} نشرت "الحياة" في عدد أمس مقاطع من الفصل الثاني من كتاب "الزلزال"، تناول الشرارة الأولى التي اطلقت انتفاضة آذار مارس 1991 في العراق. وفي حلقة اليوم ننشر مقاطع من الفصل الرابع الذي يتحدث عن انتشار الانتفاضة في مدن الجنوبالعراقيومحافظاته. سرت شرارة الانتفاضة في معظم أنحاء العراق وأدت الى تهاوي الأجهزة الأمنية والحزبية من دون مقاومة. كنا نتلقف الأخبار من الأشخاص الذين توافدوا الى البصرة من أرجاء البلاد، للاستفسار عن مصير ابنائهم الجنود والضباط بعد عملية الانسحاب من الكويت. وكان القلق يتزايد وسط دخان حرائق الحرب. وعلى رغم صعوبة التنقل وشحة البنزين والمخاطر الكثيرة كنا نحرص على مقابلة هؤلاء القادمين للتعرف على الأوضاع في المحافظات. كانوا يسألون عن ابنائهم، وكنا نسأل عما يدور في محافظاتهم وكيف تسير المقاومة الشعبية؟ عن الوضع المعاشي، الماء، الكهرباء، الخدمات، وعن آثار القصف الصاروخي والجوي… الخ. كان كل واحد منهم يحمل قصة وصوله الينا وعن نشاطات المنتفضين في المحافظات التي مروا بها واسط والعمارة. وحدثنا من جاء من جهة الفرات الأوسط والجنوب كربلاء، النجف، بابل، الديوانية، المثنى وذي قار عن الانتفاضة في كل هذه المدن. كذلك عمت الانتفاضة المحافظات الشمالية: دهوك، السليمانية، أربيل وكركوك بكل قراها وضواحيها. اما ديالى، هذه المحافظة المتوازنة في تركيبة سكانها من العرب والكرد والتركمان وطوائف أخرى، حدثت في بعض اقضيتها ونواحيها انتفاضات صغيرة في كل من خانفين وجلولاء وضواحيهما وحدثت تجمعات شبابية تنادي بالانتفاضة في ضواحي مدينة الخالص. اما بعقوبة المركز، وضواحيها والمقدادية، فكانت كالقنبلة الجاهزة للانفجار. وهكذا الحال في محافظة الانبار والفلوجة والموصل إذ اخذت الجماهير تتجمع في الجوامع، كذلك في صلاح الدين، إذ كانت أقضية ونواحي بلد والدجيل وسامراء والضلوعية والعلم متحفزة ايضاً. انتفاضة العمارة تحملت العمارة آلام ومعاناة ثماني سنوات من الحرب مع ايران ودارت فوق أراضيها وعلى حدودها معارك ضارية قدمت خلالها تضحيات جسيمة من شبابها. أهلها عرب أقحاح من عشائر السواعد والبو محمد وبني مالك والفريجات وآل أزريج وغيرهم. ظهر يوم 2 اذار مارس 1991 اندلعت الانتفاضة في مركز محافظة ميسان وخلال ساعات سيطر الثوار على المدينة وضواحيها وهرب أزلام النظام واشتعلت النيران في دوائر الأمن ومؤسسات الدولة التي كانت الهدف الأول للثوار. هكذا رويت لي قصة الانتفاضة في العمارة باختصار شديد من قبل أحد ابنائها الذي جاء يبحث عن شقيقه الجندي في الفرقة المدرعة السادسة وكانت المدينة مركزاً لتجمع كثير من القوات العائدة من الجنوب، خصوصاً من الحرس الجمهوري. وفي جنوبالمدينة على بعد 10 كلم يوجد مقر للفيلق الرابع الذي تعرض له الثوار منذ اليوم الأول وسيطروا على محتوياته. وقبل نهاية آذار 1991، مررت بمدينة العمارة وأنا في طريقي الى بغداد. كانت المدينة تحكي قصة مأسوية عن الدمار الذي اصابها. فالجسور مقطوعة وآثار قصف الحلفاء بادية. اما الدور المخربة والبنايات المحروقة وحواجز الطرق فإنها تدل على مقاومة أبداها السكان المدنيون ضد قوات النظام. كانت الشعارات المعادية للنظام تغطي الجدران ولا وجود لجدرايات او صور "الرئيس القائد…!" التي أزيلت وكسرت كلها. نُصّب الفريق الركن هشام صباح فخري قائداً عسكرياً لمدينة العمارة، وكان هشام في مطلع الثمانينات قائداً للفيلق الرابع، وهذا هو سبب تعيينه بهذا المنصب، فهو يعرف أهل ميسان وهم يعرفونه ايضاً لما له من سوابق خطيرة معهم، فهو متهم بقتل العشرات من شبابهم في الأهوار بين عامي 1982 - 1984، وهو طموح ويحاول استرضاء صدام. تم اقتحام المدينة واشتركت قوات الحرس الجمهوري وقوات قليلة من الجيش في استباحتها. حدثني اللواء الركن رعد مجيد فيصل التكريتي ان فرقته قيادة قوات الأربعين التي اشتركت في اقتحام مدينة العمارة في منتصف آذار استخدمت المدفعية وكل الأسحلة المتيسرة لديها في عملية "تحرير المدينة". وقع قتال مدن ضار، وتم تهديم كثير من البيوت بنيران الدبابات والقاذفات كما وقعت خسائر بأفراد من الحرس الجمهوري والقوات الأخرى. وروى لي ضابط ركن كان يعمل في مقر الفيلق الموجود في العمارة بأن قائد الفيلق احمد ابراهيم حماش التكريتي أمر بقتل طفل لا يتجاوز عمره ست سنوات كان يركض من حولنا. بعد بضعة أشهر، صدر أمر نقلي من رئيس أركان الفرقة المدرعة السادسة الى منصب ضابط ركن في مقر الفيلق الرابع. وكان المقر في الديوانية آنذاك، وتحدثنا كضباط ركن عن فعاليات الفيلق عندما كان في العمارة خلال الانتفاضة، وعلمنا بأن هيئة تحقيق شكلت في مقر الفيلق برئاسة عميد ركن كان مدير شعبة في مديرية الاستخبارات العسكرية، وأصدرت أحكام الاعدام وشملت المئات من الشباب الذين تم القبض عليهم خلال عملية قمع الانتفاضة في العمارة والقيت جثثهم على السواتر الترابية المحيطة بمقر الفيلق. وظلت عوائل هؤلاء المعدومين تنتظر عودتهم، وبعد ان فقدوا الأمل، اعتبروا مفقودين في الكويت. كيف كانت تجرى المحاكمات، ومن الذي يحيل المتهمين الى المحكمة؟ كان المئات من الشباب يحملون بأرتال من السيارات من مركز المحافظة وهم مكبلون وتحت الحراسة المشددة مع قوائم بأسمائهم ما يدل على ان قرار الحكم أُعد مسبقاً وينفذ فيهم الاعدام فوراً. اما الآخرون فإنهم يخضعون للتعذيب والتحقيق وبعدها يقرر اعدامهم او ترحيلهم الى بغداد او وضعهم في السجن المخصص لأمن الفيلق، وكان ضباط أمن الفيلق يعملون كأعضاء في هيئة التحقيق. مجزرة المجر الكبير يقع قضاء المجر الكبير جنوب محافظة العمارة 30 كلم وهو ذو كثافة سكانية عالية وتستند حافاته الجنوبية على هور الحمار، وتفجرت فيه مقاومة شعبية استمرت بضعة أشهر. وقال لي صديق من أهالي المجر: "عندنا اندلعت الانتفاضة في 2 آذار قتل الثوار 13 عضواً من الحزب الحاكم. سألت هل يوجد بينهم من جاء من غير محافظاتالجنوب؟ قالوا لا، الجميع من المجر او المشرح او البصرة. ونحن نعلم ان النظام لا يهتم لقتلهم طالما هم من المنطقة، إذ انه يعتبر الجميع أعداء له سواء كانوا بعثيين او معارضين". فالنظام لا يبالي بالتضحيات لأن أغلب الشهداء كانوا من جنوبالعراق ووسطه. ولم يخف صديقي ما يعانيه وبقية الشباب وعموم أهل مدينته من شعور حاد بالاضطهاد والتمييز الطائفي والعزل السياسي الذي مارسته مختلف الأنظمة المتعاقبة على الحكم. فأشار الى التمايز في الوظائف العامة والتدرج في السلم الوظيفي والقيادي في الدولة وفي القوات المسلحة والمحاكم والادارة العامة… الخ. واعتبر التمييز واحداً من أهم أسباب الانفجار والانتفاضة، لأن الجيل الجديد من الشباب بدأ يحس عمق الاضطهاد وهم ليسوا على استعداد لتحمله. الانتفاضة في ذي قار محافظة ذي قار ذات تاريخ وطني، فهي منبت الحركات الوطنية وفي قراها وأهوارها ترعرعت تنظيمات الأحزاب الاسلامية التي لا تزال تخوض نضالاً جهادياً ضد النظام. وذي قار اسوة بمحافظاتالجنوب الأخرى عاشت أوضاع الرفض والاحتجاج على سياسة النظام ولم يمر يوم من دون ان تكون هناك عمليات تعرضية جريئة ضد المقرات الحزبية والأمنية انتقاماً لما يقوم به هؤلاء من تعسف واضطهاد للمواطنين. ويذكر ان هذه المحافظة تعرضت الى ضغط شديد خلال الحرب وكانت هدفاً لغارات جوية كثيقة اسفرت عن خسائر فادحة في الأرواح والمباني والجسور. انها كالبصرة عندما أصبحت ساحة عمليات رئيسية لجيوش التحالف التي طوقتها من الشمال إذ وصلت الى قاعدة "علي بن ابي طالب" الجوية. وما زاد الأمر سوءاً الكره الشديد الذي كان يبديه أهل ذي قار للتركيبة الادارية في المحافظة المحافظ وجماعته. وقال لي أحدهم: "ان المحافظ جمع حوله بطانة من المنتفعين والمنافقين الذين فقدوا الروابط مع أبناء بلدتهم وعاشوا حياة الفسق والمجون وسرقة أموال المواطنين والمتاجرة بالحصص التموينية حتى وصل بهم الأمر الى ان يؤجلوا توزيع الحصة الشهرية للمواطنين من المواد الغذائية بحجة الاستعداد للطوارئ وهذه سياسة اتبعوها لاذلال العوائل التي كانت تنتظر تلك الحصة شهرياً بفارغ الصبر لعجزها عن شراء تلك المواد بسبب ارتفاع أسعارها من جهة ولمحدودية موارد تلك العوائل من جهة أخرى ما اضطر بعضهم الى أكل علف الحيوانات ووصل الحال بالبعض الآخر الى التفيش عن فضلات الطعام في القمامة". الطائفية... سياسة اذلال!؟ من المظاهر التي افرزتها الطائفية والعزل السياسي هو تعيين المحافظين والمسؤولين الاداريين ومسؤولي الأجهزة الأمنية والحزبية من خارج تلك المحافظات وتحديداً من محافظات صلاح الدين والانبار ونينوى لاذلال الناس. وبنظرة سريعة الى لوحة المحافظين الذين تناوبوا على ذي قار تجد فيها هذه الحقيقة. ففي السنوات العشر الأخيرة كان المحافظون كالآتي: طه الهيتي قتل في الانتفاضة الانبار، نوري فيصل الحديثي الانبار، عبدالاله حامد العناز نينوى، طاهر جليل الحبوش التكريتي تكريت، صلاح عبود محمود الجبوري الانبار وأحمد عبدالله صالح صلاح الدين. وحدثنا اللواء الركن عبدالاله حامد العناز في نهاية عام 1991 في مبنى المحافظة وبحضور اللواء الركن صباح التكريتي قائد الفيلق الرابع عن سلوك المحافظ السابق نوري فيصل الحديثي قال: "زارنا وزير التجارة محمد مهدي صالح في ديوان المحافظة قبل بضعة أيام وكان هنا نوري فيصل شاهر المحافظ السابق. ولما سأله الوزير عن حاجة المحافظة الى المواد الغذائية او أي خدمة ضمن صلاحية وزارة التجارة لتقديمها، أجابه نوري: هذوله، ويقصد ابناء ذي قار، بحاجة الى عرق خمر، اكثرْ لهم من العرق، أهم شيء لديهم شرب العرق". هذه هي نظرة المسؤولين في الدولة العراقية، ليس لابناء ذي قار وحدهم، بل تشمل كل أبناء محافظاتالجنوب والفرات الأوسط الأخرى. ففي البصرة صدرت توجيهات بتنشيط دور الدعارة والاكثار من الملاهي ومنح مزيد من اجازات محلات بيع الخمور بعد 1991. الناصرية في اليوم الثاني من آذار 1991، اشتعل فتيل الانتفاضة في الناصرية على يد جماعة لا تتجاوز 20 شخصاً كانوا يعيشون حال المقاومة الدائمة للنظام متخفين هنا وهناك، ودخلوا مدينة الناصرية بسيارات "بيك آب" وبأسلحة خفيفة، وتوجهوا الى مقرات الحزب والمؤسسات الادارية والأمنية وبسرعة هاجمت الجماهير وانتفض الناس. وهوجمت المؤسسات الحكومية وقتل المسؤولون الذين اشرفوا على اعداد قواطع الجيش الشعبي وقادوا الناس بالقوة واهانوهم والقي القبض على المحافظ. وكانت أعداد كبيرة من المنتفضين تطالب بمحاكمته ثم وضع في سيارة مكشوفة وطافوا به في الشوارع ثم اعدم. والقي القبض على مدير الأمن مع مجموعة من ضباط أمن المحافظة ورأى البعض ان يبقوا على حياتهم ولكن لما تقدمت قوات الحرس والأمن الخاص في هجومها اعدم مدير الأمن وجماعته واتجهت مجموعت مسلحة نحو مركز الاستخبارات العسكرية واتحاد النساء ومديرية الطرق والجسور التي تحولت الى مقر عسكري. وتمركزت في ساحة "القيثارة" خلف مدفع مضاد للطائرات عيار 37 ملم بينما قامت مجاميع أخرى بايصال الامدادات الطبية والغذائية للمدافعين عن المدينة قرب "نهر الهولندي". وهبت العشائر في الناصرية وسوق الشيوخ والفهود والجبايش والاصلاح والشطرة والقلعة والغراف والكرمة وغيرها من المدن والمناطق كآل جويبر وبني سعيد والبو صالح وحجام والنواشي وبني حسن والعساجرة والجماملة وآل ازريج وال ابراهيم وآل غزي والبدور وغيرهم من العشائر. وفي سوق الشيوخ، اندلعت الانتفاضة في الأول من آذار وتدفقت الجماهير الى الشوارع واتجهت الى مقر فرع الحزب الحاكم الذي سقط بعد مقاومة ابداها بعض الحزبيين. وكان لعشائر سوق الشيوخ دور كبير في الانتفاضة وكان من أبرز رجالاتها الشيخ كاظم آل ريسان الذي دعم الانتفاضة وأسهم مع أبناء عشيرته حجام مساهمة فعالة فيها واستطاع ان يحد الكثير من التصرفات المتطرفة لبعض الثوار وكان مضيفه ملجأ لكثير من الحزبيين البعثيين والمسؤولين الاداريين والضباط العسكريين. وتكاد تكون الصورة واحدة في غالبية المحافظات التي سرت فيها شرارة الانتفاضة، إذ كانت تبدأ بتقدم الثوار باتجاه الدوائر والمقرات الحزبية والأمنية. وضع الثوار ضوابط لمن يرغب من المسؤولين الحزبيين في التخلي عن سيرته وأن يدين الممارسات السابقة ويتعهد بالاخلاص والعمل النزيه للشعب ولا يعود الى ممارسة العنف والاضطهاد ضدهم وانحاز فعلاً الكثير منهم الى جانب الانتفاضة، اما الذين التجأوا الى مقراتهم وقرروا المقاومة، فحكموا على انفسهم بالموت. والقي القبض على بعض المسؤولين الحزبيين وضباط الأمن وهم متنكرون لاخفاء شخصيتهم. يذكر ان بعض عناصر حزب البعث اسهم بشكل واضح وفعال في الانتفاضة الى مشاركة المواطنين من الصابئة والمسيحيين في أماكن تجمع المنتفضين وهو أمر يؤكد على طابع الانتفاضة الشعبي الشامل وعدم طائفيتها. الهجوم على ذي قار كما كان الحال في البصرة وبقية المحافظات المنتفضة، كان رد فعل الدولة عنيفاً وقاسياً ضد الانتفاضة في ذي قار، إذ تحركت قوات كبيرة من الحرس الجمهوري وأفواج من الحرس الخاص وعناصر من أجهزة الأمن والمخابرات يقودهم اللواء الركن كمال مصطفى التكريتي ومعه كل من حسن العامر ومحمد حمزة. واستخدمت المدفعية ومدافع الدبابات في قصف المواقع المدنية وكأنها استحكامات دفاعية في حرب نظامية. وحدثني بعض الضباط والجنود في الحرس الجمهوري ان كثيراً من المنتفضين وباسناد أهالي ذي قار، قاتلوا ببسالة دفاعاً عن مدينتهم ضد قوات الحرس الخاص والحرس الجمهوري، لكن التفوق في التسليح وتراجع الموقف الدولي وعدم تكامل القيادات الميدانية للانتفاضة أدى الى انهيار المقاومة في النهاية واستعادت الدولة سيطرتها على المدن والمواقع الرئيسة. اما مواقع الثوار القريبة من الأهوار فاستمرت في المقاومة وبقيت لها نشاطات محدودة تتكرر من حين لآخر حتى الآن. وجرت عمليات تمشيط واسعة لعموم المحافظة والقي القبض على كثير من الشباب بتهمة الاشتراك في الانتفاضة واقتيدوا الى أماكن مجهولة. وفي منتصف 1991 التقى قائد الفيلق الرابع مع رؤساء العشائر وأعضاء المجلس الوطني في مبنى محاظة ذي قار وأبلغهم "مكرمة الرئيس القائد" باطلاق سراح كل المعتقلين من أبناء المحافظة على ان يقدم كل شيخ عشيرة او عضو مجلس وطني قائمة بأسماء الأشخاص العائدين او الذين يتعهد بهم… الخ. وسوف يتسلمهم هو شخصياً الشيخ او عضو المجلس ليسلمهم بدوره الى ذويهم. فرح هؤلاء الناس بپ"المكرمة" وقدموا ما طلب منهم من قوائم وظلوا ينتظرون. وقال لي عضو مجلس وطني وشيخ عشيرة انهما جاءا الى مقر الفيلق في تشرين الثاني نوفمبر 1991 وحينها كنت خفراً في غرفة العمليات وكان يوم جمعة وطلبا مني الجواب "لما وعدا به" لأن العشائر والمواطنين في المحافظة ينتظرون التنفيذ واطلاق سراح أبنائهم وفقاً لذلك وكما وعدهم قائد الفيلق ايضاً. لم تكن لدي معلومات عن الموضوع الذي هو من اختصاص هيئات ركن الاستخبارات والأمن. طلبت منهما ان يعودا بعد ثلاثة أيام لمعرفة الجواب. وفي تلك الليلة استفسرت عن الموضوع وأحضر لي خفر هيئة الاستخبارات قوائم تتضمن المئات من أسماء هؤلاء الشباب الملقى القبض عليهم والى جانب كل مجموعة اسم شيخ العشيرة او عضو المجلس الوطني الذي يطالب به. قلت وأين أصبح هؤلاء الآن؟ قال: "سيدي صفى عليهم الماي"، قتلوا جميعاً قبل ان يصلوا الى بغداد، قتلهم الحرس الجمهوري في الناصرية". قلت كيف يوعد قائد الفيلق هؤلاء المواطنين؟ قال ان قائد الفيلق لا يعلم ويشعر انه تورط بعد ان علم الحقيقة، لذلك لا يريد مقابلة الشيوخ. وما ذنبه فقد نفذ توجيه القيادة. وهل كان بامكانه ان يفعل غير ما فعل؟ مقر "عمليات المغرب" ضمن استعدادات الحرب، تم فتح مقر لعمليات غرب الفرات في الناصرية مركز محافظة ذي قار الذي اتخذ من بناية مديرية طرق وجسور المحافظة مكاناً له وعيّن الفريق الأول الركن نزار الخزرجي قائداً له بينما عين اللواء الركن محمد رضا غثيث التكريتي معاون مدير الاستخبارات العسكرية رئيساً للأركان اضافة الى عدد من ضباط الركن أغلبهم من الاستخبارات. وبلغ مجموعهم في المقر 17 شخصاً، وكانت المهمة ادارة العمليات العسكرية التي قد تتطور غرب البلاد. وفي يوم الانتفاضة، تعرض المقر الى ما تعرضت له مقرات الدولة العسكرية والأمنية الأخرى في مركز المحافظة من تطويق ومحاصرة والطلب من الأشخاص تسليم أنفسهم مقابل ضمان سلامة حياتهم. وكان المنتفضون يستخدمون مكبرات الصوت في مخاطبة الضباط داخل المقر مع الالحاح بضرورة التسليم او التعرض الى الرمي في حالة الاصرار على عدم رفع الراية البيضاء. وكانت عناصر المقر تنتظر وصول القوات الحكومية لفك الطوق عنها، خصوصاً بعد الاتصال الذي تم مع مقر القيادة العامة بغداد. لذلك قرروا القتال حتى وصول قوات النجدة ولكنهم لم يكونوا متفقين على هذا القرار، إذ كان بعضهم يرغب في التسليم، واستمرت الاشتباكات بضع ساعات، قتل على أثرها عشرات من المنتفضين، وجرح آخرون، وجرح داخل المقر بعض الضباط من بينهم الفريق نزار نفسه ثم تم اقتحام المقر ووقع الجميع بقبضة المنتفضين. لكنهم، أي الثوار، لم يفقدوا صوابهم بل تصرفوا بشهامة، فاخلوا الجرحى الى المستشفى واعتنوا بالفريق نزار عناية خاصة ووفروا له الحماية والرعاية التي كان بحاجة لها وضمن الظروف السائدة والممكنة آنذاك. واحتجز بقية الضباط، مع بقية الذين تم القاء القبض عليهم من ضباط أمن ومسؤولين حزبيين وأُجريت معهم تحقيقات مطولة. حدثني اثنان من الضباط الذين اطلق سراحهم وهم في الخدمة الآن قائلين: "لا نعلم ما هي الاعتبارات التي تمت بموجبها عمليات التحقيق، كنا في البداية نعتقد بأنها ستكون لاعتبارات طائفية، لأن غالبية ضباط الركن كانوا من الاستخبارات، والضباط الشيعة كما هو معلوم ليس لهم مكان في هذه الأقسام، لكن المنتفضين بدأوا بقتل ضابط ركن شيعي في قسم الحركات وهو العقيد الركن عبدالكريم السمار من أهل العمارة. وخلال التحقيق لم نلمس هذا الاعتبار". وأخيراً اطلق سراح غالبية الضباط وكان من بينهم محمد رضا التكريتي في حين تم قتل آخرين لم يكونوا عناصر سيئة مثل وعدالله وزهير السامرائي وعبدالكريم السمار وغيرهم فهؤلاء يتصفون بسمعة طيبة في القوات المسلحة ومع ذلك تم تنفيذ حكم الاعدام فيهم، بعد وصول قوات الحرس الجمهوري. لكننا لو اجرينا مقارنة بين ما كان عليه تصرف المنتفضين مع الفريق الخزرجي وجماعته وبين ما حصل للثوار الذين سقطت مواقعهم القتالية ووقعوا أسرى بيد قوات الحرس الجمهوري او الحرس الخاص إذ كانوا يرصفون على الشارع وتدوسهم الدبابات طولاً وعرضاً. وذهلت من المشهد المذكور بعد دخول الحرس الجمهوري الى ناحية السويب شمال القرنة عند اقتحامها يوم 15/3/1991. بعد عودة الضباط الى بغداد واجراء التحقيق معهم في الأمن العسكري قرر صدام تكريمهم بأنواط الشجاعة عدا محمد رضا التكريتي إذ قرر طرده من الجيش وايداعه السجن بعد ان عثرت المخابرات على التحقيق الذي استخدمه المنتفضون في ذي قار، ورد فيه ما يدل انه تبرع بمعلومات استخباراتية وشخصية لم تنتزع منه، بل لم يطلب منه الادلاء بها بأي شكل من الأشكال. وقال الضباط الذين كانوا في الأسر معه "انه كان كثير التوسل بالمنتفضين وأبدى لهم ألواناً من الخضوع والذلة مقابل اطلاق سراحه ولم يراع اي احترام لرتبته العسكرية". لم استغرب هذا الموقف من محمد رضا التكريتي، فتجارب الحرب العراقية - الايرانية وحرب الخليج والانتفاضة اكدت بالبرهان بأن هؤلاء المنتفعين الذين يحكمون العراق منذ ثلاثين عاماً كانت أبعد ما تكون عن التضحية او الصمود في المعارك، بل كانوا يستثمرون تضحيات وجهود الآخرين وأصبحوا قادة في ظل السلطة ولم يكن أي منهم في يوم من الأيام شهماً أو فارساً. ان امثال هؤلاء الذين عرفوا بالقسوة والعنف ضد الشعب في انتفاضته لم يسبق للتاريخ الوطني ان سجل لهم أي موقف مشرف وكانوا من أضعف الناس في المواقف العصيبة التي تتطلب التضحية.