عاد دنيس روس الى واشنطن من رحلته الأخيرة الى الشرق الأوسط بالنتيجة المعتادة: لا تقدم، مهما كان ضئيلاً، في عملية السلام التي تحتضر. فقد رفضت اسرائيل اقتراحاً أميركياً متواضعاً بانسحاب جديد يشمل 13 في المئة من أراضي الضفة، ورفضت السلطة الوطنية الرفض! فيما اكد بنيامين نتانياهو موقف اسرائيل المتشدد في خطاب القاه في 26 من الشهر الماضي ونشرته صحيفة "هآرتس" اليوم التالي، عندما اعلن: "اننا نبذل جهداً مستمراً للحفاظ على القدر الأكبر من الأراضي، من ضمن ذلك اراض انا مستعد للقتال من دونها حتى لو لم يكن لها قيمة أمنية". وأضاف: "التسوية الدائمة ستتبع المفاوضات على قضية الأراضي وعلى الناحية الوظيفية. الجانب الوظيفي سيتضمن القيود على السلطات التي يتسلمها الفلسطينيون، مثل حظر عقد التحالفات الدولية عليهم، وحظر استعمالهم موارد اسرائيل المالية، ومنعهم من تهديد مجال اسرائيل الجوي واغراق المنطقة باللاجئين". الواضح ان عدوانية نتانياهو وغروره بلغا حداً لا يهمه معه الحديث سوى الى نفسه وتلك الحلقة الضيقة من مسانديه اليمينيين. والمذهل انه لا يزال في اميركا من يرى وبينهم مسؤولو ادارة كلينتون ان موقفه ينطوي على قدر من المعقولية. أما الحقيقة فهي ان نتانياهو يعيش، مثل "أليس في عالم العجائب"، واقعاً توهّمه لنفسه، ويتكلم عنه بلغة تشبه لغة "أرنب آذار" أو "ملكة القلوب" من حيث اغفال الوقائع والامكانات ومصالح الآخرين في العالم الحقيقي. الواضح أيضاً، كما اعتقد، انه يرى ان السلطة الفلسطينية على المدى البعيد ستقنع بتسعة في المئة من الأراضي، اضافة الى الثلاثة في المئة التي تمارس فيها الحكم الذاتي الآن، وتترك اسرائيل لحالها، وكأنها صفقة مرضية للجميع. من جهتها تجد ادارة كلينتون ان اجندة الرئيس الداخلية تمنعه من عمل الكثير تجاه تدهور مكانة أميركا في الشرق الأوسط. من هنا فإن سياسة الولاياتالمتحدة، راهناً على الأقل، ستترك في يد حفنة من الموظفين الضيقي الأفق، غالبيتهم من المسؤولين السابقين في اللوبي الاسرائيلي، الذين يبدو ان همهم الأول هو المحافظة على عملهم. وربما كانت المواجهة بين وزير الخارجية البريطاني روبن كوك والمسؤولين الاسرائيليين مؤشرا على تغير في الموقف الأوروبي، لكن لم يحن التأكد من ذلك بعد. في أي حال، لا مجال للخلاف على ان بؤرة التوتر الرئيسية بين الفلسطينيين والاسرائيليين هي قضية الأرض. انه صراع سيستمر، ومن الضروري بالنسبة الينا، في غياب وزن عربي عسكري رادع أو خلاف حقيقي بين أميركا واسرائيل، ان نفكّر بالوسائل المتاحة لنا في الوقت الحاضر. من بين الضرورات الملحة للفلسطينيين ايجاد طريقة لوقف الفلسطينيين عن العمل على بناء المستوطنات الاسرائيلية، وهو بالطبع ما يضطر اليه العاملون بسبب ظروفهم اليائسة. قبل ثلاثة أسابيع سألت سائق شاحنة فلسطينياً عن السبب في عمله لدى مقاول اسرائيلي. اجاب: "عليّ ان اطعم اطفالي. اعثر لي على عمل آخر وسأترك فوراً". علينا، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، ان نوجه اهتمامنا فوراً الى هذه المشكلة، والجواب عليها هو انشاء صندوق لمساعدة العاطلين عن العمل، وهو ما سيمنع، او على الأقل يخفف من قيام الفلسطينيين باعمال كهذه. ولا اجد ان هناك ما يمنع المجلس التشريعي الفلسطيني من تحدي ياسر عرفات في هذه النقطة، ووضعها ضمن النقاش المستمر حول الفساد في السلطة الفلسطينية. الواقع أيضاً هو ان ما بين 40 الف الى خمسين الف فلسطيني يعملون في اجهزة الأمن، اكثرهم في مهمات التجسس واعمال حراسة شكلية. لماذا اذن لا يجري تحويل قسم من هذا الانفاق من المجال الأمني الى مجال الحفاظ على الأراضي؟ اضافة الى ذلك هناك اربعة ملايين فلسطيني يعيشون في الخارج، بينهم كثيرون من الميسورين ويمكنهم المساهمة بمبلغ شهري لمواجهة تكاليف صندوق مساعدة العاطلين عن العمل أو صندوق مخصص للتشغيل. انها ضرورة ملحة ننساها تماماً في ادماننا على النقاش النظري العقيم حول "الاستراتيجية". علينا، اضافة الى وقف الفلسطينيين عن العمل على بناء المستوطنات، ان نفكر بعناية باسلوب العصيان المدني. لا أشير هنا الى انتفاضة جديدة، لأن هذا يعني تكرار شيء لا يقبل التكرار. لكن اعتقد ان علينا التفكير بالقيام في شكل منظم ومستمر بمسيرات سلمية الى مواقع انشاء المستوطنات وعرقلة المرور والتظاهر الخ، وذلك كجزء من استراتيجية عامة لاحتواء التوسع الاسرائيلي المستمر يوماً بعد يوم. واذا لم يكن لنا، لأسباب بديهية، ان نعتمد الأساليب المستعملة في جنوبلبنان التي جاءت بانتصار مهم الى حزب الله، فإن علينا التخطيط لما يمكننا القيام به، والاهم من ذلك، ما يمكننا ان ننتصر من خلاله. ان اعادة بناء المساكن التي يهدمها الاسرائيليون هي جزء من عملية المقاومة السلمية. لكن لا يمكننا التفكير في اي من هذا ما لم ينجح الضغط الشعبي الفلسطيني في اجبار القيادة على طرح هذه الامكانات، واضطرارها الى الاعتراف علناً بأن عملية اوسلو بأسرها قد افرغت من اي محتوى حقيقي، واننا ازاء أولويات جديدة نابعة من ضرورة ملحة تتعلق بالحفاظ على الذات. اخيراً يجب اطلاق حملة دولية ضد المستوطنات ومن اجل حق تقرير المصير. ان في هذا ما يساعد الاتحاد الأوروبي على تحديد أوضح لأولوياته، ويوجه تحذيراً الى الولاياتالمتحدة من أننا كشعب لن نسمح بعد الآن بهذا القضم البطيء والمستمر لسيادتنا على أرضنا. وكنت فوجئت، خلال الشهور الأخيرة، بالحماس الذي قوبلت به كلما تحدثت أو كتبت عن القضية، ولمست مدى تلهف الكثيرين من العرب والأوروبيين والأميركيين والأفارقة على السماع منا والبحث عن طرق لمساندة كفاحنا ضد قوة اسرائيل وغطرستها التي لا تضاهى. لكننا لن نحصل على عون ما لم نعد الى تحمل مسؤولياتنا في معركتنا ضد التمييز العنصري. لقد غرقنا منذ زمن في تفاصيل عملية مزيفة للسلام منعتنا من التركيز على مواقفنا المبدئية بل كادت تنسينا تلك المواقف. ان اسرائيل صريحة في عزمها على خوض حرب استنزاف ضدنا، لذا حان الوقت بالتأكيد لمواجهة هذه الحقيقة ووقف هذه اللعبة الغبية التي ورطتنا طوال خمس سنوات في مماحكات لا تنتهي إلا الى ما هو أقل فأقل. علينا اكتساب القدرة على مواجهة الرأي العام الاسرائيلي حسب منطلقاتنا، أي ليس كمجرد حرس لأمن اسرائيل بل كشعب يطلب العدالة. ولا شك عندي ان هناك، خارج الاقنية الرئيسية التي تمثلها الفئات الحاكمة في اسرائيل، اي ليكود والعمل والمؤسسات الدينية، اقنية كثيرة للاتصال بالاسرائيليين المستعدين للكفاح ضد العنصرية والتعصب الديني في بلادهم. علينا ان نمتلك الشجاعة الكافية للترحيب بهؤلاء بدل السفسطات المعتادة عن "التطبيع". علينا التطبيع مع الاسرائيليين الذين يتفقون مع اهدافنا، أي حق تقرير المصير للشعبين في فلسطين. علينا ان نكون مستعدين لزيارة اشخاص مثل دانيال بارينباوم، الذي لم يخف رغبته في اقامة العروض الموسيقية للفلسطينيين والعرب، ويرى ان المجال الحقيقي المفتوح للمصالحة هو الثقافة وليس السياسة او المشاريع الاقتصادية. ما الضير في استضافته في رام الله او القاهرة او القدس، والاستماع الى هذا الموسيقي العظيم المطالب دوماً بالعدالة والسلام للفلسطينيين؟ كما ان هناك غيره من الذين نتجنب التعرف عليهم بسبب ترددنا وخوفنا. حان الوقت لكي نجعل العدالة موضوعاً مشتركاً بيننا والاسرائيليين. لا ادّعي ان هذه الاقتراحات تشكل جواباً او جزءا من جواب عن سؤال "ما العمل؟" الذي طرحه الدكتور حيدر عبد الشافي. لكن مهمة المثقفين هي تكوين مفاهيم جديدة وطرحها وفتح أبواب للتفكير والدرس أوصدتها علينا زمناً طويلاً روحية المحافظة واتباع المألوف. اننا نعاني من ظروف خارجة تماماً على المعتاد: ذلك ان خصمنا الاسرائيلي فريد من نوعه، وتاريخنا فريد من نوعه، لذا لا بد ان مستقبلنا سيكون فريداً أيضا. أنا على ثقة بأن نهاية اوسلو تعني بداية مرحلة جديدة، لا بد لها، في ظل ظروف التفكك الحالية، ان تكون أفضل من كل ما يواجهنا الآن. انني متأكد تماماً ان اوسلو كانت وبالاً على المجتمع الفلسطيني، وولدت فيه فساداً بأعمق ما في الكلمة من معنى. فقد تقدمت الى الواجهة المصالح الفردية، وتزايد التهرب من المهمات الجوهرية والتطلع الى الربح السريع باتباع الطرق المعهودة- وهذا ما قادنا الى مأزقنا الحالي. لقد لعبت الولاياتالمتحدة واسرائيل دوار في هذا الاضعاف لوضعنا، لكن من المرفوض تماماً اهمال الدور الرئيسي الذي قمنا انفسنا به. التحدي الأكبر امامنا هو أنفسنا، وما لم نواجه التحدي ليس امامنا وقتها سوى الانصياع الى مصير مظلم في الشرق الأوسط، مشابه لمصير الهنود الحمر في أميركا.