قفز موضوع المعارضة العراقية الى واجهة الاعلام الغربي خلال الفترة الماضية التي اعقبت زيارة الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان الى بغداد وتوقيعه وثيقة التفاهم مع الحكومة العراقية. وانطلق هذا الإعلام في تغطياته للشأن العراقي من ثلاثة أحداث ترتبط بالتحرك السريع لبعض المعارضين في الخارج، وهذه الاحداث تتعلق بزيارة وفد المؤتمر الوطني العراقي الى واشنطن والتباحث مع المسؤولين الاميركان على جملة قضايا من بينها الموقف من المعارضة العراقية ومستقبل النظام العراقي، اما الحدث الثاني فهو بيان تشكيل حكومة منفى ضمت عدداً من الاسماء السياسية ذات الاتجاهات المختلفة. وتلقت الصحافة البريطانية ووسائل الاعلام الاخرى خبر تشكيل مثل هذه الوزارة، بيد ان بعض الذين وردت اسماؤهم في قائمة التشكيل، أعلنوا عن عدم معرفتهم المسبقة بمثل هذا التكليف، كما اشاروا الى جهلهم بالجهة التي رشحتهم لهذه الوزارة، وقد خلق هذا الاجراء جواً من التساؤل في أوساط المعارضة عن فوائد مثل هذه الخطوة ومضارها في الوقت الراهن. كذلك الحدث الثالث الذي تم في 2 نيسان ابريل الجاري كمحاولة لالتقاط النفس بالنسبة للمعارضة العراقية، حين عقدت بعض القوى والشخصيات المعارضة مؤتمرها التداولي الثاني الذي استعد له المجلس العراقي الحر بزعامة سعد صالح جبر وانتخب لجنة مكونة من ثلاث شخصيات تقوم بالإعداد والتهيئة والاتصال بأطراف المعارضة الأخرى بغية عقد مؤتمر موسع يضم كافة أطراف المعارضة، أما مدى نجاح هذا التوجه فإنه مرهون باستجابة القوى التي لم تحضر الى المؤتمر التداولي الثاني. هذه الفعاليات وغيرها كانت مواضيع تعامل معها الاعلام الغربي لراهنيتها ولأنها تسلط الضوء على الطرف الآخر في المشكلة العراقية بعيد الانعطافة الدولية الأخيرة في الملف العراقي، ولم تظهر من خلال هذه الفعاليات وكذلك الحال بالنسبة الى مؤتمر "لجنة تنسيق عمل قوى المعارضة العراقية" الذي انعقد في نفس التاريخ وضم مجموعة أخرى من قوى وشخصيات المعارضة العراقية أية نوايا تشق المعارضة أو تأطر قواها، وانما كلا الجانبين كان يطرح موضوع توحيد هذه المعارضة كنقطة أولية في أية توجهات مستقبلية، بيد ان مثل هذا الاعتبار كان ماثلاً في طوال عمر هذه المعارضة، لكنه الى الآن لم يتحقق، بل بالعكس فإن تشتت وتفرق هذه القوى قد أصبح ظاهرة قائمة يلمسها كل من يقترب الى حيثيات الوضع العراقي. ومهما يكن فإن التطورات الأخيرة التي حاصرت القضية العراقية، ربما أثارت حال التملل في أوساط المعارضة العراقية، لذلك حاولت بعض التيارات أو التجمعات المعارضة التقاط عصب المبادرة للاعلان عن تأسيس وضع جديد ينسف حال الخمول أو الترقب أو ربما الإحباط الذي يعم الشارع العراقي جراء الأزمة المستعصية على صعيد النظام من جهة أو صعيد المعارضة العراقية من جهة اخرى. بيد ان كل هذه التحركات وان كانت في الاتجاه الصحيح لم تنتقل بعد الى قضيتين اساسيتين وهما تقييم الوضع السابق بإيجابياته وسلبياته والانطلاق من هذا التقييم الى رحاب التعاون والتنسيق والوحدة لتحقيق الحد الأدنى من المشروع العراقي الشامل. هناك نقطة اخرى حيوية وهي ان مثل هذا الانعطاف في القضية العراقية على صعيد المعارضة، لا يمكن ان يتحقق ما لم تتبدد العديد من الظواهر السلبية التي تحول دون جلوس الجميع الى مائدة الحوار والاعتراف بالآخر، أي بالأطراف العراقية المعارضة جميعها من دون استثناء والتخلي المطلق عن منهج الصراعات غير المبدئية أو مظاهر الفرقة والاحتراب واستخدام الوسائل غير المبررة كالتشهير والتهجم وتصفية الحسابات، يضاف الى ذلك ان لغة التقييم التي تكفلها الحوار الهادف تستدعي مراجعة الماضي بكل مجالاته من سياسية الى اعلامية الى مالية، لأن الشارع العراقي لا زال يتساءل الى أي مدى استطاعت المعارضة العراقية تلافي الخسائر على كل الأصعدة؟ وهنا فإن الأكثرية الصامتة، اي قواعد هذه المعارضة والناس المحيطين بهم تعتقد ان الوقائع الكثيرة الماضية على صعيد المشروع الوطني العراقي لم تكن في جوانبها السلبية من فعل النظام، وان كان ذلك له تأثير غير مباشر، فالموقف من النظام واضح المعالم لدى كل العراقيين من ضحايا هذا النظام، ولكن المشكلة هي ان أطراف عدة من المعارضة العراقية لم تتعامل مع هذا المشروع بمسؤولية وطنية عامة، وانما هنالك من اعتبره وسيلة لتحقيق مشاريع تجارية أو ذات صبغة نفعية، وهذا ما وجدنا له أصداء واسعة في عملية انبثاق الاحزاب والتكتلات الصورية أو الوهمية التي انطلقت منذ حرب الخليج الى الآن تزاحم القوى الفعالة والأساسية في منهجية تقوم على قاعدة تلبيد الأجواء السياسية وتأزيم الوضع في صفوف المعارضين من خلال التداخلات مع هذا الطرف ضد الطرف الآخر، من دون السماح لهذه القوى الفعالة من التقاط لحظة تأمل في المشروع الوطني وتحقيق الحد الأدنى من التفاهم والتنسيق والانسجام. اكثر من 70 حزباً وتجمعاً سياسياً ظهر منذ حرب الخليج الثانية، حسب احصاءات ملموسة فإن عدد الصحف التي اصدرتها هذه الواجهات بلغ ما يزيد على 50 صحيفة ومجلة، معظمها اختفى في الوقت الراهن بعد ان اغلقت العديد من "الدكاكين" السياسية أبوابها لانقطاع شريان التحويل المالي الذي حجب عن البعض الآخر نتيجة لعدة اعتبارات ذات طابع سياسي. تقلص عدد الواجهات السياسية كما قلنا ليس فقط لأن التحويل المالي انقطع عنها وانما لأنها لم تستطيع التحايل على الجهات الممولة كونها تملك قاعدة شعبية هنا أو هناك، فبمرور الزمن اتضح ان هذه "الدكاكين" لا تمثل إلا أشخاصاً لوحدهم أو من أعضاء عوائلهم. اما الصحف والمجلات التي صدرت فقد أريد منها ايهام الرأي العام بوجود تلك المؤسسات، بيد ان ذلك لا يلغي أبداً ان من بين تلك المؤسسات أو صحافتها ما لا ينطبق عليه مثل هذا الحكم. فكثيرة ايضاً الاحزاب والتجمعات التي اضطرت الى ايقاف النشر بسبب انقطاع المصدر المالي "الشحيح"، علماً بأنها كانت تدرك ان هذا الانقطاع سوف يساوي بينها وبين "الدكاكين" التي اغلقت أبوابها، اذن فإن التمويل هو الذي كان يحدد الموقع السياسي لبعض القوى العراقية المعارضة ولإعلامها ونشراتها. ومن دون ان تدرك هذه القوى انها من دون ثروة ليست قليلة على اعلام هزيل وتافه، وفي احصائية أولية للمبالغ التي يمكن ان تصنع صحيفة واحدة ومقروءة وكبيرة الحجم توظف طاقماً حرفياً مبدعاً وليس مسؤولين سياسيين ومقارنة هذه الحصيلة بما انفقته أطراف المعارضة في هذا القطاع، ندرك حجم الخسارة التي ضاعت على مرفق واحد من مرافق العمل العراقي المعارض. يمكن اجراء حساب تكاليف لإصدارات هذه القوى من الصحف مجتمعة، وسنقف على رقم خيالي لا يمكن توقعه بالنسبة لمعارضة تشكو من نقص في الموارد المالية، فلو اعتبرنا ان هذه القوى تنفق زهاء 1500 جنيه استرليني على العدد الاسبوعي، فإن مجموع ما تنفقه لمدة شهر يصل الى 6 آلاف جنيه استرليني، أما اذا افترضنا ان عدد الاحزاب والواجهات السياسية التي تصدر مثل هذه الصحف يصل الى 50 حزباً وتكتلاً، فإن المبلغ الكلي الذي تنفقه هذه القوى على صحافتها يصل الى اكثر من 300 ألف جنيه استرليني شهرياً، وهذا مبلغ خيالي وهو أقل بكثير جداً من واقع الحال. ولنأخذ نموذجاً واحداً من صحيفة عراقية معارضة لا زالت تصدر الى الآن. ونقلص بعض نفقاتها الاضافية. ونقبل بالحد الأدنى الذي نعرفه عن هذه الصحيفة، فهي توظف ثلاثة اشخاص بمرتب شهري يصل معدله الى 3 الاف جنيه استرليني، بينما يبلغ عدد النسخ ألف نسخة اسبوعياً، واذا جردنا مبالغ البريد والتسويق فإن المطبعة تأخذ ما مقداره 500 جنيه عن كل عدد اسبوعي اي 2000 جنيه استرليني في الشهر والمجموع الكلي يصبح 8 آلاف جنيه استرليني في الشهر، وعلى مدى الأبعد يصبح 96 ألف جنيه في السنة الواحدة، ولو اعتبرنا ان عدد القوى التي تصدر مثل هذه الصحيفة يصل الى 10 قوى فقط، فإن المبلغ يصبح 960 ألف جنيه استرليني سنوياً، وهذا نموذج للمبالغ الهائلة التي تصرف على إعلام محدود، بعضه لا يقرأ من قبل العراقيين لردائته. الاعلام سلاح فتاك وهو لا يقل خطورة عن الأسلحة الفعالة، وهذا الاعلام - من قبيل التورية - اسقط دولاً عديدة وغير ملامح سياسات مؤسسات معروفة، انهارت مشاريع وصفقات واتفاقات عدة. بيد ان ذاك الاعلام ليس كهذا الاعلام، فهو فن وعلم ربما لا تريد أطراف المعارضة المعنية معرفة هذه الحقيقة، فهي تختصر سلم المواجهة مع النظام بتنصيب السياسيين على توجيه عجلة الاعلام بدلاً من اعلاميين - سياسيين. والموقف من الاعلام يرتبط ايضاً بالموقف من السياسة، فالأسئلة المطروحة في الشارع العراقي تتناول المظاهر التي تتعلق بواقع المعارضة، وخصوصاً في هذه الاونة التي يزحف فيها النظام العراقي لاستكمال مراحل عودته الى الساحة الدولية بعد ان يؤهل نفسه لمثل هذه العودة. وان كافة المؤشرات تقول انه حقق مسيرة ليست قليلة بهذا الاتجاه، بينما لم تحقق المعارضة العراقية خطوة واحدة باتجاه تحقيق بعض عناصر المشروع الوطني. اذن، هل ستبقى المعارضة العراقية على هذه الحال وتنتظر ما ستسفر عنه السياسات الاقليمية والدولية في المنطقة، ام انها ستحاول الانطلاق من نذائر الخطر المحدق الذي يتهدد عموم القضية العراقية، ومن ثم تستعيد فعاليتها ودورها المطلوب؟ سيثمر الوضع المأزوم في ساحة العمل السياسي العراقي نتيجة عوامل داخلية وخارجية، فالعوامل الداخلية يمكن معالجتها بالارتقاء الى مستوى المسؤولية الوطنية، اما العوامل الخارجية فهي وان كانت مؤثرة في بعض مفاصلها، الا انها لا يمكن ان تكون حاسمة باتجاه عملية الصراع، وقد تستقطب النزاعات الدولية هذه الجهة او تلك، فتبدأ ماكنة التمويل من جديد تغرق بعض "الدكاكين" بالاموال والصحف، وربما بدأت مثل هذه العملية الآن، لكن هل سيستمر مثل هذا الوضع اذا ما قررت اطراف المعارضة الاساسية عبور النفق المظلم الذي تحاول اجتيازه، بالتأكيد تستطيع ذلك اذا تخلت عن نزعة الاستئثار بالعمل السياسي المعارض كل لذاته ولمصالحه الايديولوجية، واضعة في مقدمة اهتمامها المشروع العراقي الوطني المستقل عن ارادة الآخرين. وربما في معالجة الظواهر السلبية تكمن عبرة التحول والانعطاف في مسيرة المعارضة العراقية، وهذه الظواهر اذا ما استمرت فإنها لا بد ان تقضي كلياً على اي احتمال لزعزعة النظام القائم، فكل شيء اصبح في الوقت الراهن معروفاً، ولا يمكن اخفاء حال الانهيار في صفوف المعارضة جراء استمرار مثل هذه الظواهر، وعليه فإن الطريق السليم يبدأ من خطوة الانفتاح بين التيارات والقوى المعنية بالقضية العراقية التي تسعى الى تحقيق احلام الشعب العراقي في قيام نظام وطني ديموقراطي يعتمد على التعددية ويحترم حقوق الانسان ويصون سيادة واستقلال البلاد.