تبلورت خلال الأسابيع القليلة الأخيرة حالة عبثية أخرى من الحالات التي اصبحت تتسم بها اوضاع وسياسات المنطقة. فعلى حين غرة لوّح نتانياهو بفكرة اعتراف اسرائيل بقرار مجلس الأمن الرقم 425 المتعلق بلبنان. وبالتالي استعداد اسرائيل للانسحاب من الأراضي اللبنانية كما نص القرار. تحت هذا العنوان البراق بعث رئيس وزراء اسرائيل بمبعوثين منه الى هنا وهناك ونشأ سيل من الأهتمام الإعلامي. وحتى كوفي انان السكرتير العام للأمم المتحدة، بدا في تصريحاته على وشك الأنزلاق هو الآخر الى الفخ الاسرائيلي - حيث بالطبع - ينص القرار 425 على انسحاب اسرائىل الكامل وغير المشروط من لبنان. ولكن هناك "واقع سياسي" نشأ خلال العشرين سنة الاخيرة. لم يقل السكرتير العام للأمم المتحدة صراحة انه يساير المنطق الاسرائىلي. لكنه لم يرفضه أيضاً. في الوقت نفسه كان هناك قدر من التشوش الأولى في المساحة الفاصلة بين الرد السياسي والرد الاعلامي لكل من لبنان وسورية. فبمنطق السياسة اتسم الموقف اللبناني - السوري بقدر من التماسك والوضوح والالتزام الصارم بنص القرار 425، الذي هو بالمناسبة من اكثر القرارات حسماً ووضوحاً واختصاراً في كل ما صدر عن مجلس الأمن الدولي من قرارات تتعلق بمسار الصراع العربي - الاسرائيلي. هذا التشوش سرعان ما جرى تصحيحه. لكن فقط بعد أن خرج نتانياهو لكي يعلق ساخراً أمام الكاميرات بأن على العالم أن يشهد هنا حالة عجيبة. خلاصتها أن اسرائيل تريد الأنسحاب من اراض عربية بينما العرب هم الذين يرفضون. لم يكن هذا جديداً على نتانياهو. فمنذ وصوله الى السلطة في اسرائيل قبل 22 شهراً وهو يتعامل مع العرب بمنطق الحواة وليس الساسة. كما انه في الوقت نفسه يلجأ دائماً الى الهجوم باعتباره خير وسيلة للدفاع. فبادئ ذي بدء كان رئيس وزراء اسرائيل يطرح في هذه المرة بضاعة قديمة في تغليف جديد. فما يطرحه الآن هو ما طرحه من قبل تحت عنوان "لبنان اولا" وبالاهداف نفسها. لبنان اولا على ان يكون لبنان اولاً وآخراً. والاهداف هي نفسها بمعنى الاستفراد بلبنان حتى يحقق معه ما حققه سلفاه من نجاح واختراق في المسار الفلسطيني منذ سنة 1993، وايضاً بهدف استكمال عزل سورية الحاقاً بتحالف عسكري غير معلن مع تركيا في الشمال وعلاقات دافئة وحميمة مع الاردن وبمباركة اميركية صريحة لكلا التطورين. في هذه المرة تريد اسرائيل الثمن نفسه القديم المطلوب من لبنان، وإن يكن تحت عنوان "الترتيبات الامنية" المطلوبة من لبنان كثمن لقيام اسرائيل بتنفيذ القرار 425. وكما هو معروف فإن القرار 425 ليس فيه مفاوضات مع لبنان، ولا مساومات، ولا ترتيبات امنية. والعشرون سنة التي مضت منذ صدور القرار لم تكن عشرين سنة من الهدوء والرييع والموسيقى والشمس الساطعة. لقد كانت عشرين سنة من القتل والخراب والتدمير والحصار والتجويع والتشريد والتوحش من اسرائيل ضد مئات الالاف من اللبنانيين العزل من السلاح بهدف دفعهم شمالاً نحو بيروت بحجة تكررت كثيراً. حجة أن يؤدي تهجير الشعب اللبناني من الجنوب الى الضغط على الحكومة اللبنانيةحتى تضغط بدورها على الحكومة السورية لكي تضغط بالتالي على الحكومة الايرانية املاً في ان تضغط الاخيرة على "حزب الله" فيتوقف عن مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في جنوبلبنان. والمسألة الجوهرية التي يجري القفز عليها اسرائيلياً دائماً هي أن قرار مجلس الامن الرقم 425 صدر في آذار مارس سنة 1978 لمواجهة الغزوة الكبرى الاولى التي قامت بها اسرائىل براً وبحراً وجواً ضد لبنان. في حينها لم يكن هناك "حزب الله" من أصله. فحزب الله، وكل المقاومة الوطنية اللبنانية، نشأت كرد فعل للاحتلال الاسرائيلي، بينما الاحتلال كان هو بذاته الفعل الاسرائيلي. والتحجج في سنة 1998 بضرورة القضاء اولاً على "حزب الله" هو من ألاعيب الحواة بأكثر مما هو من تعبيرات السياسيين. والمسألة الجوهرية الثانية هي ان الحاوي الاسرائيلي، في حالته العبثية من الدجل والشعوذة، يطرح الآن فكرة أن اسرائيل في حاجة ماسة الى ضمانات امنية من لبنان كجزء من ثمن الانسحاب الاسرائيلي. هذا يعني التحدث عن لبنان آخر غير ما نعرفه. فما نعرفه هو أن لبنان على وجه الخصوص لم تمثل في أي وقت ولا بأي مقياس تهديداً لاسرائىل. إن اسرائىل، وليس لبنان، هي التي استباحت لبنان دائما ارضاً وشعباً ونسيجاً داخلياً. فما بدا انه حالة غل وحقد تاريخية خاصة ضد "الصيغة اللبنانية" من اساسها التي هي في جوهرها نفي للصيغة اليهودية التي قامت اسرائيل على اساسها. لبنان، ولأكثر من عشرين سنة، هو الذي تعرض لكل انواع الحروب الاسرائيلية، سرية ومعلنة، ودخلت الدبابات الاسرائيلية عاصمته وحاصرت ساحلة واحتلت ارضه وسحلت بعض اهله ضد بعضهم الآخر وارتكبت المذابح المروعة ضد شعبه، بما فيها مذبحة "قانا" تحت سمع وبصر قوات الاممالمتحدة ذاتها. مع ذلك، وبمنطق الحواة مرة اخرى، تزعم اسرائيل الآن أنها في حاجة الى ضمانات امنية من لبنان، اي ضمانات من لبنان هذا بحماية أمن اسرائيلي هذه. وحتى يكتمل العبث هنا فإن الطلبات الاسرائيلية تشمل ايضا ان يتعهد لبنان الرسمي كذلك أمن وسلامة "جيش لبنانالجنوبي" الذي هو اصلا ميليشيات من المرتزقة التي شكلها الاحتلال الاسرائيلي للعمل لحسابه وتحت قيادته وبأسلحة واموال من ارصدته. كانت تلك الميليشيات دروعاً بشرية لاسرائىل بتمويلها وحمايتها. والآن تريدها اسرائيل دروعاً بشرية بتمويل وحماية من لبنان الشرعي والرسمي. وفي الخلاصة تريد اسرائيل من لبنان مكافأة على احتلالها للاراضي اللبنانية وتوحشها ضد الشعب اللبناني طوال عشرين سنة، وفي تحد سافر للامم المتحدة والمجتمع الدولي. وكل هذا تحت عنوان استعداد اسرائيل لتنفيذ قرار مجلس الامن الرقم 425. ومجلس الأمن لم يصدر القرار 425 لحساب فاعل خير اسمه اسرائيل. لقد اصدر القرار ضد طرف معتد ومحتل وغاصب هو اسرائيل. وبتلك الصفة يصبح على اسرائيل - اساساً - أن تتحمل اوزار عدوانها المتوحش المستمر، وان تتحمل بلايين الدولارات تعويضاً عن ما خربته للبنان من مرافق وما قتلته من مدنيين عزل ومن شردتهم من عشرات الالآف من السكان. وربما تفرض "الواقعية" الرائجة حالياً على لبنان الا يطلب من مجلس الامن فرض التعويضات على اسرائيل اتقاء للحماية الاميركية السافرة والمستمرة لاسرائيل داخل المنظمة الدولية. لكن هل من الواقيعة ايضاً ان يصبح مطلوباً من لبنان مكافأة اسرائيل على احتلالها المستمر؟ والسيد كوفي انان الامين العام للامم المتحدة ألمح أخيراً الى اهمية اعطاء الاعتبار للواقع السياسي الذي نشر خلال عشرين سنة منذ صدور القرار 425. هائل يا مستر أنان. لكن أهم جانب في هذا "الواقع السياسي" الذي نشأ طوال عشرين سنة هو الالآف من القتلى اللبنانيين، ومئات الالآف من المشردين اللبنانيين، الذين تراكموا في ارض الواقع سنة بعد اخرى. ونتيجة لهذا "الواقع السياسي" سيصبح على لبنان الشرعي والرسمي ان يدبر من موارده المحدودة بلايين الدولارات لكي يعيد بها الحياة في الجنوباللبناني فقط الى ما كانت عليه قبل الغزو الاسرائيلي. منذ سنوات بعيدة، سئل يوثانت، عندما كان اميناً عاماً للامم المتحدة، لماذا تكره اسرائيل دائما التحدث اليك أو التعامل معك؟ يومها رد يوثانت: لأن اسرائيل تعرف أنها اذا تعاملت معي فلن تجد في يميني سوى ميثاق الاممالمتحدة، وفي يساري قرارات مجلس الامن ضدها. رحمة الله. كان حصيفاً. ويرفض مسايرة منطق الحواة.