أعلنت الحكومة اللبنانية عن برنامج نشط لإحياء ذكرى الاحتلال الاسرائيلي العشرين للشريط الحدودي. والذي وقع ليلة 15/3/1987 وشارك فيه 30 ألف جندي براً وبحراً وجواً. وتم تدمير بعض القرى تدميراً شاملاً وتدمير 30 قرية تدميراً جزئياً، وتهجير 120 الفاً من المزارعين، وسقوط 1200 شهيد من الاطفال والنساء والشيوخ، وارتكاب مجازر تتواضع امامها مجازر هتلر المزعومة. وجاءت الخطوة الحكومية متزامنة مع المقترحات الاسرائيلية الثعلبية تجاه القرار الرقم 425 الصادر قبل عشرين سنة عقب الاحتلال المذكور الذي نفّذته اسرائيل تحت عنوان مضلّل هو "عملية الليطاني". ومَنْ أبرع من الاسرائيليين في اختيار العبارات الاعلانية المضلّلة، فالدولة المعتدية التي ألقت الفلسطينيين خارج حدودهم ثم تعقّبتهم وتعقّبت مضيفيهم من عرب السوار تبحث عن أمنها في "عملية الليطاني" اللبناني، وبقي جيشها هناك ليصبح اسم المنطقة في القاموس العبري "الشريط الامني" وهو أمن يقوم على الفلسفة النازية اياها: حتى تحمي حدودك وسّع مساحتها، وبالتالي تصبح المنطقة الجديدة، حدوداً جديدة تحتاج الى حماية وبالتالي الى توسّع وهكذا دواليك… لا تزال الذاكرة مليئة بالصور الحيّة عن تداعيات حملة "عملية الليطاني"، فقد ملأت وسائط النقل من حافلات وسيارات اجرة وجرارات زراعية ودواب السهول المحيطة بعاصمة الجنوب صيدا تحمل ألوفاً مؤلفة من سكان مناطق العدوان الاسرائيلي. وقامت اللجان الشعبية اللبنانية التطوعية، بالاضافة الى الدفاع المدني والبلدية بتوفير كل ما يمكن لاقامة مخيمات اللجوء وبعض ضروريات الغذاء والأدوات الخ… بينما لجأ سكان المخيمات الفلسطينية الجنوبية الى العمارات السكنية التي لا تزال قيد الانشاء وبعضهم طرق ابواب معارفه في مخيمي عين الحلوة والميّة وميّة… كان المشهد مؤلماً ومؤثراً، فهؤلاء المزارعون الذين عاشوا بكرامة لم تعرف اليد السفلى، يتصدّق عليهم ابناء بلدهم ويستجدون العالم لتأمين الحدّ الادنى من مقومات الحياة الانسانية، وهل على الفلاح ألم اشد من مفارقة ارضه وفدانه، ليعيش عالة على الآخرين؟ وكان احتلال 78 احد الدروس الميدانية المبكّرة في مفهوم الاسرائيليين لأمنهم وتكريس احتلالها لاراضي الغير. وما سمعناه من هؤلاء الضيوف كان كافياً للتعبئة النفسية العميقة الصادقة التي تفجّرت في ما بعد في صور متعددة من التحرك السياسي والفدائي على طول الساحة اللبنانية، كان ابرزها وقائع السنوات 82 - 85، ما مهّد للمقاومة المسلحة، الورقة الوحيدة في يد الجمهورية الثانية. وعشية الاحتلال الاسرائيلي للشريط الحدودي كان العمل العسكري تحت اشراف منظمة التحرير الفلسطينية، التي رأت في العملية استهدافاً لوجودها قيادة وقاعدة، وعملاً مكشوفاً لاخراجها من عمق الجنوب المتاخم للحدود الشمالية لفلسطين، وان الواجب يقتضي تفويت الفرصة على العدو الاسرائيلي والعمل على تعطيل خطته في شطرها السياسي والحؤول بينه وبين ثمرة عدوانه. وانحصر همّ الحكومة اللبنانية التي كانت تعيش حال ضعف وتفكّك نتيجة حروب الطوائف ودويلاتها القائمة، في تحقيق الحدّ الادنى الذي يفرضه عليها واجب رعاية مصالح شعبها. وانتصر الرأي القائل بوجوب استخدام الديبلوماسية السياسية في غياب القدرة على الردّ العسكري الرادع، وبالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة تم انتزاع القرار 425 القاضي بانسحاب الاسرائيليين الفوري من مناطق الاحتلال، ولكن هل من مراوغ كالاسرائيليين؟ أكذوبة حماية الجنوبيين عملت القيادة الاسرائيلية كل ما في وسعها لتفريغ القرار 425 من مضمونه، وتعطيل تنفيذه، وكانت حجتها هذه المرّة أكذوبة اسمها "سعد حداد" ضابط لبناني رضي ان يلعب دور "يهوذا الاسخريوطي" وأعلن التمرد على قيادته والاستقلال بادارة المناطق المحتلة التي صارت في القاموس العبري "لبنان الحر". وبالغ في أداء الدور الهزيل فأصدر هويات وجوازات سفر واقام ميناء بحرياً ومهبط طائرات واذاعة ومحطة تلفاز تبشيرية، تحت رعاية الاسرائيليين ودعمهم المباشر المالي واللوجستي، وبقي "جيش لبنان الجنوبي" دمية ملازمة لكل تحركات الاسرائيليين العسكرية والسيايسة فهم يضربون القرى الآمنة باسمه، ويحتلون الارض ويتوسعون فيه باسمه، ويبطشون بالشباب داخل الشريط باسمه، ويصادرون الاراضي الزراعية، ومنابع المياه، ويحوّلون مجراها الى الاراضي الفلسطينية حتى النقب المحتل باسمه… كانت لسعد حداد، منذ تجنيده مع الاسرائيليين حتى موته، سمعة سيئة بالقصف العشوائي الذي كان يلقي حممه على صيدا كلما أراد الانتقام من ضربات المقاومة المؤلمة، وكلما فرّ الشباب المكرّه على الخدمة الاجبارية من صفوفه، وكلما واجه مخاتير المناطق المحتلة بصلابة وعنفوان على رغم السنوات الثقيلة التي ترهق كواهلهم، وكلما ارتفعت مئذنة جديدة فوق ربى جبل عامل، او قرع ناقوس رافض للاحتلال. وكانت للجيش المصطنع بقيادة الرائد سعد حداد يد سوداء في مذبحة صبرا وشاتيلا، فقد ارتضى ان يكون الغطاء الذي يتحرك تحته "بلدوزر اسرائيل" أرييل شارون ويشرف شخصياً على جريمة مروّعة تركت خمسة آلاف قتيل جلّهم من الاطفال والنساء، وجرحاً غائراً وأد - في ما بعد - اتفاقية 17 ايار مايو في مهدها، وسجل الجرائم التي تم ارتكابها باسم هذا المارق أكثر من ان تعد او تحصى، ولا يزال ورثته على درب الخيانة. كانت اسرائيل تحتج دائماً بالوجود العسكري الفلسطيني، وكانت ترى في منظمة التحرير الفلسطينية مجرد عصابات من المخرّبين، وبالتالي كانت ترفض الخروج من الاراضي اللبنانيةالمحتلة في الجنوب والبقاع الغربي، بهذه الحجة. ثم عقدت حكومة اسرائيلية منتخبة اتفاقاتها مع منظمة التحرير وفي طيها اتفاقات امنية اخرجت المنظمة من دائرة المخرّبين لتصبح عضواً في جبهة محاربة الارهاب ! وبقي الإرث اللبناني الثقيل، واسرائيل التي تدفع ضريبة الاغتصاب بشكل شبه يومي لا تكلّ من قصف القرى الوادعة، ولا تهجير سكانها، ولا اكراه الشباب على الخدمة العسكرية تحت قيادة انطوان لحد. واسرائيل التي خاضت انتخابات 1983 تحت شعار "من سيُخرج الجيش الاسرائيلي من الرمال المتحركة اللبنانية" وشهدت تظاهرات عاصفة امام مبنى برلمانها ومنزل رئيس وزرائها قامت بها امهات جنودها العاملين في الاراضي اللبنانيةالمحتلة، تدرك ان جنين مقاومة الشعب اللبناني لاحتلالها لن يرى النور الا بتفاهم اللبنانيين انفهسم، فالعمل العسكري لا يعطي ثماره بعيداً عن السياسة الواعية الحازمة. وهي تراوغ في عروضها، لأنها ما فتئت تراهن على تفكك الموقف العربي، وعلى الوضع الطائفي اللبناني وعلى خلافات اصحاب السلطان في الساحة اللبنانية. ومن تجربة حيّة عايشت كل الآم الاحتلال، واكتوت بشكل مباشر بالحقد الاسرائيلي تنطلق الدعوة لتحقيق موقف موحد حاسم، فقد آن لجنين المقاومة ان يخرج، وعشرون سنة كافية لاكتماله وولادته.