كانت العبارة الأساسية في مناقشات مجلس الأمن الدولي بشأن قرار جديد عن العراق ممجوجة كالسياسة الأميركية نفسها، فهي كانت "زناد اوتوماتيكي" automatic trigger، بمعنى ان الولاياتالمتحدة تضع إصبعها على الزناد وتطلق النار اوتوماتيكياً على العراق، إذا قررت هي انه خالف نصوص الاتفاق المعقود مع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. الاصبع على الزناد هو اصبع "كاوبوي" في الغرب الأميركي الخارج على القانون يحاول الآن ان يدير العالم بالعقلية نفسها، ما أوصلنا الى وضع عجيب تعجز الولاياتالمتحدة فيه عن حشد العالم ضد صدام حسين. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تعجز عن اقناع الدول الأخرى بحجتها ضد نظام ارتكب جرائم ضد شعبه وجيرانه حتى فُقدت الثقة فيه نهائياً، فإنها لن تستطيع اقناع الدول الأخرى بحجتها في أي موضوع آخر، وهو وضع كان يجب ان يحفز الادارة الأميركية على اعادة النظر في سياسة تعارضها بقية العالم، بدل ان تركب رأسها، وتصرّ على انها وحدها على صواب. القرار الذي أقره مجلس الأمن بالاجماع صيغ بلغة غامضة عمداً، وتجنّب الرد على سؤال أساسي هو إذا كانت أي دولة بمفردها تستطيع التقرير وحدها إن كان العراق خالف الاتفاق مع الأمين العام. وتعاقب مندوبو روسيا وفرنسا والصين والدول غير الدائمة العضوية على المنصة ليقولوا ان القرار يحرم الولاياتالمتحدة او غيرها من حق التصرّف بمفردها. ولم يكن أي من هذه الدول يدافع عن النظام العراقي او عن نفسه فقط، وانما المطروح هو منع دولة واحدة من انتزاع صلاحيات مجلس الأمن الدولي لنفسها، او من فرض رأيها على المجموعة العالمية. الواقع ان القرار لم يكتف بحرمان الولاياتالمتحدة من "الزناد الاوتوماتيكي" الذي طلبته، وانما زاد اشارة الى رفع العقوبات إذا نفذ العراق جميع القرارات الدولية. وكانت الادارة الأميركية دخلت في مزايدة مع الكونغرس باستمرار في موضوع العقوبات، وقالت وزيرة الخارجية السيدة مادلين اولبرايت، وهي معتدلة، مرة ان العقوبات لن ترفع طالما ان صدام حسين في الحكم، مع ان القرارات الدولية لم تشر أبداً الى عزل صدام حسين. بل ان الادارة نفسها استخدمت هذه القرارات لتبرير عدم محاولتها اطاحة صدام حسين عندما كانت قادرة ولها نصف مليون جندي في المنطقة. وإذا كانت المجموعة الدولية عارضت الموقف الأميركي لأسبابها، فإن لدى المراقب العربي سبباً اضافياً للقلق، فالتحريض على العراق، بحجة نظامه، صدر باستمرار عن جهات أميركية معروفة بتأييدها اسرائيل وعدائها للعرب والمسلمين. وكانت مراكز الابحاث المؤيدة لاسرائيل إنقضّت على الاتفاق الذي عقده انان مع صدام حسين، قبل ان يعود الأمين العام الى نيويورك، وعشية التصويت تسابق أنصار اسرائيل من الكتّاب أصحاب الميول الليكودية الى انتقاد الاتفاق وقرار الأممالمتحدة، وأي طرف يرفض تنصيب الولاياتالمتحدة خصماً وحكماً، فقرأنا مقالات من نوع "نقاط ضعف ستدّمر الاتفاق مع العراق" و"استراتيجية صدام الرابحة: السلام عن طريق حرب عصابات". وأكمل جو التحريض زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ السناتور ترنت كوت الذي كان دعا الى محاولة لقلب النظام، ثم اختار يوم التصويت على القرار ليكرر الدعوة الى محاكمة صدام حسين كمجرم حرب، وكأنه يريد من الرئيس العراقي ان يتراجع عن اتفاقه مع الأممالمتحدة خوفاً مما يدبر الأميركيون له. ومرة أخرى، فالدول الدائمة العضوية في الأممالمتحدة لم تدافع عن صدام حسين، وإنما وقفت ضد محاولة الولاياتالمتحدة الاستئثار بالقرار الدولي. واستطراداً، فهذه السطور ليست دفاعاً عن النظام العراقي، فلا دفاع عنه، وإنما لتسجيل عدم الثقة بالسياسة الأميركية، دوافعَ وممارسةً وأهدافاً. وإذا كان صدام حسين مجرم حرب استعمل الأسلحة الكيماوية ضد شعبه وجيرانه، فيجب ان يقف في قفص الاتهام معه الدول التي مكنته من الحصول على مثل هذه الأسلحة، اما بتقديمها مباشرة، او بغض النظر وهو يحصل عليها خلال حرب السنوات الثماني مع ايران، كما فعلت الولاياتالمتحدة. الولاياتالمتحدة هذه الأيام من الوقاحة ان ترمي حجراً، وكأنها بلا خطيئة، او ان تضع يدها على الزناد كأي "كاوبوي" عتيق.