مع مرور أربع سنوات على توقيع اتفاق باريس الاقتصادي بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية في 29 نيسان ابريل 1994، تتدهور باستمرار الظروف المعيشية والاقتصادية للشعب الفلسطيني بسبب الاجراءات والسياسات الاسرائيلية التي تصر على تبعية الاقتصاد الفلسطيني لها بشكل كامل. وحذرت دوائر اسرائيلية وأكثر من وسىلة اعلامية من ان يؤدي التدهور الشديد في أوضاع الفلسطينيين المعيشية، اضافة الى فشل عملية السلام، الى انفجار الوضع وفقدان القدرة على ضبطه. ودفعت هذه المخاوف الحكومة الاسرائيلية الى الطلب من الأوروبيين زيادة دعمهم للسلطة الفلسطينية. وحسب تصريحات المسؤولين الأوروبيين وافقت دول الاتحاد الأوروبي على طلبات دعم فلسطينية واسرائيلية لكنها ربطت ذلك بوجوب إحداث تقدم كبير في عملية السلام. وتصب في هذا الاتجاه المبادرة الأوروبية الاخيرة التي حملها وزير الخارجية البريطاني روبن كوك خلال زيارته المنطقة. مصادر أوروبية حذرت من تغير السياسة الأوروبية والتخلي عن دورها كممول رئيسي لعملية السلام، وسيتم في الاسابيع المقبلة إلقاء الضوء على الموقف الأوروبي الذي ينتظر حدوث تغيرات اساسية في المواقف الاسرائيلية. وتقر السلطة الفلسطينية بأن الاقتصاد بواقعه الحالي يقع تحت حصار الاقتصاد الاسرائيلي بحكم نظام قوافل النقل، كذلك الحد من حركة رجال الاعمال والقطاع الخاص والعمال، والرقابة الأمنية الاسرائيلية على البضائع الواردة والصادرة والتجارة الخارجية، وتقول ان امكان نجاح الاقتصاد الفلسطيني مرهون بزوال العوائق التي تضعها اسرائيل، التي تناقض اتفاقية اوسلو واتفاق باريس الاقتصادي. قام هذا الاتفاق على التقدير المتبادل للاحتياجات الاقتصادية للطرفين واستقلاليتهما في تحديد السياسات الاقتصادية الخاصة بهما، ويؤكد على الوحدة الجغرافية للضفة الغربية وقطاع غزة كجزء واحد لا يتجزأ. ويتضمن الاتفاق مبادئ اساسية عدة لتنظيم العلاقات الاقتصادية الفلسطينية - الاسرائيلية المنصوص عليها في مقدمة الاتفاقية لبناء علاقة متزنة مبنية على أساس مبادئ الاحترام المتبادل والعدل والمساواة، وتنمية الأطر القانونية والمؤسسية للجانب الفلسطيني لتمكينه من تنمية التجارة الخارجية والنهوض بالاقتصاد الفلسطيني، ابتداء بخطط التنمية وانتهاء بالقرار الاقتصادي الفلسطيني المستقل. ويؤكد الاتفاق على حق الجانبين في استقلال القرار الاقتصادي والعلاقات التجارية المتميزة مع الدول الأخرى، ويشير ايضاً الى انشاء منطقة تجارة حرة فلسطينية - اسرائيلية، تسمح بانسياب البضائع بغض النظر عن الحدود السياسية والجغرافية، اضافة الى تسهيل انشاء عملة فلسطينية. وحسب دراسة أعدها البنك الدولي ونشرت مطلع الاسبوع الماضي بالتعاون مع وزارة الاقتصاد الفلسطينية حول العلاقات الاقتصادية الفلسطينية - الاسرائيلية، فإن حوالى 19.1 في المئة من سكان الأراضي الفلسطينية يعيشون دون خط الفقر بواقع 650 دولاراً في السنة ما يوازي دولارين يومياً، في حين يعيش نصف مليون فلسطيني في الأراضي الفلسطينية تحت مستوى خط الفقر، بسبب سوق العمل غير الثابتة، والاغلاقات الاسرائيلية المتكررة. وارتفع معدل البطالة من 18.2 في المئة في ايلول سبتمبر 1995، الى 28.4 في المئة في نيسان 1997، اذ انخفض عدد العمال الفلسطينيين العاملين داخل "الخط الأخضر" من 116 ألفاً عام 1993 الى 28 الفاً عام 1997 حسب دراسة للبنك الدولي. وتراجعت الظروف المعيشية وانخفض دخل الفرد، حين تراجع الانفاق الاستهلاكي الحقيقي للفرد في الضفة الغربية بين 1992 - 1993 و95 - 96، بنسبة 26 في المئة. كانت السلطة الفلسطينية تعول على النهوض بالاقتصاد الوطني بشكل سريع، بعد توقيع اتفاق اعلان المبادئ في 13 ايلول 1993 نظراً لتميزه بالعمالة، ورؤوس الاموال والقدرات البشرية العالية، وغيرها. الا ان هذا الاقتصاد واجه عدة معوقات اسرائيلية أهمها تعطيل التجارة الخارجية الاستيراد والتصدير بين المناطق الفلسطينية واسرائيل والعالم، ومنع استيراد قائمة من السلع مع ان اتفاق باريس سمح بذلك، ومنع وعرقلة التجارة الداخلية بين الضفة وقطاع غزة وبين مدن الضفة ايضاً، وأدى ذلك الى الحد من تطور القطاع الخاص. وأدت الاغلاقات المتكررة من قبل السلطات الاسرائيلية وارتفاع تكاليف النقل عبر الحدود الى انخفاض حجم التجارة. وتشير الدراسات الى انخفاض الواردات من 61 في المئة الى 48 في المئة من الدخل القومي الاجمالي بين 1992 و1995 فضلاً عن انخفاض الصادرات من 14 في المئة الى 12 في المئة من الدخل القومي الاجمالي للفترة نفسها. ومع ان اتفاق باريس الاقتصادي ينص على حرية انسياب البضائع بين مناطق السلطة الفلسطينية واسرائيل، فإن ذلك يحدث في اتجاه واحد فقط، من اسرائيل الى مناطق السلطة، وهذا ناتج عن العوائق غير الجمركية التي تضعها اسرائيل مثل الاغلاقات والحواجز الأمنية والفحوصات الصحية للبضائع الفلسطينية، والسياسات التي تضعها اسرائيل لحماية سلعها من منافسة المنتجات الفلسطينية. وأدى هذا الى معادلة اسعار السلع الفلسطينية بالسلع الاسرائيلية، وتنقل البضائع فقط على الشاحنات الاسرائيلية اذا كانت متوجهة الى اسرائيل أو من الضفة الى غزة أو بالعكس، أي ان السلطات الاسرائيلية لا تسمح بنقل أي من المنتجات على الشاحنات الفلسطينية إلا باستعمال نظام القوافل المكلف، نظراً لبطء الحركة والاجراءات الأمنية المشددة. ويلاحظ من تعقيد الاجراءات الأمنية الاسرائيلية في التفتيشات الامنية، ان الشاحنة التي تريد نقل بضائع من الضفة الى غزة تدخل عبر المناطق الاسرائيلية لمدة تراوح بين ساعة ونصف ساعة الى ساعتين من دون تفتيش، لكن عند وصولها الى حاجز ايرز أو كارني بغرض الدخول الى غزة تخضع للتفيش الأمني الدقيق. كذلك البضائع الفلسطينية التي تصدر الى الأردن ومصر يتم تفتيشها على الحدود بدواعي الأمن الاسرائيلي. ويقدر التبادل التجاري الفلسطيني - الاسرائيلي بحوالى 3 بلايين دولار سنوياً. ويلاحظ ان الواردات الفلسطينية من اسرائيل تقدر بحوالى 2.7 بليون دولار سنوياً بينما تقدر الصادرات الفلسطينية الى اسرائيل بحوالى 300 مليون دولار. وحسب المعطيات انخفض الاستثمار الخاص من 520 مليون دولار التي توازي 21 في المئة من الدخل القومي الاجمالي عام 1993، الى 320 مليون دولار أي ما يوازي 8 في المئة من الدخل القومي الاجمالي عام 1995 و90 في المئة من استثمارات القطاع الخاص تعود الى قطاع الاسكان، التي يتم تحويلها من الادخار الخاص. ويعيد المسؤولون انخفاض مستوى الاستثمار في القطاع الخاص الى عدم وجود الأمن الاقتصادي المصحوب بالمعوقات التي تفرضها اسرائيل على نقل المواد الأولية للمصانع ونقل المنتجات الى وجهتها النهائية الاستهلاك المحلي أو الخارجي وهذا يمنع أي مستثمر من المبادرة بالاستثمار في مشاريع داخل المناطق الفلسطينية. ومع ان اتفاقية باريس تنص بوضوح على جدول زمني لتحويل العوائد الجمركية والضريبية للبضائع التي تحصلها اسرائيل على الحدود التي تكون وجهتها النهائية مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن اسرائيل تستغل تحويل هذه العوائد بصورة سياسية بحتة كوسيلة ضغط على السلطة الفلسطينية. وفي الاغلاق الأخير الذي فرضته اسرائيل على مناطق السلطة، وعلى سبيل المثال، قامت بوقف تحويلات هذه العوائد الى حساب السلطة الفلسطينية ما أدى الى تأخير عدة مشاريع حيوية ونقص في السيولة المالية. احبط كل ذلك الخطة الخمسية الفلسطينية التي استهدفت اساساً تطوير البنى التحتية ما دفع بالمسؤولين الفلسطينيين الى التفكير بمشاريع وفق خطط تنفذ في فترات زمنية أقل مدتها ثلاث سنوات، وتأخذ في الاعتبار الوضع السياسي المتدهور والواقع الاقتصادي والمعيشي الصعب في ظل انخفاض المساعدات الغربية واحتمالات تعرض الفلسطينيين لمزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية في المستقبل القريب اذا ما أصرت تل ابيب على ان يدفع الفلسطينيون الثمن الكامل للسلام.