يأخذ الكثيرون على معرض بيروت الدولي العربي للكتاب في دورته الثانية والخمسين انه عجز عن تطوير نفسه والخروج من روتينه المعتاد. فهو بنظرهم مجرد رفوف لعرض الكتب، وإذا كانت هناك نشاطات ثقافية جانبية تصاحبه، مثل بعض الفعاليات المحدودة، ومنها ندوة عن الشاعر محمود درويش وأخرى مخصصة للأطفال، فهذه النشاطات تظل محدودة ليبقى المعرض مجرد مناسبة سنوية لبيع الكتب. ولكن هذه النظرة السلبية إلى معرض بيروت لا تأخذ في الحسبان جوانب أخرى من المعرض ان لم يجر التطرق إليها فإنها تبقى ناقصة أو ظالمة. فمعرض بيروت تنظمه جهة هي النادي الثقافي العربي في بيروت، أهلية محدودة القدرة المالية، وهي بسبب ذلك لا تستطيع أن تقدم نشاطات ثقافية كثيرة يلزمها تمويل أو دعم. لهذا بالإضافة إلى أن هذا النادي وبالتالي المعرض يواجهان حرباً شرسة من "جهات" سياسية وثقافية تحرّض سراً وجهراً على مقاطعته وعدم التعاون معه. وقد دأبت هذه الجهات على النظر إلى هذا المعرض على أنه معرض "فئة" معينة من اللبنانيين لا معرض كل اللبنانيين. هذه الفئة تنظم في الضاحية الجنوبية من بيروت كل سنة معرضاً آخر للكتاب تشارك فيه عشرات دور النشر الطائفية والمذهبية كما تشارك فيه دور نشر سورية وإيرانية. ثم ان معرض بيروت يعكس إلى حد بعيد مجمل نشاط دور النشر اللبنانية، الكبرى والصغرى منها على حد سواء، ويقدم بالتالي صورة نموذجية لحاضر قطاع النشر اللبناني في خطوطه العامة. فإذا زاره مراقب متتبع لأحوال النشر العربي وأحوال الثقافة العربية في آن خرج بانطباع كامل عن أحوال قطاع النشر اللبناني. فالواقع واستناداً إلى زيارة مدققة لهذا المعرض، يمكن القول ان القصة والرواية والشعر فنون أدبية مزدهرة عندنا، ومعها ثقافة الأطفال، أما غير المزدهر فهو النقد والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وسائر العلوم، ولعل هذه الملاحظة تنطبق على وضع الثقافة في لبنان وحده. ولكن معرض بيروت يقدم لزائره ما لا يقدمه عادة أي معرض عربي آخر. فالكتاب أي كتاب فيه يتجول ويتنفس فيه دون أية عوائق. فالرقابة فيه ممنوعة منعاً باتاً، في حين انها في العديد من المعارض الأخرى هي التي تأمر بالمنع ولا راد لأمرها. ويمكن لمن يزور هذا المعرض اللبناني أن يشاهد عشرات بل مئات الكتب التي لا يمكنها تجاوز التراب اللبناني إلى سوريا مثلاً.يضاف إلى ذلك حلقة الوصل التي يؤمنها هذا المعرض (كما أمنها المعرض الفرنكوفوني الفرنسي الذي انفضت فعالياته قبل أسبوع) مع اللغات والثقافات الأجنبية، فهناك عشرات الكتب المترجمة حديثاً من اللغات الأجنبية إلى العربية، وبعضها في موضوعات تتصف بالسخونة أو الإثارة. ولا شك أن معرض الكتاب اللبناني الذي يصفه البعض بالتكرار والرتابة هو أحد المعارض السنوية العربية الهامة نظراً للتراكم الثقافي للعاصمة اللبنانية ولحيوية الناشر اللبناني وقدرته على التجدد والانفتاح والريادة. ولا ننسى دور بيروت الثقافي والتنويري الذي لم تتمكن أربعون سنة من الحروب الأهلية وغير الأهلية من الاجهاز عليه. ويتجلى هذا الدور الآن في ضخ دور النشر اللبنانية لا يحصى من الكتب كل يوم، كما يتجلى في هجرة كثير من المؤلفين والمخطوطات إلى بيروت كي تظهر من مطابعها ودور نشرها. وقد احصى أحد الباحثين 25عنوان كتاب مغربي ظهرت عن دور النشر اللبنانية خلال شهر واحد. وقد ذكرت رنا إدريسي (دار الآداب) لنا أن دار الآداب قدمت هذه السنة تسعة أسماء لمؤلفين عرب ينشرون للمرة الأولى في حين انها في السابق لم تكن تقدم على مثل هذه المغامرة إلا في حدود بسيطة. وذكر لنا حسن بانمي (المركز الثقافي العربي) ان أهمية معرض بيروت ليست تجارية بالدرجة الأولى، فنحن نبيع في السعودية أو في المغرب عشرة أضعاف ما نبيعه في بيروت. ويأخذ حسن بانمي على الصحافة الثقافية اللبنانية عدم تفريقها بين كتاب عادي وآخر استثنائي، فالكل عندها كتب جديدة، في حين انه شتان بين كتاب وآخر.ويرى رياض نجيب الريس صاحب دار النشر التي تحمل اسمه ان معرض الكتاب اللبناني السنوي يظل من أفضل معارض الكتب العربية رغم كل مساوئه.. أما لماذا ذلك فلأسباب يوجزها الريس بما يلي: أولاً حرية انتقال الكتاب العربي ووصوله إلى القارئ إذ لا توجد رقابة كالتي تتحكم في بعض الأقطار العربية، وثانياً هو حرية الكاتب العربي نفسه في الوصول إلى بيروت حيث يلتقي زملاء له، ويجد مناخاً ثقافياً كثيراً ما يفتقده في بلده. والثالث هو أن معرض الكتاب في بيروت يمثل مقصداً للقارئ العربي وأصحاب المكتبات والموزعين العرب الذين يحصلون من دون أية عوائق على كل العناوين والإصدارات التي يريدونها.والواقع أن معرض بيروت يشكل سوقاً أساسياً لانتشار الكتاب الجديد في العواصم العربية الأخرى، ومع انه لا يزاحم بالطبع المعارض العربية الأخرى، وبخاصة معرض القاهرة الذي يشكل المعرض العربي الأول، إلا أن معرض بيروت له نكهته الخاصة التي لا يزاحمه فيها أحد.