرادة الشعوب الحرة. بالتبعية: إسرائيل إلى زوال.. وفلسطين هي التعبير الأصيل لمسيرة حركة التاريخ، التي تدفعها إرادة الشعوب الحرة من أجل الاستقلال.. والسيادة.. والكرامة الإنسانية، والسلام.