الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    عامان للتجربة.. 8 شروط للتعيين في وظائف «معلم ممارس» و«مساعد معلم»    الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    وصول الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    أمير الرياض يطلع على جهود "العناية بالمكتبات الخاصة"    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    اكتشاف كوكب عملاق خارج النظام الشمسي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    الرياض الجميلة الصديقة    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    سيتي سكيب.. ميلاد هوية عمرانية    المملكة وتعزيز أمنها البحري    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    مبدعون.. مبتكرون    هؤلاء هم المرجفون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سبع سنوات على انتفاضة العراق . الانتفاضة في واسط والنجف وكربلاء 3 من 3
نشر في الحياة يوم 30 - 03 - 1998

} نشرت "الحياة" في عدد امس مقاطع من الفصل الرابع من كتاب "الزلزال" تناولت انتشار الانتفاضة في مدن الجنوب العراقي ومحافظاته.
وننشر في حلقة اليوم الاخيرة مقاطع من الفصلين الرابع والخامس وحوادث الانتفاضة في كربلاء والنجف وردّة فعل النظام ومخاوفه من انتقالها الى بغداد.
اندلعت شرارة الانتفاضة في محافظة واسط في الأيام الأولى من آذار، وجاءت انسجاماً مع تطور الأحداث في محافظات الجنوب والفرات الأوسط.
ثار أهالي قضاء الحي، واستولوا على المقرات والمراكز الحكومية الأمنية منها والحزبية وقاموا بتطهير المدينة من واجهات النظام ومؤسساته. كذلك كانت انتفاضة الثوار في بقية المناطق الأخرى، خصوصاً مركز المحافظة مدينة الكوت، حين سيطر الثوار عليها واستولوا على دوائر الدولة ومؤسساتها كذلك على مراكز الشرطة والأمن.
لكن النظام ونتيجة لأهمية الكوت باعتبارها منطقة قريبة من بغداد ولها تأثير في مجمل الأحداث، والخشية من اتساع رقعة الانتفاضة قامت قوات الحرس الجمهوري بهجوم سريع ومكثف بغية السيطرة واحتلال المدينة وبقية المناطق الأخرى في المحافظة. وتم ذلك وانحسر سريعاً دور الانتفاضة فيها.
وما حصل في واسط وقع في النجف.
سكنت النجف منذ القدم عشائر وعوائل عريقة تنتمي الى قبائل عربية محتفظة بقيمها الأصلية تحدرت اما من نجد او الحجاز او جنوب العراق.
كنت الجماهير بانتظار ان تبادر "الحوزة العلمية" باطلاق الشرارة الأولى. لكن المبادرة الأولى جاءت من ابناء المدينة، أخذ ابناء النجف يتحركون وينسقون وخرجت السيوف والقامات من أغمادها، وتوجه الناس نحو مرقد الامام علي بن ابي طالب وكأنهم يستأذنونه ويستمدون منه العزم على مقاومة الطغيان. واندفع المنتفضون وكان اغلبهم من الشباب من مركز المدينة ميدان الامام علي على اثر نداء بمكبرات الصوت يدعو الشعب للتظاهر ورفض الهزيمة التي لحقت بالعراق. وتوسعت التظاهرة وشملت مئات الشيوخ والأطفال واتجهوا بجموعهم الى الصحن الشريف، وحاول أفراد الأمن التدخل، فكانت نهاية بعضهم على أيدي المنتفضين ثم ولى الآخرون هاربين ودوت الزغاريد واستقر وضع الانتفاضة بدخول المنتفضين الى الصحن. ثم بدأت أطراف النجف تنقض على المراكز الأمنية والحزبية والادارية وانهارت مقاومة أزلام السلطة أمام الحشود. ثم امتدت الانتفاضة الى الكوفة.
حدثني أحد شهود العيان عما حدث في النجف في 3 آذار قائلاً: "ظل المنتفضون والكثير من ابناء النجف، ينتظرون ان يعلن السيد الخوئي الجهاد والكل بات يتوقع ذلك بين لحظة وأخرى واستمر النشاط على أساس القناعة بأن الجهاد توافرت شروطه ما خلق الاندفاع والحماس عندهم. مثل هذه التصورات لم تجد لها صدى حثيثاً عند السيد الخوئي، واكتفى باصدار بيان عن الموضوع".
التحق ضباط وعسكريون كثيرون من أهل النجف وأبي صخير والمشخاب والمناطق الأخرى بادارة شؤون الانتفاضة واستلموا بعض الأسلحة وبادر أهل أبي صخير والشامية وكربلاء وغيرها من المدن المجاورة الى تقديم العون والدعم لانتفاضة النجف.
وتولت ادارة الانتفاضة قيادة مركزية فيها عدد من الضباط في الخدمة ومتقاعدين من أهل النجف. وكان لعلماء الدين دور مهم فيها، حين اخذت تأثيراتهم تلعب دورها في مراقبة التصرفات والأعمال والدعوة الى الابتعاد عن مظاهر العنف. وبدأت الأسواق تعرض المواد الغذائية والبضائع المختلفة بأسعار زهيدة تقترب من الأسعار التي كانت قبل حرب الخليج او دونها واستمرت المستشفيات ومرافق الحياة الأخرى على وضعها الطبيعي واتجه الناس الى مزاولة الشعائر الحسينية التي كانت منعت وعاشوا وكأنهم في موسم عاشوراء والتقيت بأحد المثقفين من أبناء النجف الأشرف الذي تحدث عن هذا الجانب قائلاً: "اهتم أبناء النجف بإحياء الشعائر الحسينية وما صاحبها من ولائم وطبخ الطعام، لأن رأس النظام كان يرى في كل ممارسة لهذه الشعائر تهديداً لنظامه إذ كانت مدينتا النجف وكربلاء تمنعان في كل مناسبة دينية من اقامة أي شعيرة من شعائر احياء ذكرى الحسين او أهل البيت ع".
ولاحياء هذه الشعائر وجهان، الوجه الشعبي الذي يشد الناس بعواطفهم الى هذه المناسبات، والوجه التعبوي ولا أسميه السياسي، وقد منع النظام المؤمنين من اقامة هذه الشعائر ما أحدث قطيعة في التعايش معها.
في كربلاء
اندلعت شرارة الانتفاضة، بصرخة انبعثت من قرب ضريح الامام الحسين "ع" وانتشرت في ليلة كنت كربلاء تضم آلاف الزوار. وخلال ساعات استقر الوضع في المحافظة وتهاوت مؤسسات النظام وانتهى وجود الحزبيين ومسؤولي الأمن ولقي المجرمون منهم جزائهم العادل وتمتعت كربلاء بأجواء الانتفاضة على غرار بقية المدن العراقية. ويروى ان مركزية الانتفاضة كانت أقل درجة من مثيلتها في النجف الأشرف.
زرت كربلاء المقدسة بعد الانتفاضة ببضعة أشهر. وكان ما مسح من البساتين والأبنية ومن مساجد وحسينيات وبيوت سكن شاهداً على بسالة أهل كربلاء وبطولة المنتفضين وشاهداً على حجم الكراهية التي سعرها النظام ضدهم وهو يحاول ان ينقذ نفسه.
حوصرت المدينة وطلب من أهلها ان يتركوا البلدة باتجاه بحيرة الرزازة ورشقت البلدة برشقات متوالية من الصواريخ ثم اشتد القصف ما اضطر السكان الى مغادرة بيوتهم باتجاه البحيرة وما ان امتدت حشود السائرين على الطريق مسافة طويلة حتى بدأت الطائرات السمتية تحصدهم وتقتل الأبرياء العزل. وكلما تقدمت قوات النظام كان ثوار كربلاء يتصدون لها بعمليات تعرضية جريئة وأوقعوا بها خسائر، وجرى في كربلاء قتال من متر الى متر، ومن شارع الى شارع، ومن بيت الى بيت. وهذا ما شاهدته من تدمير في المدينة وما سمعته من قصص رويت لي من عسكريين ومدنيين متميزين بدقتهم في وصف ما جرى.
صدام: انتهينا ... انتهينا
كان حسين كامل وبأمرته فرقة مدرعة ووحدات متفرقة من الحرس الجمهوري والحرس الخاص وعناصر من الأمن الخاص وبقايا المخابرات والأمن العام وعدد من المرتزقة الحزبيين، هو الذي يقود الهجوم على كربلاء. وعندما تم اقتحام المدينة، ألقى حسين كامل القبض على المئات من شباب كربلاء، فأعدم بنفسه الكثير ورمى الأحياء في مقابر جماعية في الرزازة وأخرى في منطقة الحر قريباً من مرقد الشهيد الحر بن يزيد الرياحي. ولما توغلت القوات داخل المدينة اخذت تترك وراءها آثاراً دموية مروعة، ما اضطر بعض الثوار الى الاعتصام داخل مرقد الامام الحسين، فأمر حسين كامل بتوجيه مدافع الدبابات والقاذفات الى الصحن الشريف. وهدمت الدور الواقعة حول الصحنين الشريفين، صحن مرقد الامام الحسين وصحن مرقد العباس عليهما السلام على من فيها وبقيت الجثث أشهراً تحت الأنقاض.
أراد حسين كامل ان ينهي مهمة القتل والتدمير في كربلاء من دون تأخير لكي يتجه نحو النجف. وأصدر من الأوامر والتعليمات ما يكفي لقتل أكبر عدد ممكن من أهل المدينة وانزال الدمار بها وسوق الآلاف من شبابها الى معتقلات الرضوانية في بغداد. وما ان انهى الأجزاء المهمة من خطته وتأكد له ان بقايا الثوار لجأت الى البساتين المحيطة بكربلاء أمر بمطاردتهم بالدبابات والسمتيات وتوجه الى مدينة النجف حسب الخطة الموضوعة التي اتفق عليها ليكون مع طه الجزراوي للانقضاض عليها.
حين ورد نبأ الهجوم المعاكس الذي شنه النظام على محافظة كربلاء، هب أهل النجف لمساعدة الثوار فيها ووجهت نداءات الى النجفيين واعدت الشاحنات وعجلات النقل وتدفق الناس من مختلف الأعمار وراحت تتوجه الارتل وهي تنقل المئات وهم في الغالب يحملون هراوات وسكاكين. وشارك أهل النجف ثوار كربلاء في ملاحم للدفاع عن مدينتهم.
الخطة العسكرية التي وضعها النظام كانت على دراية تامة بنوعية المقاومة التي سيبديها النجفيون وكان النظام يدرك جيداً ان استمرار الثورة في النجف سيؤدي الى تأجيج نار الثورة ثانية في كل مكان، لذلك تضمنت خطة الهجوم ان تتجه قوات بقيادة حسين كامل الى كربلاء وقوات بقيادة طه الجزراوي الى الحلة وتلتقي في نقطة النجف.
كان الهجوم على النجف شرساً ومن دون رحمة واستخدمت عشرات من صواريخ أرض - أرض التي أعدها صدام لحرق نصف اسرائيل في ضرب الأحياء السكنية في هذه المدينة المقدسة وخرجت العوائل هائمة وكان عدد الضحايا بالمئات في الشوارع واكتظت طرق المدينة بالناس وهم يحاولون ان يتركوها بينما كان الثوار يأخذون مواقعهم لمواجهة القوات العسكرية والدفاع عن النجف. فقدت مئات العوائل ابناءها وبناتها بسبب القصف الصاروخي والمدفعي. ورويت لي قصص مأسوية كثيرة عن معاناة النجفيين من جرائم الهجوم عليهم، وأن بعض هذه القصص يقترب من الخيال ولا يصدقها العقل، إلا ن ذاكرة النجفيين ستظل تحتفظ بصفحات مؤلمة من جرائم طه الجزراوي.
حدثني اللواء الركن صباح فرحان التكريتي قائد الفيلق الرابع نهاية عام 1991، وحينها كنت ضابط ركن الثاني حركات للفيلق، في مقرنا في الديوانية خلال زيارتنا لاحدى التشكيلات في الطريق الى محافظة ذي قار، وكان عاد لتوه من بغداد بعد حضوره اجتماعاً للقيادة العامة للقوات المسلحة، وعلى رغم عدم وجود علاقة متينة او قديمة لي معه بادرني القول: "هذا العراق أصبحت شغلته معقدة. وخاصة بعد الأحداث الغوغائية. لقد وجدت جروح لا تندمل ووقعت أخطاء كبيرة يصعب اصلاحها. قتول كثيرة، ظلم كثير. فوضى لا نعرف من هو الوطني، من هو الحريض. هذوله شيعة. هذوله سنة. هؤلاء اكراد. هؤلاء تكارتة، هؤلاء بعثيون. كم شكلاً أصبح العراق؟".
قلت لا بد انه سمع أشياء في بغداد تدفعه لمثل هذا الكلام. فسألته عن الأخبار في بغداد قال: "دعنا يا نجيب. الأخبار هنا". وأشار الى المدينة التي كنا نمر بها وهي عفك ناحية فقيرة جداً من نواحي محافظة القادسية. قال: "ماذا تبدل من حالهم السابق وحتى الآن؟ هناك مثل شعبي يقول قيّم الركاع من ديرة عفج" في اشارة الى ان الناس هنا حفاة ولا يلبسون الأحذية من شدة فقرهم. وطلب من السائق ان يخفف السرعة ونحن نجتاز المدينة وهو يقول: "انظر لا زال الناس حفاة. ماذا تغير منهم؟ ماذا عملنا من أجلهم منذ ربع قرن حتى الآن؟ لم نعمل شيئاً". ثم طلب من السائق ان يتوقف خارج الطريق لاداء فريضة صلاة الظهر، وعندما ابتعدنا قليلاً عن العجلة همس باذني قائلاً: "لا تسألني عن بغداد وما فيها بحضور هؤلاء". وأشار باتجاه السائق والحماية. "ماذا اجيبك عن بغداد غير الخراب. باقية عاصمة بالاسم". وأردف: "اخبار بغداد تقول ان نظام صدام على وشك السقوط. وسيتم تبديله بحكم يشبه نظام نوري السعيد. والغرب مشغول الآن بالبحث عن هذا السعيد الجديد". وضحكنا.
وقال لي: "عندما كنت قائداً للفرقة الرابعة مشاة، كلفت في اذار 1991 بالهجوم على الحلة والنجف لتطهيرها من الغوغائيين وتحت أمرة طه الجزراوي وحسين كامل، وفي النجف التقيت طه الجزراوي في مقره وكان عبدالرحمن الدوري وماهر عبدالرشيد وعناصر من الحرس الخاص والحمايات جالسين ايضاً. دخل علينا أحد المخبرين وقال: توجد مجموعة من علماء الدين مجتمعين في أحد البيوت. وأعطى العنوان والدلالة كاملة. فاهتم الجزراوي بذلك وصرخ يأمرهم: كتفوهم واحضروهم فوراً. وبعد مدة تم احضارهم وكانت تظهر عليهم الهيبة والوقار ويتقدمون باتجاهنا بثقة واطمئنان وتعرف بعضنا على أحدهم وهو ابن السيد الخوئي. وكان الخوئي ارسل الى بغداد بناءً على أوامر من صدام نفسه. وخاطبهم طه الجزراوي: على من تتآمرون يا خونة؟
اجابه أحدهم: لا نحن لا نتآمر. هدفنا تهدئة الأمور وأوصينا الناس بذلك ونعمل على حفظ الأرواح وتجنب سفك الدماء ما أمكن. وهنا اومأ الجزراوي الى ضابط الحماية قائلاً: اتلفوا أضابيرهم.
وأضاف محدثي صباح التكريتي: "فهمت من عبارة اتلفوا اضابيرهم انه أمر باعدامهم واقتيد العلماء الثمانية الى مقر قوات النداء حرس جمهوري لتنفيذ الاعدام فيهم رمياً بالرصاص. وتم ذلك بالفعل.
بعد ذلك اتصل صدام هاتفياً، يريد ان يرى هذه المجموعة من العلماء. ويبدو انهم كانوا موضوع حديث للسيد الخوئي مع صدام، فأصبح الجميع بمأزق ولا بد ان يتدبروا الموضوع ويلبوا طلب صدام.
ماهر عبدالرشيد اقترح ان يقولوا ان الغوغاء قتلوهم.
عبدالرحمن الدوري اقترح وضعهم داخل عجلات مقلوبة على الطريق فيبدو موتهم وكأنه حادث.
ثم قال صباح: لا أعلم كيف تم تدبير الموضوع".
وعند وصولنا الناصرية ولقائنا بالمحافظ اللواء الركن عبدالاله العناز اعاد صباح سرد الحكاية نفسها وبذات التفاصيل والأسلوب ودون أي تحفظ ايضاً.
بعد عام التقيت بأحد الضباط في مقر قوات النداء آنذاك وقلت له سمعت كذا وكذا، ما هو رأيك هل في الكلام مبالغة؟ قال: "الكلام صحيح، لكن القصة ناقصة وسأروي لك الفصل الثاني منها الذي بقي غامضاً. جيء بهؤلاء العلماء الى مقر قوات النداء حيث كان القائد العميد الركن معتمد التكريتي وأخبروه بأن هؤلاء محكوم عليهم بالاعدام وعليك اعدامهم خلال 30 دقيقة واخبار طه الجزراوي بذلك. قال معتمد "هاي ورطة جديدة؟ ما ذنب هؤلاء الابرياء؟ وبدأ يماطل في تنفيذ الاعدام وكان كل نصف ساعة تقريباً يأتي الى مقر القيادة مسؤول حماية الجزراوي ليتأكد من تنفيذ الاعدام ويعطيه معتمد عذراً ليصرفه بعض الوقت عسى ان تنجلي بعض الأمور. لكن طه الجزراوي الح في موضوع الاعدام كثيراً ومعتمد يدعو الله سبحانه على تخليصه من هذه الشدة وكان ينتظر وصول حسين كامل عله يؤثر عليه ويمنع تنفيذ الاعدام. وخلال ذلك الوقت الحرج جاء مرافق الجزراوي ليخبر معتد قائلاً: الرفيق طه يقول: امامك ثلاثون دقيقة فقط لتنفيذ حكم الاعدام بهؤلاء الخونة وإلا سأخبر صدام وأقول له انك متخاذل او… الخ.
وصل حسين كامل الذي استقبله معتمد على الفور شارحاً له الموقف واجابه حسين أمام عدد من الضباط لماذا يعدمون، انهم لم يفعلوا شيئاً وأبدى تعاطفه الظاهري معهم، لكنه لم يصمد أمام اصرار الجزراوي على اعدامهم الذي هدد ثانية باخبار صدام بهذا التردد والتخاذل. فما كان أمام قائد قوات النداء إلا ان نفذ حكم الاعدام برجال الدين الثمانية على مضض منه.
ويذكر ايضاً ان طه الجزراوي بعد ان فرغ من مهمة محافظة بابل تقدم باتجاه النجف وشرعت قواته وقوات حسين كامل بالهجوم أخبر صدام قائلاً: "اننا نطبق على النجف وأنها فرصة التاريخ لسحق رأس الأفعى".
كان بحاجة الى انجاز فعلي يعزز مركزه لديه لا سيما وأنه كان تأخر في الوصول الى النجف بعد تطورات المقاومة في مدينة الحلة وما واجهته من مقاومة عنيفة في طريقه نحو النجف. وكان يلاحق الجزراوي شعوراً بأنه تأخر يومين في انجاز مهمته، فكان يخشى عدم رضا صدام عنه.
روى لي مفوض أمن، كان ضمن مجموعة المخابرات والحرس الخاص والحرس الجمهوري التي نفذت الهجوم لاستعادة مدينة النجف فقال: "في مرحلة الاستعداد للهجوم في تلك الأيام، أذعنا نداءات بواسطة مكبرات صوت من الجوامع، طلبنا من الشباب النجفي التوجه الى فندق السلام لضمان حياتهم، لأن قوات الحكومة ستبدأ تمشيط المدينة بحثاً عن الخونة والغوغائيين، وتجمع في الفندق حوالى 400 شاب، استجابة لذلك النداء الذي كنا نعتقد ان فيه نوعاً من الانسانية والفرز العملي بين من شارك في أعمال التخريب وبين من لم يشارك فيها. لكن الهدف كان الانتقام العشوائي من دون تمييز بين من انتفض او من لم ينتفض. فصدرت الأوامر بقتل الجميع ونقل جثثهم الى مقابر جماعية اعدت في ضواحي المدينة.
مع الأيام الأولى لانفجار الانتفاضة في الجنوب وخصوصاً البصرة وامتدادها شمالاً الى الناصرية والعمارة والكوت والنجف وكربلاء والديوانية والحلة والسماوة ساد العاصمة توتر شديد واستعد البعض للتحرك، إلا أن الاجراءات الأمنية حالت دون ذلك، إذ قامت بنشر قوات من الأمن الخاص والجيش الشعبي والاستخبارات في غالبية مناطق بغداد لا سيما في الأحياء الشعبية، اضافة الى تفتيش العديد من البيوت والقاء القبض على المشتبه بهم.
كان الناس يتابعون اخبار الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط ويترقبون ما سوف يحصل. ربما كانوا يتوقعون حدوث حركة مسلحة تكون استجابة للانتفاضة، لكن على ما يبدو ان الانتفاضة كانت عفوية وتفتقر الى القيادة والتنظيم.
في هذه الأثناء عمد النظام الى نشر صواريخ موجهة الى بعض أحياء العاصمة وخصوصاً الشعبية منها مثل الثورة والكاظمية والشعلة وأوعز الى جهازه الحزبي وقوات الأمن والاستخبارات القيام بأساليب استفزازية للحيلولة دون انتشار النشاطات المناوئة له.
وقعت في مدينة الثورة والشعلة أحداث كانت استجابة سريعة للانتفاضة في الجنوب، حين قامت مجاميع كبيرة من الشباب في أحد الشوارع الرئيسية في مدينة الثورة، بتظاهرة كانت تسير باتجاه مركز العاصمة لتعبر عن نقمتها ولتؤكد تواصلها مع أهداف الانتفاضة في محافظات الجنوب والفرات الأوسط. وتصدت الأجهزة لتلك التظاهرة واطلقت النار مباشرة على المشتركين فيها.
حدثت في الفترة نفسها تظاهرة في مدينة الشعلة على أثر تشييع جنازة، وبدأ اطلاق النار أثناء مراسم التشييع، فظن الكثير من الناس أن الانتفاضة انطلقت في الشعلة، إلا أن قوات النظام تصدت للجموع وفرقت التظاهرة باشراف وطبان الأخ غير الشقيق لصدام.
بقي الحال في بغداد في مستويات الترقب والانتظار والتوقع، وظن البعض ان الجماعات التي اشعلت الانتفاضة في المحافظات الجنوبية والوسطى لها قواعد في بغداد. في حين انتظرت بقية المحافظات حدوث شيء ما في بغداد، لتبدأ التحرك وهذا لم يحصل. والسبب على ما يبدو عدم وجود التنسيق الكامل بين قوى المعارضة وفصائلها وبين المنتفضين والثوار على مستوى البلاد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.