يخشى الأميركيون ان يعود الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان من بغداد بموافقة الرئيس صدام حسين على فتح جميع المواقع الرئاسية للتفتيش، فتضيع عليهم فرصة ضرب العراق، لذلك فهم يسربون أخباراً هدفها اثارة قلق الرئيس العراقي واستفزازه ليتشدد في موقفه ويعطي مبرراً للضربة. والاستراتيجية الأميركية للعب على أعصاب صدام حسين تسير في اتجاهين: الأول التعامل مع المعارضة العراقية وتأهيلها لخلافة صدام، والثاني التهديد بمحاكمة الرئيس العراقي كمجرم حرب. وكانت السيدة مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية، اشارت الى الاتصال بالمعارضة عندما مثلت أمام لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ لمناقشة ميزانية السياسة الخارجية لسنة 1999 في العاشر من هذا الشهر. وهي قالت رداً على سؤال ان الادارة اتصلت بالمعارضة العراقية في السابق، وهي تعتزم الاتصال بها في المستقبل. كان ذلك قبل حوالى اسبوعين وشهد الأسبوع الماضي وصول وفد من المعارضة العراقية الى واشنطن حيث اجرى مفاوضات تسربت عنها معلومات الى الصحافة خلاصتها ان تعلن المعارضة حكومة موقتة في جنوبالعراق، وان تدعمها قوات التحالف بمنع القوات العراقية من دخول الجنوب، ثم تعطيها 1.7 بليون دولار هي الأموال العراقية المحجوزة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وعندما تثبت الحكومة الموقتة أقدامها في الجنوب ترفع الأممالمتحدة الحصار عنها. وكان ريتشارد بيرل، وهو نائب وزير دفاع سابق وداعية معروف لاسرائيل، طالب قبل ذلك باعطاء المعارضة كل الأموال العراقية المحجوزة في الخارج، وهذه تزيد على خمسة بلايين دولار. وفي حين ان بعض أعضاء المعارضة العراقية وطنيون مخلصون يستطيعون قيادة العراق الى بر النجاة، فإن بعضهم الآخر لصوص معروفون مدانون، واعطاؤهم أموال العراق يعني ان تنتهي هذه الأموال في حساباتهم الخاصة، وهم في هذا المجال يذكرون المراقب بالزعامات الكردية في الشمال التي أعطيت فرصة ذهبية لاقامة حكم ذاتي حقيقي، ربما قاد الى انفصال، غير انها انتهت باقتتال داخلي مدمر أساسه من يستأثر بفلوس المساعدات الخارجية، ومن يقبض دخول الجمارك والخوّات، ومن يتولى عمليات التهريب. واذا تذكرنا ان الحكومة الأميركية لم تحرك ساكناً عندما دخلت القوات العراقية أربيل سنة 1996، وبطشت بمئات من أنصار المعارضة العراقية، فاننا نشعر بأن الغزل الجديد هدفه تخويف صدام حسين لا تمكين المعارضة من قلبه، وان هدف بعض المعارضة بعضها لا كلها سرقة ما بقي من أموال العراق. على كل حال، اذا لم يخف صدام حسين من الغزل الجديد بين الادارة الأميركية والمعارضة، فهناك موضوع محاكمته امام محكمة دولية كمجرم حرب. وكانت السيدة أولبرايت صرحت مرة بأن الادارة الأميركية مهتمة بملاحقة صدام حسين في هيئات القانون الدولي، خصوصاً ان منظمات دولية، بما فيها الأممالمتحدة، جمعت معلومات كثيرة عن استعمال النظام العراقي أسلحة كيماوية ضد الأكراد في الداخل، وضد ايران. الواقع ان مثل هذه الدعوات ليس جديداً، فالرئيس جورج بوش وصف صدام حسين يوماً بأنه مثل هتلر. وقبل أيام كتب معلق في مجلة يهودية أميركية ان صدام حسين مثل هتلر وستالين. وجاءت السيدة أولبرايت الآن لتلمح الى الموضوع نفسه، مع انها تعرف ان الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ستعارض محاكمة صدام كمجرم حرب بالشدة نفسها التي عارضت فيها التدخل العسكري. أوقح ما في الموقف الأميركي هذا انه اذا كان صدام حسين مجرم حرب استعمل الاسلحة الكيماوية، فهو قطعاً لم يصنع تلك الأسلحة بنفسه، لذلك يجب ان تشمل المحاكمة الأطراف التي مكنته من ان يصبح مجرم حرب، أي الدول التي زودته بالأسلحة الكيماوية والدول التي سهلت وصولها اليه، ما يعني ان تُحاكم الولاياتالمتحدة نفسها. عندما كان صدام حسين يخوض حرب السنوات الثماني ضد ايران ساعدته الولاياتالمتحدة بكل وسيلة ممكنة، كما سهلت مساعدة دول اخرى له الى ان خرج منتصراً من تلك الحرب. وكانت الادارة الأميركية تعرف ان العراق استخدم أسلحة كيماوية ضد القوات الايرانية، كما استخدمها ضد الأكراد في حلبجة. الا انها لم تحرك ساكناً عندما كان صدام حسين حليفاً لها أو عميلاً، ثم تأتي اليوم للتهديد بمحاكمته كمجرم حرب، وهي تعرف تماماً انها ستقف في قفص الاتهام معه. التهديد بالمحاكمة، كالاتصال بالمعارضة العراقية، ظاهرة غير باطنة، فالادارة الأميركية تخشى ان يكون صدام حسين تعلّم درس 1991، فيقبل الشروط المفروضة عليه ويفوّت على الولاياتالمتحدة فرصة تدمير ما بقي من العراق لحساب اسرائيل، لذلك فهي تخلق أوضاعاً تجعل الرئيس العراقي يعتقد انه حتى لو قبل كل المطلوب منه من دون شروط، فإن مشكلته مع الأميركيين لن تنتهي، وانما هم سيحاولون قلبه بطرق أخرى. لو كان الأميركيون يعتزمون قلب صدام حسين لحاربت كل الدول العربية الى جانبهم غداً لقلبه. غير ان الدول العربية تعرف ان الولاياتالمتحدة لم تطح صدام حسين عندما كانت قادرة ولن تفعل غداً، فهو يخدم أهدافها في المنطقة بشكل ما كانت لتحصل على أفضل منه لو انها عقدت اتفاقاً معه لخدمة هذه الأهداف.