معلق صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية هاله مشهد التظاهرات الفلسطينية إبان الأزمة الأخيرة مع العراق، وما ابدته الجموع من تعاطف بالغ مع ذلك البلد، وهو تعاطف تعدى التضامن مع شعبه المنكوب بالحظر وآثاره المدمرة، وهو ما كان يمكنه ان يكون مفهوماً، ليشمل رئيسه صدام حسين. بل ان ما روّع المعلق الاسرائيلي أكثر، انهما هي تلك الصيحات التي ارتفعت، داعية حاكم بغداد الى اطلاق صواريخه الجرثومية والكيماوية على تل ابيب وأهلها. فقد رأى المعلق الاسرائيلي في ذلك أماني وتطلعات إبادة ترتعد لها الفرائص. وقال ان الاسرائيليين، ممن شاهدوا تلك التظاهرات على شاشات التلفزيون لن يغفروا لها أبداً، اذ هي تعيد الى الأذهان مخاوف ما بارحت ذاكرة اليهود منذ المحرقة، وهي تلقي ظلالاً على امكانات التعايش السلمي بين الشعبين، إضافة الى ان مثل تلك التظاهرات قد تساعد على اعادة انتخاب بنيامين نتانياهو رئيساً للحكومة. للمعلق الاسرائيلي بعض الحق في ما ذهب اليه، فبعض التجاوزات اللفظية هو مما لا يجب السكوت عنه ومما تتعين ادانته، ولكننا نعتقد بأنه قد حمّل تلك التظاهرات وما قيل خلالها من كلام مؤسف، من الدلالات اكثر مما تحتمل. فالأمر، على شناعته، لا يعدو ان يكون لغواً تفوهت به الجموع في ظروف احتقان وأزمة ناتجة عن تعثر عملية السلام، وفي كنف شعور بالغبن، ناجم عما يوصف بسياسة "الكيل بمكيالين"، تلك التي يتسم بها سلوك الولاياتالمتحدة المتساهل أشد التساهل مع اسرائيل، والمتصلب الى أقصى درجة تجاه العراق، وما الى ذلك من عوامل معلومة. الجموع، خصوصاً في حالات الأزمة، لاعقلانية دائماً، سواء كانت فلسطينية أم عربية... أم اسرائيلية، أم من أي جنس أو ثقافة تآتت، وبعض الاسرائيليين، وهم قطاع لا يستهان به، ما كان بسلوكه أفضل حالاً، ولا كانت هستيريته أقل شناعة، في بعض الحالات السابقة المعلومة، على ما تبدى مثلاً من ردود فعل مساندة بحماسة لباروخ غولدشتارين، مرتكب مجزرة الحرم الابراهيمي. ومثل تلك المواقف تنبو عن أوساط اسرائيلية ليست أقل فظاعة من نظيرة لها على الطرف الفلسطيني المقابل، فقط بدعوى ان في ذاكرة هذا الطرف تلك المحرقة التي ارتكبها النازيون في حقه، في حين لا تتوافر تلك الميزة لدى الطرف الآخر. يصعب اذن، الانطلاق من ردود الفعل الهوجاء التي شهدتها التظاهرات الفلسطينية الأخيرة المساندة للعراق، للاشتباه بوجود نية إبادة، كتلك التي كانت لدى النازيين، ركناً اساسياً من أركان ايديولوجيتهم، وهدفاً بُرمج ونفذ بعقل بارد، وعلى امتداد سنوات. أما القول بأن تلك التظاهرات وما قيل خلالها، يمكنه ان يساعد على اعادة انتخاب نتانياهو، كما سبق للعمليات العسكرية التي نفذها الاسلاميون قبل الاقتراع الاسرائيلي الأخير ان فعلت، فهو حجة وان امكن الاقرار بها وقبولها، فإنه بات يصعب الاكتفاء بها دون مساءلة اليسار الاسرائيلي، وقوى السلام في اسرائيل، في شأن ما فعلته حتى الآن في مواجهة نتانياهو، وعن دورها الذي يبدو الى العجز أقرب، وهي التي سبق لها ان حشدت عشرات آلاف المتظاهرين في مناسبات سابقة، لدى اجتياح لبنان، ولدى اغتيال رابين. ويمكن المرء ان يراهن بأن سلوك الرأي العام الفلسطيني، حتى في حالة كالأزمة الأخيرة، كان يمكنه ان يكون مختلفاً، لو وجد لدى قوى السلام الاسرائيلي ديناميكية أكبر وأكثر فعلاً. وهكذا، فإذا أمكن القول أن الأزمة الأخيرة مع العراق، وما أثارته من احتقان بالغ في المنطقة ستترك آثاراً بالغة على عملية السلام في الشرق الأوسط، وخصوصاً على شقها الفلسطيني - الاسرائيلي، فان تلك الآثار المحتملة لا تنحصر في ذلك المستوى الذي أشار اليه المعلق الاسرائيلي، او هي قد لا تطاله الا قليلاً، بل هي ربما تعلقت بمسألة اخرى اهم، هي الموقع الذي اصبح للولايات المتحدة، في المنطقة وفي العالم، في اعقاب الازمة الاخيرة، وما يمكن ان ينجم عن ذلك من انعكاسات وتداعيات على سياستها الشرق اوسطية. ولو اردنا اختصار الموقف بالنسبة للولايات المتحدة، كمحصلة للأزمة الاخيرة، لقلنا ان واشنطن قد حققت انتصاراً لا لبس فيه في مواجهة العراق، ولكنها سجلت تراجعاً، ربما كان غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة، في مواجهة العالم. اما بالنسبة للشق الأول من هذه المعادلة، فإنه لا يسع المرء الا ان يلاحظ انه وإن اتخذ حل الازمة ذلك الشكل الديبلوماسي الذي كانت واشنطن تبدو غير راغبة فيه، فان ما لا شك فيه ان محتوى الاتفاق الذي وقعه الحكم العراقي مع كوفي انان قد جاء متضمناً للمطالب الاميركية، كاملة دون نقصان، سواء في ما يتعلق بالمواقع الرئاسية، التي باتت مفتوحة دون تحديد، زمني او جغرافي في وجه المفتشين الدوليين لقاء تنازلات شكلية، او في ما يتعلق بالحظر ورفع العقوبات، اللذين لم يأت في نص الاتفاق اي تعهد مبدئي، او زمني، بشأنهما، بل ان الولاياتالمتحدة زادت من حضورها العسكري على حدود العراق، وقررت ان تبقيه في حجمه الراهن، مما سيجعل قواتها قادرة على الاضطلاع بدور الرقيب على تنفيذ الاتفاق المذكور، وتوجيه الضربات متى عنّ لها ذلك، حتى دونما حاجة الى تفويض دولي، ما دام ذلك الدور لا يضبطه ضابط قانوني، سوى ما قد تراه واشنطن من تأويلات للقرارات الدولية السابقة، وما دام الاتفاق المذكور بين العراق والأمم المتحدة قد اغفل امر تلك القوات. وأما بالنسبة للشق الدولي من المعادلة، فان ما لا شك فيه ان الولاياتالمتحدة، وسياستها وأسلوبها في قيادة دفة العالم، قد منيت بانتكاسة كبيرة. ذلك انه اذا ما كانت واشنطن قد توصلت الى تحقيق اهدافها، فإن ذلك لا يُنقص في شيء من اهمية جانب اساسي هو ذلك المتمثل في انها خاضت الازمة الاخيرة منفردة، او شبه منفردة، وانها بقيت كذلك حتى نهايتها، عاجزة عن حشد التأييد الدولي الى جانبها، الامر الذي يبدو انه قد فعل فعله لدى السماح بمهمة كوفي انان، التي كانت الولاياتالمتحدة تعترض عليها في البداية، من حيث المبدأ، ثم اضطرت الى القبول بها نزولاً عند ضغوطات دولية واسعة فرنسية وروسية وعربية وسواها، ناهيك عما ابدته بعض الاوساط الاميركية من تململ. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد منيت بانتكاسة دولية كهذه، في شأن موضوع كالموضوع العراقي يفترض انه محل اجماع دولي لا يرقى اليه الشك، وفي شأن رئيس كالرئيس العراقي، تعرض لعملية ابلسة كما لم يحدث ربما لقائد في التاريخ الحديث منذ ادولف هتلر، فإن في الامر ما يجب ان يستوقف ويدعو الى التفكير. أية انعكاسات يمكنها ان تنجر، بالنظر الى هذا المستجد على موقع اميركا في العالم، تجاه سياستها الشرق اوسطية، وحيال عملية السلام؟ لا شك في ان الاجابة عن هذا السؤال تتطلب الكثير من التأمّل، ومعرفة أية دروس استخلصتها الادارة الاميركية من ازمتها الاخيرة مع العراق، لكن ما امكننا قوله منذ الآن ربما ان الامر ينفتح على احتمالين اثنين، قد يكونان، على الأقل في الوقت الراهن، متساويي الحظوظ. اما الاحتمال الأول، فهو ان تستخلص الولاياتالمتحدة انه ما من حليف ثابت موثوق لها في المنطقة غير اسرائيل، فتزداد التصاقاً بها ومناصرة لها، ناسفة بذلك آخر الاوهام حول دورها كراع لعملية السلام. اما الاحتمال الثاني فهو ان تعي عزلتها في المنطقة والعالم، فتعمل على استعادة حظوتها وذلك من خلال تقديم عدد من التنازلات التي يمكنها ان ترضي الاغلبية وتحظى بقبولها، اي بواسطة لجم التعنت الاسرائيلي، ودفع نتانياهو الى احترام التعهدات التي التزمت بها دولة بلاده. والديبلوماسية، او الديبلوماسيات، العربية إن هي احسنت بدورها استخلاص دروس الازمة العراقية على هذا الصعيد، يمكنها ان تساهم، ولو قليلاً، بترجيح هذا الاحتمال او ذاك.