"كلانا ناظرٌ قمراً ولكنْ رأيتُ بعينها ورأتْ بعيني" من قال هذا البيت الذي تضاربت الآراء والتفسيرات حوله؟ في أي عصر نُظم، وفي سياق أي مرحلة من تطوّر الشعر العربي، بدأ المتذوقون والرواة ودارسو الأدب يتناقلونه ويختلفون حول اسم الشاعر الذي ابتكره؟ فالى جانب الجزالة الموسيقية والرقة العاطفية والتخطّي الجمالي الذي انفردت به الصورة، يتبيّن الافق الابداعي الذي بلغه الشاعر من خلال "ولكن... رأيت بعينها ورأت بعيني" أي أنّ هذا الانفتاح غير المحدود الذي يرمز الى بعض الأدلة على حقيقة الشعر المبتكر، بقي على مر سنين موضوع تحليل نقدي أدبي للتذوق، ان لم يكن للادراك التام الذي يستحيل ان يتم عقلياً في محاولة الوصول الى تفسير للشعر، يتوافق والذي يصحّ به فهم النثر، في ابوابه المختلفة. ولعلّ من اهميات هذا البيت الشعري، المجهول الناظم، او المشكوك في صحة نسبته، او انتحاله، انه يطرح بصورة عامة، موضوع التدقيق اكثر فأكثر، في صحة نسبة الشعر القديم، عربيّاً كان أو غير عربي - الى الشعراء الذين عرفت شهرتهم به، سعياً الى معرفة ادق، والى ارتحال ابعد، مع الشعر، عبر تعاقب ألوانه وأنواعه على مر الازمنة السريعة. وقارئ الشعر القادر على الارتفاع الى هذا المستوى من ثقافة التذوّق، لا بد له من ان يمر كذلك بهذا البيت المحسوب على المتنبي: وكثير من السؤال اشتياق وكثير من ردِّه تعليلٌ. فالمتنبي الذي عاش حياة جادة وقاسية لم تسمح له بالانصراف الكافي الى شعر الحب، وراح بسبب كبت مشاعره العاطفية، يُسرّب الغزل، تهريباً بين قصيدة مدح وقصيدة هجاء اثبتت عبقريته انه ليس شاعر المدح والهجاء والحماس والحكم، وحدها، ولكنه في الاعمق والاخلد، شاعر وجداني رقيق يتجاوز تصوير الالم، الى عوالم تتميز بالتجديد والابتكار، وتظل عوالم حديثة معاصرة ينهد اليها الشاعر المبدع، والقارئ المتفوق في كل مكان وزمان، بعيداً عن النظريات المحدودة المغلقة التي يحاول بعض النقاد حصر الابداع الشعري فيها. أي شاعر... لأي قارئ؟... وأي شعر... لأي نهضة ادبية فكرية ثقافية شاملة، يحتاج اليها المواطن العربي، او يحتاج اليها دارس العربية، من غير العرب؟ رجل... ولدى التوقف عند أبي العلاء المعري مثلاً في ما وصل اليه من ألم وجودي، وزهد، وتشاؤم، عندما قال: "غيرُ مُجدٍ في ملّتي واعتقادي نوح باكٍ ولا تَرنُّم شادي فان ما يُميز أبا العلاء، بالاضافة الى الموهبة الشعرية الواسعة، والتمكّن الكبير من فلسفة اللغة العربية، هو انه احتفظ في شعره بالنضارة العفوية وبالصفاء المتدفّق، حتى وهو يعبر عن حالات نفسية تتشابك فيها الكلمات عادة، ويعصى التعبير بها، على سواه من شعراء العصر وأدبائه. والنغم الكئيب النقي الذي يُنعش شعر أبي العلاء في هذا المنحى يضفي على اسلوبه قيمة رائعة تجمع بين الالهام والحروف، على مستوى فريد ظلّ حتى اليوم، خاصاً به. ان الابداع الشعري، عند العرب، منذ الفين وخمسمئة عام على الاقل، حتى اليوم متواصل بانسجام سليم، على الرغم مما يحيط به بين عصر وآخر، من خروج على الاصالة، أو ابتعاد عن بلوغ اللامحدود... ولا يتسع مجال هذه المقالة، لغير بعض النماذج المختارة للبحث في مشكلة الشاعر مع القارئ، وفي التساؤل عن تخلّف شعراء، لدى تعدادهم بالملايين، عن استطاعة تذوق الشعر الحقيقي واقتناء دواوينه، علماً ان نسبة الامية، في بعض قطاعات الجمهور، ونسبة شبه الامية، في تدريس اللغة والأدب العربيين، في اكثر البلدان العربية، ونسبة طغيان الاعلام الحديث، من سينما وتلفزيون... تصرف جميعاً النشئ العربي الطالع عن صواب الترقي، بينما تستمر البرامج التدريسية، في سلّم مستوياتها، من الابتدائي حتى الجامعي على حالها، بشكل عام، ولمّ يجر تعديلها في الاتجاه الافضل. وحين يستمر اختيار النماذج الشعرية الاكيدة، بين القديم وما تلاه تاريخياً، ينبغي الانتقال الى عصر النهضة بعد اجتياز عصور الانحطاط الادبي والفكري، التي خضع لها الابداع العربي، ايام الحكم العثماني، وضيق المجال، هنا، لا يسمح باختيار الكثير من الاسماء، مع الاسف، ولعل من يتوجّب الوقوف عنده، في بداية هذا القرن الذي ينصرم، هو احمد شوقي الغنيّ بالانواع والأساليب الشعرية المختلفة. وفي قصيدته "الشينية" التي عارض بها قصيدة البحتري بيت يقول الكثير وقد جاء فيه. "احرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس"؟ فأي شاعر بل أي قارئ، تعرض للظلم وعدم الانصاف، لا يعيش مغزى هذا البيت مع شوقي، الذي اغنى القرن العشرين - الى جانب سواه طبعاً - بما هو اهم من شعر المناسبات الذي وقع احياناً في تجاربه العاثرة ودون ان ينال ذلك من ريادته لشعر عصري رفيع؟... وفي المقابل من شوقي، وفي العمق ايضاً، من المغرب العربي، أطل أبو القاسم الشابي بوعد كبير لم يمهله العمر القصير لأتمامه بكليته، ولكنه في ما انجزه من شعر غزلي وقومي، عبّر عن مرحلة وطنية عاصفة. وحين أنشد: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدرْ" فإن القارئ الذي يجد شعوره ممثلا في هذا الشعر، بأسهل مما يجده في شعر مرتفع الخيال، أو معقد الحكمة، يسمو حسُّه الأدبي والجمالي درجات ملموسة نحو الاستواء على طاقة مطلوبة من المعرفة الفنية والجمالية. وما دامت النماذج المطلوبة، كثيرة، ومجال الاستشهاد بها محددواً، فلا بد من ذكر "الأخطل الصغير"، بشارة عبدالله الخوري، الذي أحاط بالكثير من المواضيع والأبواب الشعرية، وبقي الغزل أروع ما جاءت به قريحته: "كفاني يا قلبُ ما أحملُ أفي كلِّ يوم هوى أوَّلُ؟ فهذا القلق من كثرة الحب، المتكاذب في الشكوى، يطبع شعر "الأخطل الصغير" في بثّ العتاب، وتصوير اللواعج، والابقاء على الرغبة المتفائلة بدوام العشق. وفي السياق الزمني، نفسه، في مرحلة الربع الثاني من القرن العشرين، وحتى الربع الثالث منه، يمر يوسف غصوب شاعراً مجدداً خلوقاً، أنيقاً، صادقاً، متواضعاً، يعمل للتجديد والتحرر من أي تقليد. ومن ابرز روائعه التي يمثل فيها توقه الدائم الى سعادة اللقاء العاطفي، حواره مع الحبيبة: "ألا كفّي الملام وزوديني من الحسنِ العريق... ولا تملّي" وفي هذا الحوار خوف العاشق المزيف، من الملام، ومناشدته الحبيبة نسيانه بمزيد من العطاءات ودون ملل يهدد الغرام. وضمن الاختيار المحدود، كيف يمكن عدم التوقف عند عمر أبو ريشة، هذا الكبير الآخر الذي صهر في شعره عراقة التراث، وبراعة التجديد، فخلف بعده المقطوعات الغزلية النادرة، والمطولات العاطفية أو القومية أو التاريخية الاسطورية، التي يتجلى فيها الابداع الخاص به: "والقاكِ بالحبّ الذي تعرفينهُ ولنْ تسألي عنهُ ولنْ أتكلم" أفليس في هذا البيت ما يشير الى الهيام الذي رافق عمر أبو ريشة في مسيرته الشعرية، والى المدى الملمحي ايضاً، الذي اتسمت به مطولاته الاخرى في مواضيعها؟ ثم كيف يمكن نسيان صلاح لبكي، الذي غاب منذ اكثر من أربعين عاماً دون ان ينصفه النقد الأدبي الحديث بعد، ودون ان يتعلم القارئ العربي، قيمة صلاح القائل: "هفا الليلُ قُومي نهزُّ المنى بأرجوحةٍ من ضياء القمرْ"؟ ان القارئ العربي - على امتداد خريطته الجغرافية الكبرى - محروم من تذوّق هذا الشاعر الذي عاش عمره القصير، مليئاً بالمعاناة الوجودية، وغنياً بالعطاء الأدبي والصحافي والقانوني، ويصحّ فيه انه بلغ بالشعر العربي، أفقاً عالمياً - في المضمون الذاتي - ان لم يكن في الشهرة الاعلامية، أو في الترجمات السائدة في هذه الفترة بوسائل ارتجالية سطحية خطرة على الشعر والأدب والشعراء... من هنا ان الابداع الشعري العربي، في تكثيف حقائقه ووجوهه ورموزه، قائم ومستمر، ولا ينقصه غير ازالة الحواجز، وتبديد الغيوم التي تحجب اضواءه عن القارئ العربي، أو القارئ الاجنبي الذي يفتش عن معرفة العرب في حقيقتهم وعن العروبة في طاقاتها الحضارية الانسانية وأخيراً لا آخراً، لا بد من نموذج شعري معاصر، بين الاحياء، أطال الله عمرهم وسدد طريقهم الشعري... وليكن من القلائل الذين انفتحت أمام أدبهم صفحات الصحافة العربية الدولية الحديثة، وبرامج الاعلام الاخرى، وهو الشاعر غازي القصيبي. وحين يقول في احدى قصائده مستلهماً "الاطلال" للشاعر الراحل ابراهيم ناجي. "إن ما أخشاهُ اني راحلٌ عن أمانٍ بين عينيك تجولْ" فان هذا الشاعر الذي ادرك الجديد، مستبقاً بالقديم، ومرافقاً لبعض نزعات الشعر غير الموزون موسيقياً، يمثل محطة يمكن القارئ العربي التوقف امامها، للتعمق فيها ملياً، قبل الدخول في عوالمها الواعدة بمستقبل شعري عربي أوسع وأشمل وغير قابل للأسر في محدودية المدارس الادبية ومنظريها القاصرين عن الشعر. اما الابداع الشعري غير الموزون فله كلام آخر...