الكتاب: غناء وموسيقى درفقه الاسلام بالفارسية الغناء والموسيقى في الفقه الاسلامي الكاتب: روح الله حسينيان الناشر: منشورات سروش - طهران 1997 كان الانقلاب الخميني عام 1979، شأن أي انقلاب آخر، سعياً لازاحة منظومة القيم والمعايير التي اتفق عليها المجتمع واحلال منظومة اخرى مكانها، حتى ولو اصطدمت مع الافكار والمشاعر والبديهيات الاساسية للناس، افراداً وجماعات. وأصدر القائمون على الانقلاب والساهرون على دوامه فتاوى تحرّم أو تحلل جوانب عدة من أوجه الحياة ومفاصل العيش اليومي. واذ كان من السهل، نسبياً، التحكم في اشياء الظاهر والتشدد في مظاهر السلوك الرائج من ملبس ومشرب ومأكل، فقد كان صعباً، الى حد، البتّ في أمور الباطن والقطع في نواحي الاحاسيس والمشاعر والأهواء والانفعالات. كان محيراً، والحال هذه، الفصل في شأن الموسيقى والغناء والخروج برأي قاطع في وجوب السماح بهما أو منعهما. ولقد شمّر علماء الانقلاب وفقهاؤه عن سواعدهم ينقبون في المصادر القديمة ويلوذون بالمراجع التليدة عله يمكن البحث عن جواب شاف وردٍ حاسمٍ. وارتفعت الاصوات الكثيرة المطالبة بتحريم الأمرين وحظرهما ومعاقبة من يجري الامساك به متلبساً بفعلة الغناء أو الموسيقى. وكادت الاصوات، تلك، تصل مرادها وتفي بأغراضها. الا ان للواقع، ايضاً، حكمه. وهو كثيراً ما يترك الكلمة الاخيرة لمنطق الاحداث. فحين اندلعت الحرب بين ايران والعراق تم تجييش كل شيء وتعبئته، ورأى الخمينيون كيف وظفّ الحكم البعثي العراقي مناحي الموسيقى والغناء في خدمة آلة الحرب ومن اجل ديمومتها. ولأن المصالح يمكن ان تعدّل حتى القوانين الرياضية كما يقول القدماء فان الخمينيين لم يروا بداً من تخفيف المطاردة التي كانت على وشك الانطلاق بحق الغناء والموسيقى. ينتبه المؤلف روح الله حسينيان الى هذه النقطة في مقدمة كتابه المكرّس للاحاطة بأحوال الغناء والموسيقى في الفقه الاسلامي. وهو يتحمس لذلك، ويذكر ان الاناشيد والقطع الغنائية والموسيقية اثناء "صراع الحق والباطل في حرب السنوات الثماني" كان لها تأثير كبير على النفوس والاذهان، فحركت العواطف وخلقت في القلوب عشقاً للحرب ودفعت بالكثيرين الى الاقدام والذهاب الى المعركة لمقاتلة العدو. والآن، اذ سكتت أصوات المدافع وخمدت أناشيد الحرب وموسيقاها. يعود السؤال ليتعلق بالموقع الذي يشغله الغناء والمكانة التي تحتلها الموسيقى من منظور الخمينيين. ولأن هؤلاء يستمدون الرأي ويقرون الحكم بالسند الى السلف تصير ملحة العودة الى الفقهاء المسلمين لمعرفة احكامهم وتبيان آرائهم في الموضوع. ينبغي ان نذكر هنا ان السلف المقصود والفقهاء المعنيين بالدرس والرجوع الى آثارهم هم علماء الشيعة وفقهاؤهم على وجه الحصر في الجهد الذي بذله المؤلف الايراني. استقر رأي الكثير من هؤلاء على الفتوى بتحريم الغناء. ورغم فوارق طفيفة وخلافات بسيطة فهناك ما يشبه الاجماع بهذا الصدد. فهناك من يقول ان الغناء حرام في ذاته وبالمطلق وهناك من يعيّن الغناء الحرام باستماله على ما هو حرام ومحظور. وفي حين يقرر الشيخ الانصاري على ان "الغناء لا خلاف في حرمته بالجملة" فان الفقيهين، السبزواري والكاشاني يؤكدان على ان الغناء لا يكون حراماً ما لم يترافق مع عمل حرام. أما الاشياء التي تجعل الغناء حراماً فتكمن في جريانه في مجلس مختلط يضم الرجال والنساء معاً واشتماله على كلام باطل ومصاحبته لأدوات الموسيقى. ويذهب القائلون بالتحريم المطلق الى الاستعانة بآيات من القرآن لدعم ما يذهبون اليه. ومن ذلك: "واجتنبوا قول الزور"، حيث يفسر الفقهاء الزور تفسيراً واسعاً ينطوي على الغناء ايضاً. والفيروز ابادي يشرح الزور في القاموس المحيط على هذا النحو: "الزور... الكذب والشرك بالله وأعياد اليهود والنصارى ومجلس الغناء". وآخرون يرون اشارة الى الغناء والطرب في قول القرآن: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله"، فلهو الحديث ليس شيئاً آخر سوى الكلام، المغنى والطارب، الذي يشغل الانسان عما يعينه ويهمه ويشتد تحريم الغناء في حال قامت النساء به. وينقل المؤلف حديثاً منسوباً الى نضر بن قابوس يقول فيه: سمعت أبا عبدالله يقول: "المغنية ملعونة، ملعون من أكل كسبها". وينقل عن الحسن بن الوشاء قوله: "سئل أبو الحسن الرضا عن شراء المغنية فقال: قد تكون للرجل جارية تلهيه وما ثمنها الا ثمن كلب وثمن الكلب سحتٌ والسحتُ في النار". اما زيد الشحام فقد نقل عن ابي عبدالله قول ان "بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب فيه الدعوة ولا يدخله الملائكة". في حين يشير الحسن بن هارون الى قول أبي عبدالله من ان "الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر". ويطول التحريم الموسيقى ايضاً حتى وان كانت مستقلة عن الغناء بعيدة عن اغراضه. بل ان البعض يذهب الى حد القول ان الموسيقى اكثر ذنباً من الغناء نفسه وان الغناء يغدو حراماً ان صاحبته آلات الموسيقى، ذلك ان آلات الموسيقى هي آلات اللهو والضلال. ويذكر الشيخ المفيد من آلات الموسيقى العيدان والطنابير وسائر الملاهي وهو يفتي بتحريم التعامل بها والتجارة فيها. ويورد الشيخ الحر العاملي في "وسائل الشيعة" خمس عشرة رواية في تحريم الموسيقى وخمس روايات في تحريم الاستماع اليها. وينقل عن سهل بن علي الجزاز عن علي بن كليب الصيداوي قوله: "سمعت أبا عبدالله يقول ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة" اما احمد بن عقيل فينقل عن موسى بن حبيب عن علي بن الحسين: "قال لا يقدس الله أمة" فيها بربط يقعقع وناية تفجع". اما سليمان بن سماعة فينقل عن أبي عبدالله قوله: "لمّا مات آدم شمت به إبليس وقابيل، فاجتمعا في الأرض فجعل ابليس وقابيل المعازف والملاهي شماته بآدم فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فانما هو من ذلك". ويورد ابراهيم بن محمد عن عمران الزعفراني عن أبي عبدالله القول التالي: "من انعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها". وهذه وغيرها من الاقوال والاحاديث المنسوبة على وجه الخصوص الى الحسين بن علي انما تجري مجرى تحريم الموسيقى وبطلان استعمالها وسماع ألحانها. غير ان المؤلف لا يتوقف عند هذا الجانب من الصورة ولا يقرّ تسليماً بهذا الوجه من مداولة الأمر. ففقهاء وعلماء آخرون افتوا بجواز الغناء والموسيقى على السواء، ولم تنقص فتاويهم السنود والادلة والمراجع الواضحة. وهؤلاء يظهرون على ان الغناء ليس في ذاته حراماً انما يحرم اذا دخل فيه شيء حرام من قبيل الكسب والمخالطة والعربدة ومعاقرة الخمر وما شابه. بل يذهب الحماس بهذا الفريق الى التشديد على ان القراءة في القرآن وتجويده وترخيم الصوت فيه وبعث الالحان به انما هي اشياء مرغوبة ومحمودة. ويُنسب قول الى النبي محمد صلى اله عليه وسلم في ان "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". ويورد محمد بن علي بن الحسين ان رجلاً سأل علي بن الحسين عن شراء جارية لها صوت فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة". ويُنقل عن النبي قوله: "لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن"، أي مد الصوت فيه وترقيقه وتنغيمه. ويسري الشيء نفسه على الموسيقى، اذ لا يذهب فريق آخر من الفقهاء الى تحريمه ووقوعه موقع البطلان واللهو والضلال. وينقل هؤلاء عن النبي انه مرّ بقوم من الزنج وهم يضربون بطبول لهم ويغنون فلما رأوه سكتوا فقال النبي خذوا يا بني أرفدة فيما كنتم فيه ليعلم اليهود ان في ديننا فسحة". وعن جعفر بن محمد انه قال: لما كانت الليلة التي بنى فيها علي بفاطمة سمع رسول الله ص ضرب الدف فقال: ما هذا؟ قالت أم سلمة: يا رسول الله هذه اسماء بنت عميس تضرب بالدف أرادت فيه فرح فاطمة لئلا ترى انه لما ماتت أمها لم تجد من يقوم لها، فرفع رسول الله يده الى السماء ثم قال: اللهم أدخل على اسماء ابنة عميس السرور كما افرحت ابنتي...". وعليه، يمضي المؤلف في اعقاب الرأي فيقول ان للموسيقى وجهاً حلالاً وآخر حراماً. فان كان القصد منها اللهو واقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي وتحريك الشهوات واحداث الفساد فهي حرام اما اذا كانت تنطوي على هدف سام يقصد فيه تهذيب النفس وتجميل الاحاسيس ورفع المعنويات في الحروب وتحريك العواطف الانسانية وزرع المحبة فهي حلال. والآن، ومع ترسخ الاوضاع وذهاب اوجه الشدة والتعبئة والعنفوان ونشدان النفوس للراحة والاسترخاء بعد سنين من التحفز والتعبئة، ينحو المجتمع الايراني شيئاً فشيئاً الى استعادة روحه ومشاعره واعادة حرث عواطفه ولا يجد حرجاً كبيراً في رفع صوته بالغناء الجميل والشدو على ايقاع الآلات الموسيقية في بلد كانت، في ما مضى، اماً للحضارات والفنون ومرتعاً للغناء والموسيقى.