قبل وصول الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان الى بغداد بعشرة أيام، شنت ضده صحيفة "بابل" التي يشرف عدي صدام حسين على سياستها، حملة قوية اتهمته فيها بتنفيذ اوامر اميركا. واعتبرت الصحيفة ان انان يفضل الاذعان للضغوط الاميركية لكي يبقى في منصبه، الأمر الذي جرده من صفة الحياد ومن الشعور بالمسؤولية تجاه الأمن والسلم الدوليين. وكتبت صحيفة "الجمهورية" الحكومية ان أنان يقف من الازمة موقف المتفرج، بدليل انه لم يقدم أي اقتراح يشير الى انه داعية سلام، وان الحلول الديبلوماسية بالنسبة اليه تتقدم الحلول العسكرية. وقرأت واشنطن في الموقف العراقي المعلن استعداداً للتجاوب مع شروط عملية التفتيش الدولي عن الاسلحة، وقبولاً بحل الازمة بالطرق السلمية. ولما اتصل كوفي انان بنائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز اكتشف ان عناصر التوصل الى اتفاق اصبحت متوافرة، خصوصاً عندما ابلغه موافقة الرئيس صدام حسين على تقديم تعهد خطي بالسماح لفرق التفتيش بدخول اي موقع تشاء من دون تحديد مهلة زمنية للعمليات التي استثنت سابقاً ثمانية قصور. وبما ان هذه الشروط كانت تمثل الذرائع المباشرة لتبرير العملية العسكرية وتطمين اسرائيل، فإن القبول الاميركي بتجنب الضربة كان يستند الى معطيات اخرى لا دخل للعراق بها، وهي معطيات دولية وإقليمية اظهرت بوضوح ان الرأي العام العربي كان مؤيداً ومتحالفاً اثناء عملية تحرير الكويت عام 1991، ولكنه في هذه الازمة راح يشكك بأهداف الولايات المتحدة ويتهمها بالانحياز والتواطؤ مع اسرائيل. كما يتهمها بالسكوت عن تجاهل نتانياهو لجميع القرارات والاتفاقات، بدءاً بالقرارات 242 و338 و425... وانتهاء بمدريد وأوسلو. وعندما زار وزير الدفاع الاميركي كوهين المنطقة ردد المسؤولون العرب أمامه انتقادهم لنظام صدام حسين، ولكنهم في الوقت ذاته استنكروا سياسة التغاضي التي تتعامل بها واشنطن مع مقررات مجلس الأمن، ان كان بالنسبة للاستيطان ومصادرة الأراضي... ام بالنسبة لالغاء الرقابة على قدرات اسرائيل النووية. وفوجئت الادارة الاميركية بأن ادانات المسؤولين تحولت الى تظاهرات غضب في الشارع العربي، وعلى وجه الخصوص في شوارع الدول التي وقعت اتفاقات سلام مع اسرائيل مثل مصر والضفة الغربية والأردن. وتدخلت فرنسا لتحذر واشنطن ولندن من مغبة التورط في معركة عسكرية ضد العراق قد تفسد نتائجها السلبية مناخ الثقة، وتعطل جدوى الاتفاقات المعقودة بين اسرائيل من جهة... وبين القاهرة والسلطة الفلسطينية وعمان من جهة اخرى. ولاحظ المعلقون ان المتظاهرين في الضفة الغربية لم يراعوا تعليمات قيادة الشرطة الفلسطينية التي تحظر شعارات العنف وحرق الاعلام. وقادت جماعات "فتح" اغلب التظاهرات في غزة تتقدمها يافطات التنديد بسياسة اميركا. ورأت صحيفة "هآرتس" في هذه الظاهرة تماثلاً بين الشعبين العراقي والفلسطيني اللذين يتصوران انهما ضحيتا سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. ولقد عزز الشعور بهذا التماثل تصريح الشيخ احمد ياسين الذي طالب "حماس" بالانتقام من اسرائيل اذا هاجمت الطائرات الاميركية العراق. وقال في تفسير هذا الترابط: "ان اميركا هي اسرائيل... واسرائيل هي اميركا". التظاهرات في بلدة "معان" الأردنية كان لها معنى آخر. ولقد ترجمها بعض المعلقين بأنها فاتورة استحقاق شجع على دفعها المهندس ليث شبيلات الذي استثناه صدام حسين في التعامل الخاص، وسلمه السجناء الأردنيين لكي يدعم بهم شعبيته. ومع ان الجانب الاكبر من تعاطف الشارع الأردني مع الشعب العراقي يعود في دوافعه العميقة الى اسباب اقتصادية... الا ان محاولة اغتيال مشعل تركت لدى الرأي العام شعوراً بالغضب والنفور من استغلال اسرائيل لاتفاق السلام. الرئيس المصري حسني مبارك قدم خلال حديثه مع شبكة تلفزيون "سي. ان. ان" صوراً مختلفة حول ازدواجية المعايير الاميركية، وحذر من وقوع كارثة في المنطقة اذا تخلت الولايات المتحدة عن الخيار الديبلوماسي. ولوحظ ان زعيم الائتلاف العربي ضد صدام حسين عام 1990، انتقد الهجمة الاميركية عام 1998 واعتبرها تهديداً اقليمياً يمكن ان يدمر ظروف السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ولقد شاركته تركيا في هذا التصور لقناعتها بأن الضربة العسكرية ستشل سيطرة العراق على اطراف الدولة، وتسمح للأكراد بإعلان دولتهم المستقلة في الجزء الشمالي من البلاد. وبما ان أنقرة تعارض هذا المشروع منذ عام 1922 فقد عبّرت عن مخاوفها برفض طلب اميركي استخدام قاعدة "انجيرليك" لضرب اهداف عراقية. وعندما تبجح السفير الاميركي لدى الأممالمتحدة بأن هناك اكثر من 24 دولة في الشرق الأوسط تؤيد الضربة العسكرية، ذكّره طارق عزيز بالدول المعارضة مثل إيران وتركيا ومصر والأردن وسورية ولبنان وقطر والبحرين والامارات وسلطنة عمان والسعودية. وكرر أمام مستمعي محطة الاذاعة البريطانية بأن العراق لا يشكل خطراً على هذه الدول بدليل انها تعارض الضربة التي اشتركت في تنفيذها عام 1991. وكان بهذا الايضاح يحاول اعطاء الانطباع بأن الضربة المتوقعة ستنفذ تطميناً لاسرائيل وليس اكراماً لدول عربية مجاورة للعراق. ويبدو ان الموقف السعودي الذي عبّر عنه مجلس الوزراء برئاسة الملك فهد بن عبدالعزيز، وكرره ولي العهد الأمير عبدالله، والنائب الثاني وزير الدفاع والطيران الأمير سلطان، كان له أبلغ الاثر على القرار الاميركي. وهو الموقف الرافض استخدام ارض المملكة لأي عمل عسكري ضد شعب العراق، مع الحرص على ضرورة انهاء الازمة بالوسائل الديبلوماسية المشروطة بامتثال صدام حسين لقرارات مجلس الأمن. ومن المؤكد ان تصريح وزير خارجية ايران وشجبه للسياسة الاميركية نحو دولة خاض معها اشرس الحروب، احدث خرقاً في الانسجام الذي اعتادت عليه واشنطن طوال السنوات السبع الماضية. وربما خشيت واشنطن ان تقود سياستها المنحازة الى اعطاء ايران فرصة اكبر للافلات من خطة الاحتواء المزدوج بحيث تصبح اكثر انسجاماً وأعمق تنسيقاً مع دول المنطقة. ولم تكن الزيارة التي قام بها للسعودية رئيس ايران السابق هاشمي رفسنجاني، سوى المدخل لمزيد من العلاقات السياسية - الاقتصادية التي افرزها نجاح المؤتمر الاسلامي في طهران. اضافة الى هذه المعطيات وما احدثته مواقف دولية مهمة عبرت عنها روسياوفرنسا والصين، فإن الاستنكار الشعبي داخل الولايات المتحدة ساعد على اعادة تقويم القرار العسكري. ولقد واجهت مادلين اولبرايت ورفيقاها في ندوة "اوهايو" احراجاً سافراً عندما سئلت عن ازدواجية معايير السياسة الاميركية... وعن الهدف من ضرب الشعب العراقي مع الابقاء على صدام حسين. ومن المؤكد ان الرئيس كلينتون كان يدرك معنى "اللازمة" التي رددها الطلاب في مواجهة مسوقي قراره: ONE, TWO, THREE, FOUR WE DON'T WANT A RACIST WAR ومعنى الحرب العنصرية في رأي الطلاب، يتمثل في تجمع الانكلو - ساكسون او دول اللغة الانكليزية فقط اميركا، بريطانيا، كندا، استراليا، نيوزيلاندا. هذه الدول وحدها شجعت على الحرب، وأيدت الضربة الاميركية على رغم معارضة الدول الحليفة الاخرى. وبناء على هذا التحول تردد الكونغرس في منح الرئيس تفويضاً أعمى لتسديد الضربة العسكرية، وطالب بضرورة اظهار الهدف على نحو شبيه بهدف تحرير الكويت عام 1991. وتساءل احد الشيوخ عن المعاني الغامضة التي حملها تصريح وزير الدفاع كوهين، وقوله بأن الضربة الاستباقية لا ترمي الى اسقاط صدام حسين. وعلق بلهجة ساخرة ان الضربة قد تسقط مشروع السلام برمته اذا جاء هذا العمل مخالفاً لإرادة حكام المنطقة ولشعوبها... جميع هذه الاسباب الاقليمية والدولية دفعت الرئيس كلينتون الى اعادة النظر بقراره العسكري، والى القبول بمنح امين عام الأممالمتحدة دوراً ديبلوماسياً كانت اولبرايت قد سرقته من سلفه بطرس غالي، أي دور زعامة العالم من خلال الهيمنة على قرارات المنظمة الدولية، وإخضاعها لسياسة الامبراطورية الاميركية. وفي تقدير المراقبين ان نجاح مهمة كوفي انان انقذت السياسة الاميركية من ارتكاب خطأ كان من المتوقع ان يدمر مشروع سلام الشرق الأوسط. والسبب ان الضربة التي قررت تسديدها نحو العراق لم تكن بدافع الحفاظ على سلامة الدول العربية المجاورة... بل على سلامة اسرائيل وأمنها القومي. والمعروف ان مبررات إبعاد بطرس غالي، كما فسرتها الوزيرة اولبرايت ورئيس اللجنة الخارجية في الكونغرس جيسي هيلمز، كانت تتمثل في اهمية فصل دور الأممالمتحدة عن النزاع العربي - الاسرائيلي. وهكذا استغلت اسرائيل غياب المنظمة الدولية لكي تمنع تنفيذ القرارات السابقة المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وأخطر ما احدثته مهمة انان في بغداد انها حركت من جديد دور الأممالمتحدة، وأعطتها سلطة الشرعية والتحكيم الدولي في مسألة كانت تعتبرها اميركا حكراً على نفوذها. ومعنى هذا ان مطالبة اسرائيل باحترام القرارات الدولية ستزداد بعد خضوع العراق لتنفيذها. ومن المتوقع ان يزداد بالمقابل ضغط فضيحة مونيكا لوينسكي على الرئيس كلينتون خشية مطالبته نتانياهو بقبول معيار الشرعية الدولية. يجمع الديبلوماسيون في الأممالمتحدة على القول بأن الازمة الاخيرة ابرزت مواهب كوفي أنان، وأظهرته بمظهر مختلف عن الدور الذي حددته له واشنطن مقابل الوفاء بدفع الاقساط المترتبة عليها. أي انه تجاوز السقوط في المطب الذي نصبه صدام حسين لسلفه خافيير بيريز ديكويار يوم استبقاه سبع ساعات، ثم ارسله خالي الوفاض الى نيويورك خلال ازمة 1991. وفي ازمة مشابهة سقط بطرس غالي عام 1995 وسط مستنقعات الصومال والبوسنة. ولكي يتحاشى أنان مصير نظيريه رفض زيارة بغداد قبل ان يتأكد من موافقة صدام حسين على شروط دول مجلس الأمن والرئيس كلينتون. وربما سلحته خلفيته العائلية كنجل لأحد زعماء قبائل غانا، بصفات الحصافة والرزانة والحذر. ويتذكر الذين رافقوا المرحوم الشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية، الى غانا، ان زعيم احدى القبائل قدم له بيضة كبيرة مصنوعة من العاج. وأخبره ان البيضة في غانا ترمز الى أهمية اتباع الحذر والاحتراس في التعامل مع الآخرين. فإن أنت ضغطتها انكسرت... وإن أنت امسكتها بإهمال سقطت. لذلك نصح المفتي خالد بأن يتعامل دائماً مع الازمات بطريقة مرنة، هادئة، لا تسمح بالانكسار او السقوط. وعملاً بهذه القاعدة اعاد كوفي انان للأمم المتحدة دوراً كانت اميركا قد سرقته منها في مطلع ولايته. ويتساءل معاونوه ما اذا كانت اميركا ستسمح له بإعادة الاعتبار للمنظمة الدولية، خصوصاً اذا تجرأ على مطالبة نتانياهو بتنفيذ ما طلبه من صدام حسين!