دُعيت قبل وقت قصير من جمعية الشرق الاوسط في كلية سانت انتوني في جامعة اكسفورد لالقاء محاضرة عن آفاق توصل الولاياتالمتحدة وبريطانيا واوروبا الى موقف مشترك تجاه الشرق الاوسط. وبعدما لفتُّ انتباه الحضور من اساتذة وطلبة الى حقيقة ان 1997 كانت سنة صعبة في المنطقة وان 1998 لا تبدو احسن حالاً، تفحصت سياسات واشنطن ولندن والاتحاد الاوروبي ازاء ثلاث قضايا رئيسية: عملية السلام والعراقوايران. وكان استنتاجي هو ان تطوير سياسة مشتركة تجاه هذه المواضيع المعقدة سيكون تبسيطياً وغير واقعي على السواء، لكن مزيداً من التشاور والتعاون والتكامل بين اميركا وعواصم اوروبية اساسية سيكون لمصلحتهما ولمنفعة المنطقة على السواء. وفي ما يأتي في مقال من جزئين ما قلته. كانت 1997 سنة سيئة في الشرق الاوسط وليس هناك ما يدعو الى الاعتقاد ان 1998 ستكون مختلفة بأي شكل. فالمفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين لا تزال في مأزق. وتتفشى حال انعدام الثقة. ولم يعد صانعو السلام في المجتمع الدولي يمسكون بدفة السفينة التي تتخبط مكانها بدل ان تتقدم الى امام. وتُستهلك كل طاقتنا في تقديم العون الذي يكفي بالكاد لابقاء مركب عملية السلام عائماً. ولا يزال نظام صدام حسين في العراق، بخلاف كل التنبؤات بزواله المبكر عقب حرب الخليج، باقياً في السلطة ممسكاً بها بقسوة، ومشبعاً بروح الانتقام، ويواصل تحدي قرارات مجلس الامن ولا يقدم حتى الآن أي ضمان بأن الاتفاق الاخير الذي توصل اليه مع كوفي أنان سيكون اكثر مدعاة للثقة من ركام الوعود الكثيرة التي نكثها في الماضي. وتستمر ايران هي الاخرى، على رغم مؤشرات مثيرة للاهتمام الى تغير داخلي، في السعي الى امتلاك اسلحة الدمار الشامل، ومعارضتها لاسرائيل والسلام في الشرق الاوسط، وطموحها للهيمنة في منطقة الخليج. ولا تبدو أي مؤشرات الى ان عمليات ذبح المدنيين في الجزائر تخف. وفي ارجاء المنطقة، يتقدم الحكام بالسن، ويتزايد عدد السكان، وتقاوم الحكومات دعوات لمزيد من الانفتاح السياسي والاقتصادي. وفي مرحلة كهذه تطغى عليها الشكوك والاجهاد، عندما يبدو ان ليس هناك ما يتحقق، يصبح مفهوماً وحتى مرغوباً ان يجري تأكيد التباينات في الموقف بين اوروبا والولاياتالمتحدة. وتعج صحافتنا بمواضيع عن الاحتواء في مقابل المواجهة، والعقوبات مقابل التجارة الحرة، وقانون داماتو مقابل "توتال"، واحتكار واشنطن لصنع السلام بين العرب واسرائيل مقابل مشاركة اوروبا في ادارة العملية. دعونا نلقي نظرة اعمق. مصالح متوازية هناك، عشية القرن المقبل، توازٍ في شكل عام بين مصالح كل من الولاياتالمتحدة وأوروبا واهدافهما في الشرق الأوسط. ذلك ان الطرفين يطلبان سلاماً عادلاً وشاملاً بين اسرائيل وجيرانها العرب، يضمن أمن واستمرار دولة اسرائيل من جهة، ومن الثانية كرامة الدول والشعوب العربية في المنطقة وحقها في تقرير المصير في شكل لا عدواني. كما نحاول التوصل الى مواثيق وقيود دولية معتمدة حول انتشار أسلحة الدمار الشامل وانهاء الارهاب ضد الأبرياء، الداخلي منه والخارجي، وحكومات تتجاوب مع تطلعات مواطنيها وتعتمد التفاوض وليس الحرب في حل الخلافات، وتبادل اقتصادي مثمر مع المنطقة، من ضمنه استمرار الوصول الى مصادر الطاقة باسعار تجارية منصفة، وعلاقات احترام متبادل لا عدواني مع عالم الاسلام حضارته. وأرى ان الفروق بيننا لا تتعدى ان تكون فروقاً في التركيز أو اعطاء الأولويات لمصالح هي في طبيعتها متقاطعة، أو ان الفروق تنبع الى حد كبير من غرائزنا التنافسية في انظمتنا الاقتصادية الرأسمالية. عملية السلام لننظر بتفصيل أكثر الى عملية السلام في الشرق الأوسط. على ان اعترف، كوني الديبلوماسي الأميركي الذي بدأ الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في كانون الأول ديسمبر 1988 وساهم في تلك الفترة المثمرة لصنع السلام ما بين مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الأول اكتوبر 1991 وفي المحادثات السورية - الاسرائيلية التي توقفت أوائل ربيع 1996، بخيبة أمل عميقة وشعور بضياع الفرصة عندما انظر الى اجواء الشك والريبة الحالية. فقد شهدت ادارة الرئيس بيل كلينتون الأولى ولادة اربعة اتفاقات سلام فلسطينية - اسرائيلية، ومعاهدة سلام بين اسرائيل والاردن، وتعاملاً جدياً بين سورية واسرائيل حول قضية السلام، وبداية عملية التطبيع بين اسرائيل والكثير من العالم العربي. ووضعت بنية عملية السلام المكونة من ثلاثة مستويات / أطر، كما اتفق عليها في مدريد، للتعامل المنظم على المسارات المتعددة والدولية لدعم المفاوضات المباشرة بين الطرفين. وشاركت الدول الأوروربية بشكل كامل في مجموعات المسارات المتعددة الخمس وفي لجنة التسيير اضافة الى مختلف مؤتمرات مساعدة الفلسطينيين، وسمح ذلك لتلك الدول بمستوى من المشاركة والمساهمة في مجمل العمل من اجل السلام بشكل وازن تفرد أميركا برعاية المفاوضات الثنائية. ونشطت لجنة التنمية الاقتصادية تحت قيادة الاتحاد الأوروبي، فيما رضيت الولاياتالمتحدة لنفسها بأن تقوم بدور الشريك الأصغر في الاستعدادات للانتخابات الفلسطينية التي جرت بنجاح في كانون الثاني يناير 1996. كان هناك وقتها الكثير من المهمات للجميع وسادت اجواء التفاؤل. لكن كان علينا، من منظور الوضع الراهن، ان ندرك صعوبة ادامة وتيرة التقدم تلك، التي عاكست كل مجرى العلاقات العربية - الاسرائيلية منذ 1948. التناقض بين ذلك الوضع والشلل الحالي بالغ الوضوح. ويظهر رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو منذ انتخابه بوجهين ازاء العالم. فهو من جهة يؤكد رغبته في الاستمرار في عملية التفاوض ويقابل ياسر عرفات مهما كان ذلك على مضض، ويتفاوض على اتفاق اعادة الانتشار في الخليل الذي حظي بتأييد ساحق من الكنيست والرأي العام، ويتكلم عن العودة الى التفاوض مع سورية. ومن الجهة الثانية يندد باتفاق اوسلو ويؤكد ان اسرائيل لن تنسحب من الجولان ويدعم القيام بمشاريع استيطانية جديدة وتوسيع المستوطنات الحالية. وبدل ان يبني على تطورات ايجابية مثل اتفاق الخليل أو يحاول توفير زخم جديد لعملية السلام فهو يتجه الى اليمين تحت ضغوط يمين حكومته ويزور المستوطنات ويتكلم بلغة الانذارات لا بلغة الشراكة ويتخلى عن السلطة بشكل متزايد لصقور متشددين مثل ارييل شارون، فيما يستقيل من حكومته اعضاء ليكود المخضرمون مثل ديفيد ليفي ودان ميريدور. انها حكومة تقوم على المهاجرين الروس والأحزاب الدينية ومجموعات اليمين الاسرائيلي، وهي تستمر في البقاء لكن في حال من الفوضى والعجز عن اتخاذ سياسة متماسكة واضحة للسلام. الغريب في هذا ما يبدو من تحول شارون من موقف اليمين المتشدد الى يمين الوسط، اذ ان هذا الداعية التاريخي ل "نقل السكان" يبرز الآن كمحبذ لقدر محدود من الحكم الذاتي للتجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية تحت نموذج البانتوستانات. ويبلغ من بؤس الوضع الحالي أن هناك من يرى في هذا التحول بصيصاً من الأمل. وإذ فشلت الحكومة في التوصل الى موقف موحد من اعادة الانتشار أرسلت نتانياهو مكبلاً تماماً الى واشنطن الشهر الماضي، ولم يكن له ان يقترح او يقبل الاقتراحات، بل ان يكتفي بالسماع والعودة لتقديم تقرير عن اجتماعاته. وبعد سنتين على وجوده في السلطة يحار الاسرائيليون في تحديد من هو نتانياهو الحقيقي، وربما كان "بيبي" نفسه يشاركهم الحيرة. لا عجب، اذن، اذا استمرت حيرتنا نحن تجاهه. اما الرئيس ياسر عرفات فليس امامه خيار سوى الأمل بان الجانب البراغماتي سيبرهن على انه الأقوى في شخصية رئيس الوزراء الاسرائيلي. وكان عرفات قرر اتباع طريق التدريج في مدريد وأوسلو، وعاد من تونس الى احياء غزة المكتظة لكي يقوم بالتنفيذ. انه مفاوض بالغ الدهاء والإتعاب للطرف المقابل وقادر على التلاعب بالذين حوله، حتى أقرب مساعديه، ويرفض مشاركة الآخرين في السلطة ولا يكشف أبداًً كل أوراقه. انه استاذ في تكتيكات الضعف التي طورها خلال السنين ليبقي القرار الفلسطيني بعيداً عن قبضة القادة العرب. وهو يستعمل هذه التكتيكات الآن في المفاوضات مع اسرائيل. لكن عرفات اليوم، لسوء الحظ، يستسلم لغزائره السلبية وينتهك حقوق الانسان ويخنق الصحافة ويسجن الصحافيين في بعض الأحيان، ويسمح لشرطته بتجاوزات تشمل الاعتقال الكيفي والتعذيب اثناء التحقيق، كما يتسامح مع الفساد بين زملائه، وهذا كله ليس سيئاً في حد ذاته فحسب بل يوفر بعض التغطية لنتانياهو، خصوصاً تجاه واشنطن. لعرفات نقطتا قوة مهمتان. الأولى قدرته الغريزية على ادراك مركز ثقل الرأي العام الفلسطيني، والثانية عدم وجود شخصية فلسطينية متفق عليها لخلافته. انه يعاني من تقدم السن والمرض - رعشة الشفتين واليدين كانتا اكثر وضوحاً خلال زيارته الأخيرة الى واشنطن - كما ان قدرته على التركيز، خصوصاً اثناء الاجتماعات الطويلة قد تكون تراجعت ايضاً. ولا يعرف احد غيره اذا كان يواجه موقف التعنت الاسرائيلي بتكتيك المماطلة في انتظار انتخابات اسرائيلية تأتي بقيادة جديدة. انها لعبة خطيرة، خصوصاً ان "حماس" تنتظر خلف الكواليس، ويتصاعد احباط الفلسطينيين ليصل الى حد يهدد بالخطر، ليس هناك من يلعبها أفضل منه. لكن عليه في الوقت نفسه ان لا يقنع نفسه بأن التعاون الأمني مع اسرائيل لا يتعدى ان يكون تكتيكاً يمكن استعماله أو التراجع عنه حسب الظروف. اذ ان هذا هو الطريق الأسهل لخسارة كل الأطراف في عملية السلام، حتى القطاع المساند لها في الرأي العام الاسرائيلي. أدت الضغوط الأميركية المتزايدة في النهاية الى عقد لقاءات بين عرفات ونتانياهو في واشنطن في كانون الأول يناير الماضي، لكنها مع الأسف، رغم الجهد الذي بذل فيها، لم تؤدِ الى نتيجة حاسمة. واذ لم يجد الرئيس الأميركي امامه أي اقتراحات اسرائيلية حول اعادة الانتشار، طرح عدداً من الأفكار الأميركية تدور على اعادة انتشار اسرائيلية على مراحل تصاحبها اجراءات امنية اضافية من الفلسطينيين، فيما كررت الولاياتالمتحدة تعبيرها عن الاقتناع بأن الفلسطينيين اجروا ما يكفي من التعديل على ميثاقهم الوطني لإزالة كل ما يناقض الاتفاق مع اسرائيل. وشهدت تلك الرحلة ذلك الأخذ والرد المؤسف حول امكان قيام الرئيس عرفات بزيارة الى متحف المحرقة في واشنطن، لكنه في النهاية قرر عدم الذهاب، ما اضاع تلك المناسبة المعنوية المهمة. لم تؤدِ تلك الزيارات الى أي اختراق، وهي الآن ليست سوى اضافة الى قائمة طويلة من الاجتماعات المشابهة. واذ يستمر الجمود تجد الادارة نفسها مقيدة باعتبارات سياسية داخلية، من بينها الانتخابات الاشتراعية النصفية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، والبداية الفعلية لمعركة الرئاسة في 2000 التي يخوضها نائب الرئيس آل غور، وكون مجلسي الكونغرس تحت سيطرة الجمهوريين، الذين يرفضون توحيد الموقف مع الرئيس ويستغلون ضده أي الماح منه الى انتقاد اسرائيل. تطرح هذه الأزدواجية بين الجمود في الشرق الأوسط والقيود الداخلية على سياسة واشنطن السؤال عن امكان تحريك العملية من خلال دور أوروبي أكثر مباشرة. انه لا شك احتمال جدير بالدرس. فقد برهن المبعوث الأوروبي ميغيل موراتينوس على تأثيره الايجابي، وساهم بعدد من الأفكار والنشاطات المفيدة، وهو ما لم يكن متاحاً لشخص يقل عنه حساسية ومقدرة. كما يواصل الاتحاد الأوروبي التحادث مع سورية وصولاً الى اتفاق مشاركة، وايضاً المساهمة في النشاط التنموي في لبنان، في محاولة للحفاظ على التوجهات الايجابية لدى الطرفين. وزار موارتينوس دمشق عشر مرات منذ تعيينه، فيما برهنت فرنسا على كفاءة عالية في رئاستها للجنة المراقبة في جنوبلبنان. لكن قد يكون لأوروبا أيضاً ما يقيد تحركها، وهو ما أشار اليه الرئيس عرفات لعدد منا في اجتماع في واشنطن، عندما قال ان اوروبا، مثل واشنطن، لا ترغب في الضغط على اسرائيل باستعمال العلاقات التجارية المزدهرة بين الطرفين. العراق جاءت الأزمة الأخيرة التي اثارتها بغداد لتشكل تحدياً خطيراً للمنطقة كما للغرب، وكأن ليس للاثنين ما يكفيهما من مأزق عملية السلام. لم يكن من المتوقع بالنسبة الى الأسرة الدولية ومصالحها المتباينة ان يستمر تحالفها الواسع الذي تشكل بعد غزو العراق الكويت، ويستمر معه التزام العقوبات الدولية، بعد مرور سبع سنوات على الحرب، ومن المفيد النظر الى أسباب ذلك. لم تتوقع الغالبية الساحقة من المراقبين في 1991 ان صدام حسين سيستمر في السلطة الى اليوم، وان يستمر نظامه في الطمع بالهيمنة على الخليج. ولا يشك الا القليلون في أنه سيعود الى التسلح متى ألغيت العقوبات، ان لم يكن عاد اليه فعلاً، والتعجيل في اعادة بناء قواته المسلحة وجهوده للحصول على أسلحة الدمار الشامل - أي الاسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية وانظمة صواريخ المدى الطويل اللازمة لإيصالها. واذا نجح في ذلك لا نحتاج الى الكثير من الخيال لكي نتصور تحشيداً عسكرياً عراقياً جديداً ضد الكويت، أو ما هو أسوأ: تهديد الجيران بالسلاح البيولوجي، الذي تكفي قنبلة منه لا يتجاوز حجمها البرتقالة لابادة مدينة خليجية. هذا هو السبب في اقتناع صانعي القرار الأميركي بأن السياسة الأفضل تجاه العراق، بل السياسة الآمنة الوحيدة، هي الاصرار على الانصياع العراقي التام لنظام التفتيش الدولي والتعاون الكامل مع "أونسكوم" والوكالة الدولية للطاقة النووية، بالسماح للخبراء بزيارة وتفتيش كل مرافق البلاد من دون سابق انذار. واذا اخذنا في الاعتبار سجل العراق في المماطلة والخداع، والسهولة النسبية لاعادة العمل ببرامج السلاح البيولوجي والكيماوي، فلا يكفي الحصول على نسبة تسعين في المئة من الانصياع، مثلما لا يمكن العفو عن سارق بنك لأنه لم يسرق سوى عشرة في المئة من موجودات ذلك البنك على حد تعبير بيل ريتشاردسون في كلمته الى مجلس الأمن.