بعد انقشاع سحب أزمة العراق مع الادارة الاميركية، تركزت الاضواء الدولية مجدداً على الأزمة التي تمر بها عملية السلام الفلسطينية - الاسرائيلية. وكثر الحديث في الاروقة الدولية عن ضرورة معالجتها بكل الوسائل. وتجدد الكلام عن مبادرة اميركية واخرى اوروبية، وثالثة اميركية - اوروبية مشتركة لانقاذها. وارتفع رهان المراقبين، وبعض اركان السلطة الفلسطينية من جديد، على امكان بلورة موقف دولي ضاغط على اسرائيل يفرض تنفيذ الاتفاقات التي وقعتها، ويعيد عملية السلام على مسارها الفلسطيني الى مجراها الصحيح. وخلال هذه الفترة استذكرت القوى الدولية حال عملية السلام المزرية على المسارين السوري واللبناني، شبه المنسيين منذ تسلم ليكود السلطة في اسرائيل. فهل تهيأت الاوضاع الدولية لاعطاء الاممالمتحدة دوراً في معالجة الصراع العربي - الاسرائيلي على غرار ما حصل أخيراً في الازمة العراقية؟ وهل نضجت مواقف القوى الدولية المقررة لفرض حلول على اطراف الصراع في المنطقة... أم أن ما يجري من تحركات هبة حماس موقتة قاصرة عن انقاذ عملية السلام، سيحوّلها نتانياهو الى ما يشبه "طبخة بحص" لا تسمن ولا تغني من جوع؟ لا شك في ان نجاح الامين العام للامم المتحدة كوفي انان، المسند بموقف فرنسي - روسي - صيني، في تجميد التوجهات "الحربية" الاميركية - البريطانية ضد العراق، ونجاح مجلس الامن في معالجة ازمة التفتيش عن الاسلحة سلمياً، انعشت آمال البعض في امكان تطبيق ما حصل مع العراق على جبهة المفاوضات العربية - الاسرائيلية، وافسحت المجال لآخرين لإحلال امنياتهم ورغباتهم الذاتية محل الحقائق الصعبة. وظنوا ان تضعضع المكانة الدولية للادارة الاميركية، أنهى قدرتها على الاستمرار في التفرد بتقرير السياسة الدولية، وهيأ الفرصة الملائمة لتحرك الاممالمتحدة وتدخل الدول الكبرى الاخرى لانقاذ عملية السلام والحد من الغطرسة الاسرائيلية. إلا أن التدقيق في التطور المحدود لعلاقة الادارة الاميركية ومعها بريطانيابالاممالمتحدة وبقية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، يفرض حذراً في التقويم، ودقة اكبر عند استخلاص الدروس والعبر، خصوصاً عندما يتعلق الامر باسرائيل. وبصرف النظر عن دقة المعلومات الفلسطينية القائلة بأن الحركة الاوروبية الاخيرة بقيادة بريطانيا منسقة تماماً مع الادارة الاميركية، وانه تم الاتفاق على مضمونها واهدافها في الخلوة التي عقدها الرئيس كلينتون مع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير ابان زيارة الاخير للولايات المتحدة الاميركية. فالواضح ان جولتي وزير الخارجية البريطاني روبن كوك والامين العام للمنظمة الدولية كوفي انان مدعومتان اميركياً بصورة أو بأخرى. فدول السوق الاوروبية المشتركة لم ترسل موفدها الى المنطقة من وراء ظهر الاميركيين، لأنها تدرك ان الضعف والارتباك اللذين اصابا الموقف الاميركي اخيراً لم يرقيا الى مستوى حصول تبدل في "النظام الدولي الجديد". كما تعي ان العلاقات الدولية لم تصل الى مستوى فرض شراكتها على الأميركيين في تقرير التوجهات الدولية، أو فرض نظام دولي آخر جديد. ورضيت بريطانيا ومعها شركاؤها الاوروبيون بأن يُستخدموا من جانب الاميركيين كفزاعة في وجه القيادة الاسرائيلية. وقبلوا بأن يقوموا بمهمة قوة استطلاع مساعدة في جس نبض الحكومة الاسرائيلية والتعرف على الحدود الدنيا لموقفها من الاسس والعناصر الضرورية لتحريك المسارين السوري واللبناني، وسبل اعادة المسار الفلسطيني الى مجراه الطبيعي. وما حمله كل من كوك وأنان في جعبته كان معروفاً سلفاً عند الادارة الاميركية. ولا تتعارض طروحاتهما حول اخراج المفاوضات من مأزقها، ومعالجة الاوضاع المتدهورة في جنوبلبنان، مع التوجهات الاميركية. اما نتائج هذه التحركات على مجرى عملية السلام ذاتها، فمهمة كوفي انان ينطبق عليها مقولة "رحم الله امرءاً عرف حدّه فوقف عنده"، ولم تتعد تذكير أهل المنطقة بوجود هيئة الاممالمتحدة الحاضر الغائب في هذه المرحلة. وقطع السيد أنان الشك باليقين وقال أنه يزور المنطقة وليس في جعبته مبادرات أو مقترحات خاصة، وانه يدعم رعاية اميركا لعملية السلام، وانه من غير المناسب للامم المتحدة التحرك في الوقت الذي تقوم الادارة الاميركية بدورها. وتركزت زيارته على استطلاع المواقف من اقتراح اسرائيل بالانسحاب من الجنوب. وحول دور الاممالمتحدة المحتمل في حال الموافقة عليه، أو في حال انبعاث اوضاع ميدانية جديدة وظروف اقليمية ومحلية تجعله قابلاً للتطبيق على الأرض. واذا كانت زيارة انان ولقاءاته برئيس السلطة الفلسطينية وبقية زعماء المنطقة مفيدة ضمن حدود التضامن مع الشعب الفلسطيني، وانعاش دور الاممالمتحدة تجاه القضايا العربية، فمن الخطأ التعويل فلسطينياً وعربياً على نتائجها على أي من المسارات. فما صحّ مع العراق لا يصلح مع اسرائيل. فالظروف والشروط التي انجحت انان على جبهة العراق غير متوفرة حتى الآن على جبهة الصراع العربي - الاسرائيلي. وبينت الخلافات الاسرائيلية الداخلية، حول سبل معالجة موقف الجيش الاسرائيلي في جنوبلبنان، أن عرض نتانياهو - موردخاي للانسحاب من هناك مربوط بشروط لا علاقة لها بصنع السلام في المنطقة ولا بتحريك المفاوضات على المسارين السوري واللبناني، ولا يمكن لبنان الموافقة عليها وتلبيتها. وهي أقرب الى مناورة يمكن ادراجها تحت بند تقديم مواضيع مفيدة لتحريك العلاقات الاسرائيلية العامة، وتضليل الرأي العام العالمي حول الموقف الاسرائيلي من صنع السلام في المنطقة، واشغاله عن عملية القتل المتعمد التي ارتكبها نتانياهو لعملية السلام على مسارها الفلسطيني، وتهدئة خواطر الجمهور الاسرائيلي الداعي لانسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوباللبناني بعد الخسائر غير القليلة التي ألحقتها المقاومة الاسلامية اللبنانية بأفراد ومعدات الجيش الاسرائيلي. سيتواصل الحديث بالعموميات عن الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان طالما بقيت المفاوضات على المسار الفلسطيني متعثرة، وسترتفع وتيرته بمقدار نجاح المقاومة اللبنانية في إلحاق مزيد من الخسائر بالجيش الاسرائيلي. اما تحديد مضامينه فلن يتم قبل وقوع تطورات كبيرة على الأرض. وتدرك القوى الدولية المعنية بصنع السلام في المنطقة ان لا افق في عهد ليكود لتجدد المفاوضات على هذين المسارين وتحبذ تركيز جهودها على احياء المسار الفلسطيني وتزويده بعض روح الحياة على أمل منعه من الانهيار. اما اللبنانيون والسوريون فيدركون جيداً أن لا أفق لأي اتفاقات مع حكومة ليكود اذا تجددت المفاوضات على مساريهما، ولا أفق لتنفيذ أي اتفاقات يتم التوصل اليها معهم. وتجربة اتفاقات الفلسطينيين مع نتانياهو نموذج حي امامهم. وحرص نتانياهو على اظهار اهتمامه بالمسارين السوري واللبناني وبالانسحاب من جنوبلبنان فيه محاولة ابتزاز تنازلات اضافية من القيادة الفلسطينية. وهي تتضمن بداية تمهيداً لأعمال حربية اسرائيلية قد تتم لاحقاً لوضع مقولة ليكود "لبنان أولاً" على نار حامية. ويبدو ان نتانياهو وأركان ليكود بدأوا التفكير جدياً في تفجير الوضع في الجنوباللبناني بعد فشل محاولات تفجير الوضع عسكرياً مع العراق. اما الحركة الاوروبية ممثلة بزيارة روبن كوك للمنطقة، وما رافقها من ضجة سياسية واعلامية كبيرة هي في معظمها مفتعلة، ببل رغب الطرفان في تضخيمها، كلٌ لاعتباراته الخاصة. إذ جاء كوك الى المنطقة مباشرة بعد زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي للندن. وقبل وصوله حضر احتفالات، وألقى خطابات، وأطلق تصريحات لم يلمس العرب والفلسطينيون جديداً فيها. ولم يظهر نتانياهو في حينه انزعاجاً كبيراً منها. ولم تنتظر حكومته وصول روبن كوك لتعلن رفضها لأي مبادرة اوروبية في شأن عملية السلام، إذ بادر سكرتيرها داني نافيه فحدد موقفها من التحرك الاوروبي، وكان في منتهى الصراحة والوقاحة عندما حدد لاوروبا دوراً قال انه "يجب ان يقتصر على المساعدة في تحقيق التنمية في المنطقة فقط". وبعد وصول كوك للمنطقة لم يقرأ الفلسطينيون المبادرة البريطانية او الاوروبية التي سمعوا عنها كثيراً وطال انتظارهم لها. كل ما سمعوه كان حديثاً عاماً مكرراً حول مبدأ الارض مقابل السلام، وعن السلام مع العدل للفلسطينيين مقابل السلام مع الامن للاسرائيليين، وعن ضرورة وضع تدابير واجراءات فورية ضرورية لبناء الثقة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وضرورة وقف الاستيطان، ومطالبة الطرفين بتجديد التزامهما تنفيذ الاتفاقات. وشاهد الفلسطينيون على صفحات الصحف وشاشات التلفزة تصرفات جريئة لرئيس الديبلوماسية البريطانية، لكنهم شاهدوا ايضاً تحدياً اسرائيلياً، ورداً فورياً مكشوفاً، وخرقاً فجاً للأعراف والتقاليد الديبلوماسية، وتطاولاً على وزير بريطاني جاء ممثلاً للأمم الاوروبية، وتربط دولته باسرائيل صداقة حميمة، بل ساهمت في انشائها وفي امدادها بكل سبل الحياة منذ قيامها وحتى الآن. ولم يكن تطاول نتانياهو على كوك هفوة غير متعمدة وانما كان عملاً مدروساً مفتعلاً قصد به فقط إثارة مسائل ديبلوماسية ثانوية لتحويل انظار العالم عن المسائل الجوهرية. وسعى من خلاله الى توتير العلاقة مع بريطانيا موقتاً، وتخريب زيارة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير المرتقبة، وقطع الطريق امام أي مبادرة يفكر الاوروبيون في طرحها لاحقاً، ورسالة للادارة الاميركية تبيّن طبيعة المواجهة مع اسرائيل اذا طرحت مبادرتها. لا شك في ان زيارة روبن كوك للمنطقة، وصعوده الى الجبل واستفزازه نتانياهو واطلاقه تصريحات قوية حول عملية السلام والاستيطان وتنفيذ الاتفاقات، الخ... مفيدة للعرب ولعملية السلام، لكنها كانت ايضاً مفيدة لبريطانيا، اذ كانت حكومة حزب العمال بحاجة اليها لاستعادة ثقة العرب والفلسطينيين بدورها بعد موقفها المتسرع ابان الازمة العراقية. واذا كان الحماس البريطاني المفاجئ نحو انقاذ عملية السلام ليس خالصاً لوجه الله والعرب ومصلحة صنع السلام في المنطقة، وفيه بعض التغطية على الموقف ابان ازمة العراق، فإن موقف الادارة الاميركية من الحركة البريطانية ومن زيارة روبن كوك للمنطقة فيه هو الآخر تعويض لحكومة طوني بلير عن الاذى الذي لحق بها من جراء الازمة مع العراق، ومكافأة لها على الدعم غير المشروط الذي قدمته للموقف الاميركي. واذا كانت الايام القليلة المقبلة كفيلة بالكشف عن ردود الفعل البريطانية والاوروبية دفاعاً عن كرامتها ومصالحها في المنطقة. فما اخشاه هو ان يمر الزمن من دون ان يحصل الفلسطينيون من الاوروبيين ومن زيارة روبن كوك وما رافقها من مشكلات على اي شيء جديد مفيد لقضيتهم، ومن دون ان تحصل عملية السلام من اوروبا على الحدود الدنيا من الحماية لمنع اعدائها من قتلها، وان تكون النتيجة النهائية لهذه الضجة: اتهام الاعلام الدولي روبن كوك بالتطرف ومساندة الارهاب، وحتى بالعنصرية ومعاداة السامية، الخ... فمثل هذه الاتهامات جاهزة عند الحركة الصهيونية للاستخدام ضد كل من لا يوافق اسرائيل على مخططاتها العدوانية التوسعية. وان يليه اعتذار بريطاني اوروبي يقدم لنتانياهو مقروناً بباقة ضغوط اوروبية على الفلسطينيين للقبول بتشغيل المطار والشروع في بناء الميناء والمنطقة الصناعية وفقاً للشروط الاسرائيلية، والسكوت عن حقوقهم الاخرى وبخاصة الانسحابات التي نصت عليها الاتفاقات. صحيح ان الفلسطينيين لم يتوقعوا من روبن كوك وعداً بريطانياً بحجم وعد بلفور الذي قدم للصهيونية عام 1917 لكنهم أملوا ب "وعد كوك" بالعمل على توفير حماية دولية تحافظ على وجودهم فوق ارضهم، وتمنع المستوطنين من سرقة ما تبقى منها... لكنهم مع الأسف الشديد لم يسمعوا شيئاً من هذا القبيل.