عندما صدرت سيرة الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيث بقلم أحد أصدقائه مطلع السنة الماضية، ترسخ الاعتقاد في الأوساط الأدبية والصحافية المتابعة لنشاط "غابو"، بأن مبدع "مائة عام من الوحدة" لا يزال عند موقفه عازفاً عن الكتابة التأريخية لمعايشاته الشخصية والأدبية، وأنه، كما ذهب بعض النقاد، يعتبر هذا الضرب من الكتابة أدنى مرتبة من الابداع الروائي الذي حلقت أعماله في فضاءاته الى قمم، نادراً ما دنت منها أقلام أخرى في هذا العصر. لكن ها هو ماركيث، الذي أتقن لعبة احاطة اعماله بالألغاز والاثارة والترقب يكشف عن الفصل الأول من أول جزء من مذكراته التي توقع ان تمتد على ستة اجزاء يقع كل منها في 400 صفحة، والتي يعود في مستهلها، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، الى مرتع طفولته في بلدة أراكاتاكا التي استقى منها أبطال رائعته "مائة عام من الوحدة". وفاجأت هذه الخطوة أصدقاء ماركيث الذين كان يكرر أمامهم في الفترة الأخيرة انه منكب على كتابة ثلاث روايات غرامية، ممارساً من حين لآخر بعض الأنشطة الصحافية كتغطيته أخيراً زيارة البابا الى كوبا التي تربطه صداقة قديمة ووطيدة بزعيمها فيديل كاسترو. والتي له فيها منزل يقيم فيه فترات متقطعة منذ سنوات. وقد اختار ماركيث ان يقرأ الفصل الأول من أول جزء من مذكراته في المهرجان السنوي الذي يقيمه المركز التاريخي في مدينة مكسيكو، والذي تناول في دورته هذه السنة موضوع "الجغرافيا الجديدة للرواية"، واستضاف نليدا بينيون من البرازيل وخوان غوتيسولو من اسبانيا وجيم كوتزيه من جنوب افريقيا وخوسيه ساراماغو من البرتغال وسوزان سونتاغ من الولاياتالمتحدة. وأشرف على تنظيم الندوة الكاتب المكسيكي كارلوس فونتيس الذي قدّم ماركيث بقوله: "سيّد الأمكنة والأزمنة سيتلو علينا الفصل الأول من مذكراته، أي الفصل التالي من كتاب شهواته التي لا تنضب". وقال ماركيث ان النص الذي سيتلوه هو الكلمة الأولى "في ما قد يكون بمثابة مذكراتي، لو ان كل رواياتي لم تصبح هي مذكراتي". وأضاف ان المشكلة الرئيسية التي تواجه الكتاب في هذا المجال، هي انهم عادة يشرعون في كتابة مذكراتهم عندما يعجزون عن التذكّر. وشدد على عدم استخدامه كلمة مخيلة في مذكراته، "مخيلتي التي لا أثق بها، لأنني عندما أكتب اكتفي بالتذكر. لكنني أتذكر بشكل انتقائي من واقعنا فتبدو الوقائع من نسج الخيال". وقال ماركيث انه أدرك ان أسرار حياته كامنة في رواياته، وان ما يفعله الآن ليس فك رموز حياته، بل فك رموز رواياته، "لأنه الطريق الفعلي لفك رموز حياتي". وكشف ماركيث ان فكرة كتابة مذكراته جاءته عندما كان يحاول ملء الفراغ بين كتابة رواية واخرى، حين كان يمضي وقته في القراءة. وقال ان هذا الفراغ اتسع اعتباراً من العام 1989 عندما بدأ يستخدم الحاسوب لكتابة رواياته. وصارت كتابة الرواية تستغرق معه ثلاث سنوات عوضاً عن سبع عندما كان يستخدم الآلة الكاتبة. وأنهى الكاتب الكولومبي الذي أكمل السبعين أخيراً: "أشد ما نخشاه عندما نشيخ هو الشعور بالعجز عن الكتابة"، مضيفاً ان عنوان مذكراته "نعيش لنقص ما نعيشه". الذي يذكِّر بعنوان مذكرات بابلو نيرودا "اعترف اني قد عشت" هو الحقيقة الأكبر في حياته، "اذ يبدو لي اني ولدت وأعيش لهدف واحد، وهو ان يكون لدي ما أحكيه".