42 في بيروت قرّرتُ ان أكونَ شاعراً. ولكن هل يكفي هذا القرار الرومانسي لأقف على أقدامي في مدينةٍ شاطرة جداً… وتاجرة جداً… ووفيّة جداً لإرثها الفينيقي؟ فكرّت ان أؤسس دار نشرٍ لا تنشر سوى انتاجي الشعري، وسميتها منشورات نزار قباني، فاعترض كثيرون على التسمية، واعتبروها جزءاً لا يتجزأ من غُروري… ونرجسيتي… لم أسمع النصيحة كعادتي لأنَّ أصحاب شركات فورد، وبيجو، ورينو، وفيراري للسيارات، وماركات شانيل، وغيرلان، ونينا ريتشي للعطور، ومحلات الصمدي والبحصلي، وجروبي للحلويات، ومصانع الشوربجي للغزل والنسيج تحمل أسماء أصحابها وما في حدا أحسن من حدا…. وبدأت مرحلة التنفيذ، واستأجرت مكتباً صغيراً من غرفتين في شارع المعرض في قلب بيروت التجاري، حيث يتجمع أهم الناشرين اللبنانيين. في البداية رحَّب الناشرون اللبنانيون بزمالتي، وتعاملوا معي بكل حب واحترام، وزاروني في مكتبي الجديد، ودعوني الى منازلهم، وصار بيني وبينهم خبزٌ وملح… ولكنَّ مرحلة شهر العسل مع بعضهم لم تدم طويلاً، فحين ازدادت شعبيتي، وازداد انتشار كتبي وتوزيعها، وازداد شحمي ولحمي… أكلوا لحمي… وزوّروا كتبي… والذين يسمعون عن عبقرية بيروت في نشر الكتاب العربي، وقدرتها الخارقة على تصنيع الكتاب، واطلاقه، والتعريف به، ربما لا يعرفون ان عالم النشر في بيروت، أشبه بالمجاهل الافريقية… حيث الناشر يأكل الناشر… والزميل يفترس زميله… وأصحاب دكاكين الثقافة… يسرقون أعمال المثقفين… وجاكيتاتهم، وقمصانهم، وسراويلهم أيضاً… 43 واذا استثنينا عشرة بالمئة من الناشرين اللبنانيين، ممن يتحلون بالشرف والثقافة والقيم العالية، فإن التسعين بالمئة الباقية منهم… جزارون محترفون يتعاطون مع الكتاب كما يتعاطى جزار وثني مع قطيع من الأغنام… دون ان يراعي في عملية الذبح أحكام الشريعة الاسلامية… أو أية شريعة اخرى… هؤلاء الناشرون ليس لهم جذور ثقافية أو اجتماعية… فقد بدأوا المهنة بائعي جرائد على أرصفة بيروت… ثم انتقلوا من أسفل القفة الى غطائها، فأصبح لهم مكاتب مكيّفة للهواء… وسكرتيرات… وفاكسات… وصاروا يدخنون السيجار الكوبي كما يفعل اللوردات الانكليز… واذا كان مطلوباً من الناشر ان يكون لديه حدٌّ أدنى من الثقافة التي تسمح له بقراءة وتقييم المخطوطات التي تصل اليه، فإن هؤلاء الناشرين أميون بالوراثة، ولا يعرفون اذا كان الكتاب العربي يُقرأ من اليمين… أم يقرأ من اليسار؟! انهم مجموعة من الضباع، تأكل كل ما في طريقها من كُتُب، وورق، وكرتون، ومطابع، وأدباء… وشعراء… وروائيين… وحقوق تأليف!! ان شهيّة هؤلاء لا حدود لها… وهم لا يوفرون الأموات ولا الأحياء… بدءاً من كتاب الأغاني، والعقد الفريد، وصبح الأعشى، ونهج البلاغة… حتى روايات نجيب محفوظ، وأعمال طه حسين… وتوفيق الحكيم… والعقاد. وهم يسطون على كل شيء… ابتداءً من المصاحف الكريمة… حتى كتب الطبخ… والجنس… والجريمة… الى هذه الغابة المتوحشة دخلتُ عام 1966. ولا تزال عضات الأفاعي، والعقارب، وأسماك القرش، مرسومة على كل زاوية من زوايا جسدي… 44 وحتى أكون منصفاً، أود ان أقول ان سيف التزوير لم يطلني وحدي، بل طال أي مؤلف رائج، وأي كتاب يبيع أكثر من ثلاثمئة نسخة. وليس هناك ميثاق شرف بين الناشرين اللبنانيين والناشرين العرب يمنعهم من تزوير كتب بعضهم… فكل الأعمال الأدبية مستباحة، ومهدور دمها… على امتداد الخارطة العربية… فالكتاب المصري مأكول، والكتاب السوري مأكول، والكتاب العراقي مأكول، والكتاب الفلسطيني مأكول. وكم حاولت جامعة الدول العربية، والهيئة العامة للكتاب في القاهرة، ان توقف هذه المذبحة الدامية، ولكنها فشلت في نزع سلاح المتقاتلين… كأنما داحس والغبراء الثقافية… قَدَرٌ مكتوب على جبين العرب. ولا أكون مبالغاً اذا قلت ان سلطة المزورين كانت ولا تزال أقوى من كل السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية… بل هي أقوى من سلطة الانتربول… ومحكمة العدل الدولية… إنهم كالمافيات في جزيرة صقلية الايطالية، لهم جيشهم، ورئاسة أركانهم، وقواتهم المسلحة… وهم لا يتورعّون عن قتل رجال الشرطة، والقضاة، والمحامين الذين يلاحقونهم. 45 وربما كانت المرة الوحيدة التي انتصر فيها كاتب عربي على مزوري كتبه، هي المرة التي تدخلت فيها قوات الردع السورية عام 1976، بناءً على شكوى رسمية تقدمتُ بها الى قيادة قوات الردع لترفع عني سيف ميليشيات التزوير، باعتبار ان الأمن الثقافي لا ينفصل عن الأمن العسكري، الذي أخذت قوات الردع السورية على عاتقها تثبيته في بدايات الحرب الأهلية. لقد اعتبر الأخوة السوريون آنئذ ان العدوان على كُتُبي، هو عدوان على تراث ثقافي عربي - سوري، فتحركوا فوراً لانقاذ أعمالي الشعرية من مخالب المزورّين، وحاصروا أوكارهم، ومطابعهم، ومستودعاتهم، وصادروا أهراماتٍ من الكتب المزورة، وأرغموا الفاعلين على دفع جميع حقوق التأليف المسروقة. هذه حادثة من حوادث الردع الثقافي، لا بد لي من ذكرها في هذه السيرة الذاتية، كنموذج لسلطة تدافع عن ثقافتها ومثقفيها… ويا ليت الدول العربية الأخرى، التي تسلّلت اليها جرثومة التزوير حتى وصلت الى كراسي المسؤولين عن شؤون الثقافة والاعلام، تقتدي بهذا الموقف السوري الحضاري الكبير وتتحرك لحماية آلاف المبدعين العرب، من أسنان أسماك القرش التي لم تجد حتى الآن من يردعها ويقتلعُ أسنانها المتوحشة… ان السلطة الحقيقية هي التي تدافعُ عن مثقفيها. لا تلك التي تبيعهم في المزاد العلني… هي السلطة التي تضع الكتاب في قائمة الكتب المقدسة… لا في صناديق النفايات!!… 46 بدأت في بيروت على الحصيرة… كما يقول المثل الشعبي. لم يكن في المكتب الذي استأجرته، سوى طاولة وكرسيين، وتلفون، ولوحة زيتية لرسام اسباني تمثل خيولاً تركض في البرية… كان منظر الخيول الراكضة أمامي، يثير حماسي، وطموحي، ويعلمني نشيد الحرية… وكبرياء الصهيل… ورغم بساطة المكتب وتواضعه، فقد كنتُ أشعر انني كسرى أنو شروان، أو هانيبعل، أو يوليوس قيصر… كنت أشعر، وأنا أرتشف قهوتي كل صباح، أنني ملك الملوك… وان كل شيء ما عدا الشعر… هو باطل الأباطيل… 47 حوار مع عمر أبو ريشة كنتُ جالساً ذات صباح في مكتبي، حين دخلَ عليَّ الشاعر السفير عمر أبو ريشة، وبعد عناقٍ حميم، تأمّل محتويات المكتب باستغراب، وعدم رضى… وقال: - ماذا فعلت بنفسك يا نزار؟… هل تركت كل أمجاد السفارات، وامبراطورية السلك الديبلوماسي، وثريات الكريستال، وسجاد الغوبلان والأوبوسون، لتقعد في هذا المكتب الأصغر من خُرْم إبرة؟؟… وقَعَتْ عليّ كلمات عمر كالصاعقة، فقلت له بنبرة حادَّة: - عن أي أمجاد تتحدث يا عمر؟؟… - ان مجدي الحقيقي هو الشعر… كما هو مجدكَ أيها الشاعر الكبير… لقد كنتُ انتظر منك يا صديقي، ان تطلب مني ان أضع لك كرسياً ثانياً خلف المكتب الذي أجلس عليه… على كلٍ إذا قررتَ ذات يوم ان تخلع أقنعة الشمع… وترمي بذلة السموكن، والفراك، والقمصان السوداء، والقبعة العالية… في الزبالة… وتختار الشعر… فإن هذا المكتب يتسّع لكلينا… وأهلاً بك… في أية لحظة… نظر اليَّ عمر بعينين يغسلهما القلق والدهشة، وقال وهو يودّعني: - شكراً على دعوتك… ولكنني لا أعتقد انني سأختار يوماً هذا المصير المجنون!!… 48 ... وخرج عمر أبو ريشة بقامته المديدة كقامة الرمح من مكتبي، ولم نلتقِ مرة اخرى… لأن دروبنا قد تباعدت… وأحلامنا قد تباعدت… هو كان على موعد مع الرئيس نهرو في دلهي… لتقديم أوراق اعتماده سفيراً فوق العادة… وأنا كنتُ على موعد مع عمال مطبعة دار الكتب في بناية العازارية لتصحيح مسودات مجموعتي الشعرية الجديدة الرسم بالكلمات…