عندما أعلنت الادارة الاميركية عن استعداد وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت للاشتراك في مؤتمر لندن، كان ذلك بمثابة اعتراف بفشل مهمة دنيس روس... وقبول بتجيير مسؤولية انقاذ عملية السلام لرئيس وزراء بريطانيا طوني بلير. ولقد أعطى المحللون تفسيرات مختلفة للدوافع الخفية التي فرضت على الادارة الاميركية الاستعانة بالحكومة البريطانية، لعل تدخلها يعيد الصدقية الى دور الوسيط العاجز ويحرك المسارات المعطلة. ويتردد في واشنطن ان كل المساعي التي قام بها الاميركيون لم تنجح في كسر الجمود الذي يكتنف عملية السلام. ففي القمة الثلاثية الاخيرة 22 كانون الثاني/ يناير تلقى ياسر عرفات وعداً من دنيس روس بأن الرئيس كلينتون سيطرح على نتانياهو خطة تتضمن انسحاباً اسرائيلياً يتم على مراحل من 12 في المئة من الضفة الغربية. وتقضي الخطة بأن تنفذ اسرائيل ثلاث عمليات انسحاب تشمل الواحدة منها 4 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وتمتد هذه العمليات لبضعة أسابيع يكون الفلسطينيون خلالها قد استجابوا للمطالب الأمنية الاسرائيلية. وبذلك يعود ما مجموعه 39 في المئة من مساحة الضفة الغربية الى السيادة الكاملة او الجزئية للفلسطينيين. وتشاء الصدف ان يتم اللقاء الثلاثي في وقت كان الرئيس الاميركي يبذل الجهد للخروج من مستنقع الازمة مع العراق والازمة المالية في آسيا، وأزمة الفضائح الجنسية التي رفعتها ضده باولا جونز ومونيكا لوينسكي. وكان من المنطقي ان يؤدي تطور الاحداث الى تغيير قائمة الأولويات لدى الرئيس الأميركي الذي تراجع عن وعوده لعرفات، وآثر تأجيل البحث الى فرصة اخرى. ولقد سارع طوني بلير الى زيارته في واشنطن بهدف اظهار تأييده لسياسته وإعانته على الخروج من المحنة الداخلية. المحاولة الثانية قامت بها مادلين اولبرايت في باريس اثناء اجتماعها بنتانياهو، الذي وافق على مبدأ انسحاب محدود لا يزيد على تسعة في المئة يبدأ تنفيذه فور استكمال الالتزامات المتعلقة بتعاون السلطة الفلسطينية، وهي التزامات تعجيزية تبدأ بإعادة النظر في الميثاق الوطني الفلسطيني... وتنتهي بتدمير خلايا "حماس" وتقليص حجم الشرطة من 36 الف رجل الى 24 الفاً. وخرج رئيس الحكومة الاسرائيلية من اجتماعه مع اولبرايت ليعلن تمسكه بالثوابت ويتهم الفلسطينيين بانتهاك الاتفاقات لأنهم اخلوا بتعهداتهم. المحاولة الثالثة والاخيرة قام بها دنيس روس باعتباره المسؤول عن تحريك عملية السلام، والمهندس الأول لتطبيق السياسة الاميركية في هذا الموضوع الشائك. وانتهت وساطته كالعادة بالفشل، الأمر الذي أثار ضده حملة قاسية في الصحف العربية والاسرائيلية التي اتهمته بالعجز وانعدام الرؤية والارادة. وكتب المعلق يوئيل ماركوس في صحيفة "هآرتس" افتتاحية يوم الثلثاء الماضي، قال فيها: "من المحبط مراقبة ممثل القوة العظمى الأولى وهو منشغل بالتوافه طوال السنتين الاخيرتين. منذ تسع سنوات ودنيس روس يركض من دون ان يتحرك لأن جريه يتم فوق جهاز ركض منزلي. صحيح انه سجل آلاف الكيلومترات ولكنه ظل واقفاً في مكانه. ومن المحتمل ان يكون كلينتون مسؤولاً عن شلل ممثله على اعتبار ان الرئيس غير متحمس للدخول في حقل الالغام. ولكن المؤسف ان جميع المبادرات المهمة، بدءاً بأوسلو وانتهاء بمعاهدة السلام مع الأردن، تحققت خارج نشاط الادارة الاميركية. وكل ما فعله البيت الأبيض هو انه وفّر الساحة للاحتفالات من دون ان يكون له دور مؤثر او محرك. وبالمقابل فإن اميركا فشلت حيث قررت ان تعمل. ومع الاستعداد المبدئي من رابين للانسحاب من الجولان مقابل السلام قام كريستوفر بأكثر من عشرين رحلة الى دمشق من دون ان ينجح". وارتفعت حدة الانتقادات للأداء الاميركي السيئ بواسطة دنيس روس وطاقمه، وازدادت تعليقات الثناء على الدور الذي قام به السناتور السابق جورج ميتشل. وقالت جريدة "يديعوت احرونوت": "لقد أثبتت التجربة بأن وسيطاً مثل ميتشل يمكن ان يحقق التسوية مثلما حقق الاتفاق التاريخي في ايرلندا الشمالية. كذلك نجح هنري كيسنجر في تنفيذ التسويات الانتقالية لأن رئيسه منحه صلاحيات كاملة. وبسبب غياب هذه الصلاحيات وفقدان الكفاءة لدى الوسيط الضعيف، استطاع نتانياهو ان يضحك على الجميع ويتهرب من استحقاقات السلام". لتجاوز حدود المراوغة التي يمارسها رئيس الوزراء الاسرائيلي قررت الادارة الاميركية ازاحة العبء عنها مرحلياً، ونقل مهمة تجسير الخلافات الى بريطانيا. ورحب طوني بلير بالفكرة لكنه تحفظ على وصف اللقاء "بالقمة" لقناعته بأنه يدعم جهود السلام التي ترعاها أميركا. وقال انه في حال نجحت المحادثات الثنائية المنفصلة بين اولبرايت وعرفات ونتانياهو، فإن المرحلة التالية يمكن ان تجذب الجميع، أي مصر والأردن والدول الأوروبية المعنية. الصحف العربية رفعت تساؤلات عدة تتعلق بأسباب تكليف بريطانيا مهمة انقاذ عملية السلام، علماً بأن واشنطن لم تتنازل عن هذا الدور لأي من الدول الأوروبية التي سبق ان تولت رئاسة الاتحاد الأوروبي. ويرى المراقبون الديبلوماسيون في لندن ان عملية التكليف ليست بريئة، وان لقاء لندن 4 أيار/ مايو يمكن ان يتحول الى قمة بديلة من قمة مدريد، بحيث تؤسس لتعديل مقررات مدريد واوسلو على نحو يخدم طروحات نتانياهو ويلغي قيود الاتفاقات السابقة. وبما ان طوني بلير حقق بعض الاختراق في مفاوضات ايرلندا الشمالية، فإن هذا الزخم السياسي يمكن توظيفه لإحداث الثغرة التي عجزت ادارة كلينتون عن احداثها. ويميل بعض المحللين الى وصف هذه النقلة الديبلوماسية بالتواطؤ السري، على اعتبار ان لندن تصبح هي مركز الثقل في مفاوضات السلام بدلاً من باريس. والثابت ان واشنطن متضايقة جداً من الدور الذي تقوم به باريس، سواء في معالجة الازمة مع العراق... او في الدعوة الى قيام موقف أوروبي موحد يشارك في عملية السلام مثل الولاياتالمتحدة. وبما ان بريطانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تميز علاقاتها مع اميركا، وتنسق معها كل الادوار العسكرية والسياسية المتعلقة بالشرق الأوسط، فإن كلينتون يشعر بأن اي نجاح يحققه بلير يمكن ان يصب في مصلحته أيضاً. صحيح ان وزارة الخارجية الفرنسية رحبت بالمبادرة كمحاولة لمنع اختناق عملية السلام... ولكن الصحيح ايضاً ان الرئيس جاك شيراك يتصرف باستقلالية تامة عن المعالجات الاميركية، ويتعاطى مع المسائل المتعلقة بالفلسطينيين وسورية ولبنان بطريقة مختلفة عن التعاطي الاميركي المنحاز. ويبدو ان اطمئنان اولبرايت الى موافقة نتانياهو على تأييد وساطة طوني بلير شجعها على اجراء هذه المحاولة لعله ينجح حيث فشلت هي ودنيس روس، خصوصاً ان اسرائيل ترتاح لأداء بلير الذي شكّل داخل حزب العمال أول جمعية للصداقة البريطانية - الاسرائيلية، وأضاء في العيد الخمسيني للدولة العبرية شمعة كبيرة للتدليل على فرحه وتأييده. ولقد عبّر عن هذا الفرح في بداية زيارته لاسرائيل هذا الاسبوع عندما أعلن عن اعتزازه وفخره بأن يُسمى "صديقاً للدولة العبرية". بنيامين نتانياهو كرر تقويمه للدور الأوروبي المحدود في عملية السلام، وقال انه يقتصر على قضايا جانبية مثل مطار رفح والمنطقة الصناعية قرب غزة. ومع انه يريد الايحاء لإدارة كلينتون بأنها هي صاحبة الحل والربط في شأن مستقبل الضفة الغربية... الا انه من جهة اخرى يريد استغلال عجزها لكي ينهي بناء المستوطنات. ولوحظ انه عاتب طوني بلير على تصريحه "بأن السلام أهم ضمان للأمن"، لأن مثل هذه الافكار تدمر نظريته الامنية المبنية على قاعدة الأمن المتقدم على السلام. ولكي لا يثير مخاوفه فقد نشر طوني بلير في صحيفتي "القدس" الفلسطينية و"جيروزاليم بوست" الاسرائيلية مقالا جاء فيه: "انني مصمم على ان يكمل الاتحاد الأوروبي دور الولاياتالمتحدة لا ان يتقاطع معه، اذ ان الاميركيين يقودون الجهود من اجل دفع عملية السلام، ومن اجل مقايضة الأرض بالسلام الذي ندعمه". ويبدو ان هذا الكلام لم يعجب نتانياهو بدليل ان أحد نواب حزبه طالب باعتذار بريطانيا العلني لكونها رفضت تسليم السلطة بصورة منتظمة الى اليهود فور اعلان هيئة الأمم قرار التقسيم. كذلك طالب ياسر عرفات باعتذار بريطاني عن جميع الاساءات التي الحقت بالشعب الفلسطيني، بدءاً بوعد بلفور... وانتهاء بعملية خلق دولة على حساب دولة قائمة. وبين المطلبين المتناقضين يمكن ان يسعى طوني بلير الى مساعدة الراعي الاميركي على اعادة تشكيل سياسته في المنطقة بطريقة لا تتناقض مع مصالح اسرائيل ولا مع مصالح بلاده. وتتخوف الدول العربية من اضعاف الدور الأوروبي... او من تعديل المبادئ التي قام عليها مؤتمر مدريد، وذلك بإدخال شيء من الغموض على نصوصها كما حدث في القرار 242. ويتذكر الفلسطينيون أول مؤتمر عقد في لندن من اجل ايجاد مخرج للأزمة التي سببتها انتفاضة 1929. وشكلت بريطانيا لجنة من مندوبي الاحزاب الثلاثة برئاسة السير والتر شو بدأت مهمتها في تقصي الحقائق بزيارة فلسطين. وناقشت اللجنة في مكاتب دائرة العدلية في القدس اربعة مواضيع يبدو انها بقيت حية حتى اليوم هي: 1 الحكم الذاتي 2 الهجرة 3 الأراضي 4 أوضاع فلسطين الاقتصادية. وصدر تقرير اللجنة يقول الى ان الهجرة تلحق بالعرب اضراراً بالغة، خصوصاً وان الانظمة والقوانين لا تحمي اصحاب الأرض. كذلك أشارت اللجنة في تقريرها بأن حقوق العرب في الادارة والحكم مغموطة، وانهم لا يشاركون في الاجهزة الدستورية بشكل ديموقراطي. وعلى اثر صدور تقرير لجنة التحقيق أبدت الحكومة البريطانية رغبة في استقبال وفد عربي فلسطيني في لندن. وكانت الحكومة من حزب العمال برئاسة رامزي ماكدونالد. وتألف الوفد الفلسطيني برئاسة موسى كاظم الحسيني ومن الاعضاء: الحاج امين الحسيني، راغب النشاشيبي، الفرد روك، عوني عبدالهادي وجمال الحسيني. وأمضى الوفد بضعة أشهر في لندن واختتمت محادثاته بجلسة صاخبة كان بطلاها الحاج امين الحسيني ووزير المستعمرات اللورد باسفيلد. وحدث ان اعترض الحاج امين على تصرفات اللورد لأنه كان "يخربش" على ورقة أمامه بعض الخطوط والأرقام من دون ان يعير كلام الحسيني اي اهتمام أو انتباه. ولما انتهت الجلسة برئاسة رامزي ماكدونالد، تقدم رئيس الوزراء من المفتي ليصافحه ويقول له: آمل ان تبذل كل جهد ممكن لمنع تكرار الاضطرابات في فلسطين، وانني اعتبرك مسؤولاً عن كل نقطة دم تراق هناك. وأجابه المفتي الحاج امين قائلاً: ان واجبنا يفرض علينا الدفاع عن وطننا. ولم نكن في يوم من الأيام من المعتدين، بل ضحايا للاجرام والارهاب والعدوان. وأؤكد لك يا مستر ماكدونالد ان العرب والمسلمين يعتبرونك انت المسؤول عن كل نقطة دم تسفك في فلسطين! بعد مرور 69 سنة على أول مؤتمر عقده حزب العمال البريطاني في لندن لحل أربع مسائل متعلقة بالحكم الذاتي واتساع الهجرة ومصادرة الأراضي، يعقد زعيم حزب العمال طوني بلير ثاني مؤتمر لبحث القضايا ذاتها، ولعله في هذه المرة ينجح في محو وعد بلفور من ذاكرة التاريخ الفلسطيني. كاتب وصحافي لبناني.