ليس هناك بين الدول المتقاربة جغرافياً وحضارياً إلا القليل النادر الذي لديه من المخاوف والشكوك كما بين إيران ودول الخليج العربية، فعلى رغم أن إيران دولة قريبة جغرافياً من الخليج وعلى رغم أنها بلد مسلم تتخلل لغته القومية كلمات ومفردات عربية كثيرة، وعلى رغم أن اللهجة الخليجية المحلية من جانب آخر تتخللها أيضاً مفردات من اللغة الايرانية، وعلى رغم الهجرات البشرية التاريخية القديمة والحديثة والوشائج الأسرية القائمة بين التجمعات البشرية في الطرفين، إلا أن فهم كل منهما للآخر لا يزال فهماً سطحياً ومبتسراً، مردوماً بالكثير من الشكوك والأوهام. هذان الفهم المبتسر والشك المتبادل يتضحان في أكثر من مظهر ويتخلقان على أكثر من صورة. وفي الاسبوع الماضي زارت الكويت بعثة أكاديمية وعلمية إيرانية، وأظهرت المناقشات بين البعثة وبعض من التقوها كم ان الواقع والأولويات والآمال والمخاوف بعيدة عن الفهم الواقعي والصحيح بين الأطراف المختلفة الإيرانية والعربية. ولعل الظاهرة اللافتة للنظر أنه على رغم التقارب الجغرافي وحاجة أهل الخليج إلى عمالة يجهد في توفيرها من أماكن جغرافية بعيدة، فإن الايرانيين العاملين في الخليج عددهم أقل بكثير من المتوقع ومن أي من العاملين الأجانب من الجنسيات الأخرى، في الوقت الذي تتكاثر العمالة الأجنبية من القارة الهندية وما خلفها، وذلك على سبيل المثال والتدليل على الشك المتبادل بين الطرفين. وجاءت زيارة الرئيس الايراني السابق رئيس مجمع تشخيص النظام هاشمي رفسنجاني الى المملكة العربية السعودية في الأيام الأخيرة من الشهر الماضي استمرت حوالي عشرة أيام زار خلالها سبع مدن سعودية، ثم زار بعدها البحرين حيث استقبله على رأس الجسر الموصل بين البحرين والمملكة العربية السعودية الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين في سابقة ديبلوماسية غير مألوفة لشخصية ليست على رأس السلطة السياسية في بلدها لتسجل كأول زيارة لمسؤول ايراني رفيع المستوى الى السعودية والبحرين بعد الثورة الإيرانية سنة 1979. شهدت العلاقات الايرانية - السعودية أكثر من هزة، وتاريخياً كان أول من زار السعودية من الرسميين الايرانيين هو حبيب الله خان هويدا سنة 1926، وأول مرة انقطعت فيها العلاقات السعودية - الايرانية كانت سنة 1944 ثم عادت بعد فترة وجيزة، وعادت فانقطعت سنة 1988 أي بعد أربعة وأربعين عاماً بالتمام من الانقطاع الأول، ولكنها عادت من جديد سنة 1991، أما البحرين فإن المطالبات الايرانية السابقة بها لم تمهد لعلاقات طبيعية، وبعد الاستقلال وموافقة الشاه الراحل محمد رضا بهلوي على استفتاء شعبي لحفظ ماء الوجه باشراف الأممالمتحدة، أقرّ باستقلال البحرين التي شهدت دفئاً موقتاً في العلاقات مع ايران الى أن قامت الثورة الايرانية، فعادت الأمور الى التأزم من جديد وكانت قمتها التدخلات الايرانية المباشرة في شؤون البحرين الداخلية، ثم تبعها انقطاع للعلاقات الديبلوماسية لكنها عادت بتردد في السنة الأخيرة فقط. زيارة رفسنجاني الأخيرة لكل من السعودية والبحرين تنبئ ليس عن تحسن في العلاقات مع دول الخليج بل أيضاً عن تطور يلفت النظر. ولكن المؤسف ان الزيارتين المهمتين قد غطت عليهما الأزمة المتفاقمة والناشبة وقتها بين الأممالمتحدةوالعراق التي كادت توصل المنطقة الى حافة الحرب، وبقيت انجازات الزيارة واستنطاق نتائجها في الظل. لكن انحسار الأزمة بين العراقوالأممالمتحدة سحب معه الظل وأعاد المناخ الخليجي - الايراني الجديد الى منطقة الضوء خصوصاً مع اعلان الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي عن قرب زيارة سيقوم بها الى ايران بعد موسم الحج المقبل. كما صدرت أخيراً دعوة الرئيس الايراني محمد خاتمي لتشكيل لجان متخصصة في السياسة والاقتصاد والشؤون الفنية للبحث عن آليات مناسبة لتعزيز العلاقات الايرانية - الخليجية. وهذه الدعوة تأكيد اضافي للمناخ الايراني - الخليجي الجديد. الملفات العالقة بين ايران والخليج ليست ملفات هينة أو يمكن تجاوزها ببضع زيارات على أهميتها، ولكن صعوبة هذه الملفات العالقة لا تبرئ أي طرف من المحاولة الجادة لاختبار النيات والعمل المتسق لدرس القضايا العالقة ومن ثم تذليلها لمصلحة الطرفين، بعيداً عن التشنجات لتحقيق المصالح المشتركة. وفي تقديري أن هناك على الأقل خمسة ملفات ساخنة بين ايران ودول الخليج لا بد من الوصول الى فهم مشترك حولها. هذه الملفات هي على التوالي وليس بحسب الأهمية: الموقف من الجزر الإماراتية، الموقف من العراق، التسلح بأسلحة الدمار الشامل، الموقف من الوجود الأميركي في الخليج، تصدير الارهاب. كل ملف من هذه الملفات فيه أوراق كثيرة، قديمة وجديدة، وفي اطار الفهم الغامض لكل طرف لنيات الطرف الآخر. وفي ظل عدم الألفة لما يحدث على طرف الخليج الآخر تزداد هذه الملفات سخونة وغموضاً بمرور الوقت، وبعضها يتفجر بين حين وآخر ليسبب ما ألمحت إليه آنفاً، من شكوك متبادلة، إذ ان المهتمين في طرفي الخليج حتى الآن لم يحصلوا على معلومات مباشرة ودقيقة كل منهما عن الطرف الآخر، والمعلومات القليلة التي تصلهم هي عادة عن طريق طرف ثالث، وهو ليس بالضرورة محايداً. كما أن التراكم التاريخي - للإنصاف - لا يجعل من هذا الفهم المشترك ممكناً إلا بجهود حثيثة ومنظمة وهادفة من قبل الطرفين. ملف الجزر الإماراتية معقد يظهر على السطح كلما اجتمع المسؤولون في الخليج على صورة مطالبة ايران بأن تتخلى عن الجزر أو توافق على التحكيم الدولي، وتردّ ايران بالقول أن ملف الجزر هو ملف خلاف على الحدود، مثله مثل الخلافات الأخرى البينية بين دول الخليج، وترفض الاحتكام الى المؤسسات القضائية الدولية ربما خوفاً من جانب السلطة، أو "مؤسسة" الثورة الايرانية، من أن هذه المؤسسات القضائية الدولية هي "غربية" وبالتالي غير محايدة! وتدعو ايران دولة الإمارات الى المفاوضات المباشرة، ولكنها تقدم شروطاً مستحيلة لهذه المفاوضات. كما أن المفاوضات لو جرت فإنها ستجري بين طرفين أحدهما بلد قوي يحمل كل الأوراق بما فيها الوجود الفعلي على الأرض ومن دون رقيب محايد، ومن ثم ترى الإمارات أن لا فائدة من هذه الدعوات للمفاوضات لأنها تكرس أمراً واقعاً لا تقبله. ويبقى الأمر على حاله في هذا الملف الساخن الذي تكاد تتوحد حول مطالبه الدنيا جميع دول مجلس التعاون. الموقف من العراق أكثر غموضاً وتعقيداً، فإيران التي دخلت مع العراق حرباً ضروساً لمدة ثماني سنوات لا ترى، دون شك، في النظام العراقي القائم رديفاً لسياستها، ولا ترى في القائمين عليه أخلاق الملائكة، ولكن موقفها منه لا يخرج عن المصلحة الاستراتيجية الايرانية، ففي بقائه ضعيفاً متهاوياً ومهدداً من الداخل والخارج هو الوضع الأفضل لسياستها، وهو وضع يخدم المصالح بعيدة المدى للدولة الايرانية، لأنها ترى في أي نظام قادم قد يكون ديموقراطياً وتعددياً ومتصالحاً مع شعبه وجيرانه خطراً ما، فمثل هذا النظام سوف يحرم إيران من الانفراد السياسي في الخليج من جهة، وربما يتحول هذا النظام الجديد الى التصالح مع الولاياتالمتحدة التي ترى أنها ستتفرغ لها ان لم تجد هذا الشيطان أمامها. لذلك فإن أفضل وضع ترغب فيه ايران اقليمياً هو وضع العراق المكبل من الداخل والخارج، يخور كنمر لكنه نمر من ورق. وهناك شواهد عديدة تقود الى هذا التحليل، منها تشجيع ايران للعراق سابقاً على نقل طائراته الى ايران سنة 1990، وما نقله لنا وفيق السامرائي بعد ذلك من تشجيع ايران للعراق لخوض غمار تلك المغامرات للوقوف ضد "الشيطان الأكبر"، ثم ما عرف لاحقاً من أن الجهات الايرانية المختصة قدمت معلومات للجانب العراقي في وسط التسعينات، عن محاولة انقلاب اعتقدت ايران أن المتعاونين مع الولاياتالمتحدة من الأطراف العراقية هم الذين يريدون القيام بها. أما الشاهد الأخير فهو الكارثة البيئية التي حدثت على شواطئ الامارات العربية المتحدة في اخر شهر كانون الثاني يناير من هذا العام، عندما غرق زورق محمل بالمحروقات العراقية التي تُهرّب لمصلحة النظام العراقي وبأوراق عبور "مانيفستو" ايرانية رسمية، فقادت هذه الى فضيحة، بينما دافعها الأساسي هو الابقاء على الوضع القائم في العراق، وهو أمر وان كان يجوز من منظور المصالح الايرانية، فهو غير مقبول من الجانب العربي في الخليج، سواء الظاهر أو في العمق، لأن معناه إدامة مأساة الشعب العراقي ومعاناته، وتمكين النظام القائم من البطش به، وكذلك استمرار عدم الاستقرار في الاقليم الخليجي كله. الملف الآخر المقلق هو التسلح بأسلحة الدمار الشامل، وهناك تقارير غربية في الأساس - لأن الآخرين لا يملكون القدرة على المتابعة - تقول بأن ايران ليست جادة فقط بل عازمة على تسليح نفسها نووياً، وهو أمر لاحظته وخطأته القمم العربية في الخليج أكثر من مرة، وهو أمر يجعل من ايران أيضاً هدفاً محتملاً لحملات عديدة سياسية وإعلامية غربية وربما عسكرية تجعل من تقاربها مع الضفة الغربية في الخليج عملية صعبة، كما أنه تهديد في المدى الطويل لاستقرار المنطقة. الموقف من الوجود الأميركي والغربي في الخليج مختلف عليه، ينبع رفضه من الطرف الايراني من مخاوف ايران الثورة من هذا الوجود على بقائها، وهو خوف مرضي أكثر منه صحياً، وان ظهرت اشارات من الإدارة الجديدة في ايران تنبئ بأنها تتفهم أسباب هذا الوجود الموقت، وتقبل به وان على مضض، متفهمة المنطق الخليج بهذا الصدد والقائل بأن هذا الوجود هو أساساً بسبب الاضطراب الأمني الذي سببته في الأساس طموحات التوسع الايديولوجي من جهة أو طموحات التوسع الاقليمي من جهة أخرى من الجيران الأكبر في الاقليم. اما الملف الاخير، وهو ملف الارهاب، فقد انحسر جزئياً بعد الحادثة المسكوت عنها وأقصد بها حادثة الخبر التي راح ضحيتها تسعة عشر جندياً اميركياً كانوا في ضيافة المملكة العربية السعودية. وما لدينا حتى الآن من معلومات لا يزيد عن تقارير صحافية وأقوال منقولة تنسب الى طرف ايراني التخطيط والتحريض على الأقل. لكن الحكمة التي عالجت بها السلطات السعودية ذاك الأمر بدت كأنها قد أتت أكلها من الجانب الايراني، كما ان القيادة الايرانية الجديدة تبدو مصممة على لجم التطرف باتجاه الجيران، وان كان فعل الارهاب شيء من الماضي الآن الا ان هناك موضوعين عالقين حول الارهاب الأبعد في المنطقة، واحتمال تجدده نتيجة التفاعلات الداخلية الايرانية. لقد انطفأت النار ولا زال بعضها تحت الرماد. الا ان المخاوف والشكوك لا تقف فقط عند هذه الملفات الخمسة، بل تتعداها الى قضيتين بارزتين الأولى هما: نزعة التوسع الاقليمي الايراني التاريخية، التي سرعان ما تختفي حتى تبرز تحت غطاء "تحسين احوال الآخرين" على الطريقة البونابرتية في تصدير الثورة. والثانية هي الموقف الداخلي المتذبذب بين تيار الثورة المستمرة وتيار سيادة القانون. وهما قضيتان غير منفصلتين عن بعضهما بشكل ما، الا ان الغليان الداخلي والتشدد الايديولوجي قد يقود الى مغامرات خارجية يخشى الخليجيون انهم يمكن ان يكونوا الضحايا الأولى فيها. ولكن الملف الايراني الخليجي لا يحتمل التأخير وعلى الاطراف المختلفة ان تتابعه بحماسة، وقد قامت ايران كما نشر اخيراً باستحداث لجان مختلفة للمتابعة، ولم نسمع رداً جماعياً من مجلس التعاون بهذا الخصوص حتى الآن، وان كان صحيحاً ان الرئيس محمد خاتمي ستكون زيارته الأولى الى الدول العربية والخليجية خصوصاً، فذلك دليل على الأهمية التي تعطيها الادارة الخاتمية في ايران لتسوية بعض الملفات العالقة، ومن مصلحتنا خليجياً ان نفتح باب الحوار على مصراعيه تحت مظلة احترام المصالح المشروعة، فالوفاق الخليجي الايراني هو احد أهم عناصر نزع فتيل الصراع في المنطقة.