يواجه المجتمع الجزائري هذه الأيام هزة على مختلف الأصعدة، خصوصاً على الصعيد السياسي، قد تؤثر سلباً على مستقبل علاقاته الداخلية، والخارجية ايضاً. فمن جهة هناك شعور باتساع مساحة العنف، ومن جهة ثانية رفض لأي تدخل أجنبي على اعتبار أن الدعوات التي بادرت بها منظمات دولية متعددة تصب في خانة التدخل بأشكال مختلفة. وهو الأمر الذي يشكل حساسية خاصة لدى الجزائريين منذ ثورة التحرير، كون هذه الأخيرة نجحت في ان لا تسمح للآخر، مهما كان قربه، أن يتدخل، أو يؤثر في صنع قراراتها المصيرية. غير أن محاولة استحضار الثورة وتطبيقها على الواقع الحالي، تعطي حالاً من الزيف لا مثيل لها، لأنها - ببساطة - تسعى إلى إعادة تجسيد الإنتصارات في زمن الهزائم والإنكسارات. وبما أنه لا يوجد بديل آخر، فقد قبلت بهذا اقطاعات واسعة من الشعب، وذلك يعد أمراً طبيعيا مادامت المعارضة والسلطة معا تشكلان طبقة سياسية خاصة تلبي مصالح مجموعاتها القريبة أو البعيدة، من دون نفي وجود مصالح شعبية بحكم ضرورات السلطة. ويحاول الخطاب الرسمي الجزائري الهروب من الواقع المأسوي بتبرير عجزه وفشله من خلال صيغة استهلاكية لا مفر من القبول بها، في ظل غياب أنواع أخرى من الخطاب يمكن ان تكون نقيضاً له. بل إن بعض القطاعات من الشعب يذهب الى القول: "إن السلطة تظل أرحم في خطابها من الاحزاب مادامت قد كشرت عن انيابها وأبدت مواقفها العلنية من مجمل القضايا، واستطاعت ان تحول المعارضة الى مجرد رد فعل". وهذا يمثل اعادة تشكيل للرأي العام الوطني، خصوصاً بعد زيادة الضغوط الدولية حول المجازر الاخيرة وحقوق الإنسان. لقد استطاعت السلطات الجزائرية أن تجعل مواقف الآخرين مما يحصل في البلاد مجرد تصفية حسابات سابقة معها نتيجة للمبادئ التي اتخذتها في فترة ازدهارها، وأيضا نتيجة لموقعها الاستراتيجي ومواقفها الداعية الى تصفية الاستعمار من المنطقة، وتدعيم حركات التحرر الخ. ولهذا تسود الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي نغمة ستشكل مأزقاً حضارياً في المستقبل القريب، إذ يذهب ذلك الخطاب الى تجسيد عداء الآخرين، من العرب والمسلمين، للجزائر أكثر مما يُشدد على الظاهرة نفسها لدى الاوروبيين وفي الغرب عموماً. فهل هذا حقيقة أم مجرد وهم؟ إن المواقف السياسية، وجرائم العنف والإرهاب من مختلف الفئات والأطراف، لم يعد في الإمكان إخفاؤها، لكن في الوقت ذاته هناك نوع من التضخيم المقصود تبثه تلك الكتابات الموجهة في الداخل والخارج، إذ لا أحد ينكر داخل الجزائر أن الصحف الفرانكفونية لها امتدادها داخل السلطة، وعنها تنقل وكالات الأنباء الغربية. ومادامت السلطات الجزائرية لم تستطع أن تمنع ما يأتي في تلك الصحف منشوراً، فذلك يعني ببساطة ان جناحاً داخل السلطة يؤيد تلك الكتابات. ومن جهة اخرى فإنه ليس بإمكان تلك الصحافة معرفة أعداد القتلى بدقة لأن الوضع الأمني لا يسمح بذلك. ويأتي تضخيم الأعداد من باب كسب مزيد من القراء في ظل جو لا أحد فيه يراقب الآخر. وعلينا ان نعترف بان لغة التحدي التي تواجه بها الصحافة الفرانكفونية السلطات لا تستند الى منطلق القوة الداخلية، بقدر ما أن هناك إعتمادا على قوة خارجية. ولهذا السبب يشكك الجزائريون في نيات المنظمات الدولية، من منطلق ان التابعين لها داخل الجزائر لا يملكون اي شرعية. يلاحظ ان السلطات الجزائرية لم تتخذ مواقف حاسمة تجاه تلك الإمتدادات الخارجية داخل البلاد، ولا ردت بحدة على ما تكتبه الصحافة الفرنسية، وإنما لجأت الى ترويج فكرة عدم فهم الكتاب العرب والمسلمين لما يحدث في الجزائر. وإذا كنا لا ننفي ان كثيرا من الكتابات تقوم على معلومات مغلوطة، وأخرى لا يملك اصحابها مرجعا آخر عن الوضع في الجزائر، وكتابات ثالثة تحمل عداء بيِّناً، إلا أن هناك كتابات أخرى كثيرة وصائبة في ما تقول، وتكتب بألم عن الجزائر، معتبرة ما يحدث في هذا البلد قضيتها الأولى. إنها الأقلام نفسها التي كانت إلى جانب الجزائر وثورتها ضد الإستعمار. إذن استخلص من كل هذا أن الترويج لعداء الآخرين فيه نوع من المبالغة من جهة، والخوف من مواجهة الواقع من جهة ثانية، ومحاولة تبرير ما يقوم به الآخرون من جهة ثالثة. والأغرب من كل هذا أن إعلام المعارضين - إن جاز التعبير - هو في الوقت الراهن أقوى من إعلام السلطة، لا لأن المعارضة على حق، ولكن لأن الذين يهتمون بالشأن الجزائري لا يجدون أمامهم إلا المعارضة. واضح أن مأساة الجزائر في جانبها الآخر، هي مأساة معلومات ايضاً. فالمعلومات إما مغلوطة او نابعة - وهذا في الأعم - من مصادر جزائرية تروج، علنا وسرا، لأفكار خاصة بها. او انها تعبر عن محاولات اطراف خارجية تظهر الشفقة، وتبطن المصالح، وهذا أمر طبيعي مادام الإرهاب يساعد على بيع السلاح والمعلومات والإنسان ايضا. ولهذا نقول ان من غير المعقول ان يظل الشأن الجزائري يوضع في خانة "مع" أو "ضد"، وإذا كان من الضروري حدوث ذلك فعلى الكتاب والصحافيين ان يحددوا هم مع من وضد من؟ الواقع أن الكتابات والمتابعات الصحافية تسعى - في معظمها - الى ان تكون مع هذا الفريق على حساب ذلك، ولا تعد الصحافة مسؤولة عن ذلك، على الاقل في البداية. ذلك أن الجزائريين على مختلف احزابهم وتياراتهم السياسية عملوا على الترويج لفكرة الحرب بين فريقين، ومع الايام لم تعد المسألة على النحو السابق، وإنما صارت حرب اصحاب المصالح ضد المجتمع ككل. إذن فلكي تعود الجزائر الى شرح قضيتها من منطلق الصدق والواقعية عليها ان توقف ترويج عداء الآخرين لها لأن هذا مجرد وهم، سببه فشل الديبلوماسية الجزائرية، ولا أحد غيرها. وما الوفود المتعاقبة التي زارت الجزائر في الايام الاخيرة غير دليل قاطع على عجز الديبلوماسية عن اعطاء صورة واقعية عن الجزائر. إذ بدل ان تقلل من خطورة الارهاب امام سلطة الدولة، وإقامة المؤسسات، عملت على ربط الجزائر بالخارج، وكأن قدرها المحتوم أن تستمر في مواجهة الارهاب، ضمن شبكة عالمية. وإذا كنا لا ننكر علاقة الارهاب بالخارج فإننا ايضا معتقدون ان كثيرا من الكتاب العرب والمسلمين يعادونه، كيف لا وهم يواجهونه في كل مكان، وقد قتل كثير منهم لمواقفهم من الارهاب الظاهر والخفي!؟