لماذا تستغوينا هذه "المحجة"؟ كلما طرأ طارئ وكلما حدث حادث، صرخنا من مقعدنا: "مؤامرة". وكلما قررناها مؤامرة، علمنا علم اليقين الذي لا يدخله شك أو شبهة ان الجناة هم "اليهود". مادلين أولبرايت يهودية الأصل. ومونيكا لوينسكي يهودية، والعديد من مساعدي الرئيس كلينتون وأصدقائه ومستشاريه من اليهود، أفهكذا يكتمل حبك خيوط العنكبوت في نظرنا القاصر، ونطمئن إلى صواب تحليلنا المتخبط؟ متى كانت "يهودية" المرء إدانة له؟ وإذا كانت كذلك، فما الذي يعفي "مسيحية" المرء أو "شيعيته" أو "سنيته" أو "علمانيته" وغيرها من الانتماءات من أن تكون موضع تشكيك وتخوين وإدانة؟ أوليس هذا المنطق الذي يرى في "اليهود" عنصراً شاذاً يسعى إلى الفساد، المبرر الموضوعي للعصبية اليهودية التي ما فتئنا نبدي الاستياء ازاءها، بل للعنصرية الصهيونية التي يدفع أهلنا في فلسطين ولبنان ثمن ممارساتها؟ أمر واقع لا بد لنا ان نستفيق له. اليهودية ليست حالاً طارئة على المجتمع الأميركي، بل هي من صلبه وصميمه، شئنا أم أبينا. والأميركيون اليهود، شأنهم شأن سائر المواطنين في الولاياتالمتحدة، ذوو ولاءات وأهواء مختلفة. نعم، التعاطف مع إسرائيل وتأييدها، بل والسخاء في التبرع لها، والعمل على نصرة مصالحها، هو من أبرز سمات المؤسسات المجتمعية والطائفية اليهودية في الولاياتالمتحدة. نعم، العديد من اليهود الأميركيين يدخلون المعترك السياسي على المستويات المحلية والاتحادية تحقيقاً لرغبتهم بمساندة إسرائيل والسهر على أمنها. ولكن، أن نستنتج من هذا الواقع ان كل يهودي هو جندي لإسرائيل هو من الغلو والاجحاف، بل العكس هو الصحيح أحياناً. فمادلين أولبرايت، منذ توليها منصبها كوزيرة للخارجية، تدرجت في مواقفها من التأييد الصارم لإسرائيل إلى عتدال نسبي شهدته القيادات الفلسطينية. وقد يكون المثال الاسطع هو مارتن إنديك. فإنديك يهودي صهيوني استرالي جاء إلى العاصمة الأميركية واشنطن لنصرة قضية إسرائيل. ولم يحصل على الجنسية الأميركية إلا عشية تعيينه سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل. وأثار ذلك بالطبع حذر العديد ومخاوفهم. إذ كيف يمكن ضمان حياد الولاياتالمتحدة في موضوع عملية السلام، في حين ان ممثلها لدى إسرائيل يصح الطعن بولائه لها. وفي حين ان إنديك لم يفاجئ أحداً بتعاطف غير متوقع مع القضية الفلسطينية، إلا أنه اصطدم أكثر من مرة مع المسؤولين الإسرائيليين في مواقف تكشف اخلاصه لموقعه كسفير للولايات المتحدة. أما كلينتون الذي تناقلت صحفنا أخبار همسه لياسر عرفات قبيل إعادة انتخابه ما مفاده أنه يعتزم الضغط على نتانياهو بعد انقضاء الاستحقاق الرئاسي، فقد مرّ عام كامل ولم يظهر منه أي موقف حازم في هذا الصدد. وقبل ان يسارع طرح "المؤامرة" إلى الاشارة إلى أن ذلك عائد إلى أن كيلنتون مكبّل يهودياً، نذكّر أن هذا الرئيس الساعي إلى ارضاء الجميع قلما اتخذ المواقف الحازمة. فلا مبرر للافتراض أنه لو أرخت الكماشة اليهودية الوهمية قبضتها عنه، لكان رفع شعار نصرة القضية الفلسطينية المحقة. فالواقع أنه لا كماشة ولا تكبيل، بل مجموعات ضاغطة، يسعى كل منها إلى تحقيق مصالحه، فيتحقق ذلك حيناً ولا يتحقق أحياناً. إلا أن ثمة امراً واقعاً آخر لا بد من الاقرار به: الولاياتالمتحدة حكومة وشعباً ليست على الحياد في موضوع النزاع العربي - الاسرائيلي. والتأييد لاسرائيل فيها لا يقتصر على اليهود الاميركيين، بل لا يشكل اليهود الاميركيون اعظم مقوماته. فالاكثرية الساحقة من الشعب الاميركي تتعاطف مع اسرائيل، سواء من اعتبارات اخلاقية انسانية، حيث ان اسرائيل في التصور السائد مجتمع ديموقراطي يعمل على ضمان بقائه على قيد الحياة في منطقة تطفح بالعنف والتشدد والاستبداد، او من منطلقات دينية ترى في فلسطين ارض الميعاد التي منحها الربّ لليهود. ومن حقنا ان نختلف مع هذا التصور الحافل بالمغالطات على اكثر من صعيد. ولكن علينا ان ندرك ان مقومات هذا التصور سابقة لاسرائيل، وسابقة للصهيونية، فلا يسعنا بالتالي اعتبارها نتيجة مؤامرة للسيطرة على "العقل" الاميركي، اما ان ينشط المؤيدون لاسرائيل في تعزيز هذا التصور وتوطيده، فمن الطبيعي والبديهي. والواقع ان السؤال الذي يتوجب طرحه هو هل اننا نبذل الجهود بالشكال الملائم والقدر المطلوب للعمل على تصحيح هذا التصور؟ هذا التصور يمنح اسرائيل، والجماعات المؤيدة لها، تأييداً واسع النطاق في المجتمع الاميركي، يعفيها من ضرورة تطبيق "المؤامرة" المستحيلة التي نصرّ على تشخيصها مبرراً لتخلّف الولاياتالمتحدة، رسمياً واهلياً، عن المسارعة الى تأييدنا. والجالية اليهودية حققت نجاحاً ملحوظاً على مختلف الاصعدة في الولاياتالمتحدة. لذلك، فإن الانتماء الى اليهودية في اوساط النخب الاميركية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على حدّ سواء، يكاد ان يقارب النصف في بعض الاحيان، فيما لا تزيد نسبة اليهود السكانية في البلاد عن 2.5 في المئة. فبروز اميركيين من اليهود، سياسياً او اعلامياً، كأن تكون مونيكا لوينسكي يهودية مثلاً، امر يعكس واقعاً اجتماعياً وحسب، لا مؤامرة خطيرة تخفى على العالم ولا تخفى علينا وما الذي كان يمنع جهابذة هذه المؤامرة اليهودية المزعومة من تجنيد فتاة ساذجة غير يهودية لخداع الرئيس وتوريطه بدلاً من الفتاة الساذجة اليهودية التي ورطته وتورطت؟. ثمة سؤال هنا يستحق ان يُطرح، من باب الاهتمام بالتطور الاجتماعي في الولاياتالمتحدة وغيرها، لا من زاوية اصطياد المؤمرات: كيف حققت الجالية اليهودية الاميركية هذا النجاح؟ وكيف يمكن الاستفادة من التجربة. يبقى ان الحديث عن المؤامرة يطمس في ضوضائه التنقيب عن الخطط والمكائد التي لا تخلو منها الحياة السياسية، لا في الولاياتالمتحدة ولا في غيرها. اذ لا شك ان المعترك السياسي الاميركي يطفح بها. ولا شك انه للمجموعات المؤيدة لاسرائيل حصة منها. انما من المؤسف انه كلما لاح اسم يهودي او وجه يهودي ان نخرج بالتلميحات والتصريحات عن تورط يهودي جماعي لمصلحة اسرائيل، مستعينين ضمناً بخزانة فكرية حافلة بالمغالطات ورثنا معظمها عن الغرب في عدائه التاريخي لليهود، من "فطير صهيون" الى "البروتوكولات"، الى رسوم نمطية كاريكاتورية لليهود بملامح هي اشبه بملامحنا. والحق ان تورط فرد يهودي في عمل تآمري لمصلحة اسرائيل جائز، وسبق ان حدث فعلياً، انما، الانصاف يقتضي ان تكون "البينة على من ادعى". اما ان تقتصر التهمة على "يهودية" المرء فتعسف وحسب. وعلى الرغم من وفرة المقالات والتعليقات في الصحافة العربية التي تربط بين "اليهودية" ومونيكا لوينسكي واعتزام بيل كلينتون المفترض في غد عتيد الضغط على نتانياهو لانسحاب آخر من الضفة، فإن آخر فضائح كلينتون لا علاقة لها باليهود ولا باسرائيل. ومن بحوزته ما يكشف خلاف ذلك، فيما يتعدى الاشارات والايماءات، فما عليه، الا ان يطرحه للملأ. اما المجموعات المؤيدة لاسرائيل، فستسعى من دون شك الى تقويم الوضع الناتج عن هذه الفضيحة لتحقيق الوضع السياسي الامثل الذي تتوخاه. وهي ان تخلفت عن هذا المسعى تكون تخلّفت عن اداء واجبها. فالأنسب توجيه الاهتمام نحو: هل ان المجموعات المؤيدة للحق العربي في الولاياتالمتحدة مؤهلة بدورها ان تقوم بواجبها؟