تبعث الانباء من الجزائر عن استمرار المجازر وسفك الدماء اسى عميقاً في نفوسنا جميعاً بعدما كنا نأمل ان تشهد سنة 1998 عودة الى الاستقرار الداخلي والنمو لهذه الدولة المبتلاة بالاضطراب. فنحن نرى بدل ذلك استمرار النزاع والفوضى، خصوصاً في الاراضي الزراعية الخصبة في سهل متيجا، فيما تجد الحكومة نفسها في موقف دفاعي في مواجهة زمر "الجماعة الاسلامية المسلحة" وصيحات الاحتجاج القوية على الصعيد العالمي تعبيراً عن القلق ازاء الحصيلة المروعة من الضحايا الابرياء. ماذا ينبغي القيام به لوضع الامور على مسار اكثر ايجابية؟ جوهر المواجهة في الخمسينات خاض جيل من الرجال والنساء الجزائريات حرباً طاحنة ودموية من اجل الاستقلال، ثم توجه الى بناء دولة تحت شعار "التضحية من اجل الثورة". واصبح هذا هو الميثاق الاجتماعي بين الشعب وحكومته، لكنه لم يصمد اكثر من السنوات الاولى من وجود الدولة الجديدة. وظهر في التسعينات جيل جديد، نشأ بعد الثورة وعاش معظم حياته في ظروف الفقر في مدن وبلدات وقرى بائسة ومكتظة بالسكان من دون مياه او مساكن او خدمات حكومية كافية. وبالنسبة الى الكثير منهم لم تعد "التضحية من اجل الثورة" شعاراً تعبوياً، بل مجرد كلمات فارغة ليس لها اي معنى في حياتهم اليومية. ومع امتلاك ثقافة محدودة، وانعدام الامل في العثور على وظيفة او مكان للعيش، وبالتالي عدم وجود اي امكان حقيقي للزواج والتمتع بحياة كريمة، سُلبت كرامتهم واصبحوا لا يملكون اي حصة في المجتمع المحيط بهم. في مثل هذه الظروف يوفر الدين افضل ملاذ يلجأون اليه، طلباً للإنشغال اولاً ثم، بالنسبة الى البعض، كبديل لليأس الذي يجدون انفسهم فيه. ويندفع قسم من الاشخاص الذين يتجهون الى الاسلام ليتقدموا خطوة اخرى نحو العمل السياسي باسم الاسلام، ويخطو بعض هؤلاء خطوة اضافية نحو العنف والتطرف. وتفاقم هذا الوضع في 1992 عندما تدخل الجيش ليلغي الانتخابات التشريعية التي بدا ان جبهة الانقاذ الاسلامية كانت مرشحة للفوز فيها. وبعد ذلك بوقت قصير جُرّدت جبهة الانقاذ من شرعيتها، وخلال السنوات التالية اكتسبت هذه الجبهة، التي كانت حتى ذلك الحين حركة سياسية فريدة من نوعها، بشكل تدريجي طابعاً راديكالياً. ويمتد الوسط الاسلامي في المجتمع الجزائري حالياً ليغطي طيفاً كاملاً من الاحزاب والجماعات التي تنبذ العنف وتشارك في العملية السياسية الى العناصر المتمردة كلياً، مثل ما يُعرف ب "الجماعة الاسلامية المسلحة" وجماعات منشقة تحت قيادة "امراء" يقومون بتخطيط وتنفيذ اعمال ارهابية متعمدة. وتقع جبهة الانقاذ الاسلامية في مكان ما بين هذين القطبين، متأرجحة بين الاعتدال النسبي لعباس مدني واللغة المتطرفة لعلي بلحاج. وقد فقدت جاذبيتها السابقة، كما يبدو انها تخسر التأييد الشعبي مع افتقارها الى مكانة قانونية او صوت موحّد. في اعقاب الحرب العالمية الثانية شاطرت الولاياتالمتحدة الشعب الجزائري رغبته في ان يتخلص من اغلال 132 سنة من الاستعمار. وعبّرت عن تأييدها لاستقلال الجزائر قبل وقت طويل من تحقيقه، وكلف الاستقلال ثمناً كبيراً وعلاقات متوترة مع القوة المستعمِرة في ذلك الوقت. وكانت التضحيات التي قدمها الجزائريون صغاراً وكباراً لانتزاع الاستقلال وبناء دولة موضع تفهم واعجاب لدى الشعب الاميركي. واصبحت كلمة التأييد المؤثرة التي القاها جون كنيدي في مجلس الشيوخ، وكان انذاك عضواً في هذا المجلس، حجر الاساس للعلاقات المبكرة بين الدولتين. وتقدمت المؤسسات الاميركية، في القطاعين الخاص والعام، للمشاركة في عملية التنمية في الجزائر. وساعدت على انشاء "سوناتراك" كمؤسسة تابعة للدولة تتمتع باستقلال ذاتي. وقدمت، بالاضافة الى غيرها، في مرحلة مبكرة الكثير من الخبرات والتمويل ونقل التكنولوجيا لتطوير الصناعة النفطية، بما في ذلك التصدير والانتاج، والبنية التحتية ومنشآت التصدير على السواء. وكان يمكن لمن يزور منطقتي ارزيو أو سكيكدا في تلك الايام ان يسمع اللهجات القوية لولايتي تكساس ولويزيانا فيما كانت المشاريع الضخمة لانتاج الغاز الطبيعي السائل ومنشآت المرافىء تظهر الى الوجود. ولم يقتصر هذا التعاون على القطاع النفطي، إذ كانت الولاياتالمتحدة سخية في المساعدة على سد النقص في حاجة الجزائر الى المنتجات الزراعية بتقديم القروض والشحنات العاجلة عندما يتأثر الانتاج المحلي بالجفاف او الفيضانات. وعلى رغم ان طلبة كثيرين تلقوا التعليم في مؤسسات تعليمية ومعاهد علمية اميركية فإن البعد واللغة والتوجه الاشتراكي للجزائر بقيت عقبات تعترض تطوير العلاقات والروابط الثقافية. ولا يتابع الاميركيون بشكل عام التطورات في الجزائر عن كثب. وبالمقارنة فإن مصالح فرنسا وجنوب اوروبا اكبر واكثر مباشرة بحكم وجود جاليات كبيرة الحجم من المهاجرين والعمال الجزائريين هناك، والعلاقات التجارية وكونها سوقاً للغاز الجزائري، وقربها من الجزائر على الجانب الآخر من البحر الابيض المتوسط. وتدرك الولاياتالمتحدة هذا الاختلاف. وكان احد المخاوف القديمة الاخرى لدى اميركا يتعلق باحتمال انتشار التطرف والعنف الاسلامي من الجزائر الى دول مجاورة، لتخلق بذلك شبح قوس من عدم الاستقرار على الشاطىء الجنوبي للبحر المتوسط. وتراجعت هذه المخاوف في الوقت الحاضر في جوانب عدة. فقد ازال انهيار الاتحاد السوفياتي احتمال ان تُستغل حال عدم الاستقرار في شمال افريقيا لاحراز تفوق استراتيجي من جانب قوة عظمى منافسة. وفي تونس، وضع الرئىس بن علي الامن القومي ضمن اولويات العقد الاول من عهده ونجح في تحصين البلاد ازاء حدوث مد اصولي. وفي المغرب، تحظى مؤسسات الحكم الملكي القوية بولاء السكان، وتسهم القيادة الذكية للملك الحسن الثاني ودوره المزدوج كملك و "قائد للمؤمنين"، بالاضافة الى رعايته الحذرة للتعددية السياسية، في تحصين البلاد من التأثيرات الخارجية المتطرفة. شعرت الولاياتالمتحدة بالتفاؤل عند انتخاب الرئيس اليمين زورال في تشرين الثاني نوفمبر 1995. وحظي الانتخاب الرئاسي باقبال شعبي كبير، وحصل زورال على أصوات 61 في المئة من المشاركين، ما شكل تفويضاً شعبياً قوياً له بانهاء العنف وفرض الاستقرار واحترام القانون واعادة المؤسسات السياسية والقضاء على الفساد والمحسوبية واقامة عقد اجتماعي جديد بين الشعب والحكومة. وكان هذا ما وعد به الرئيس زروال في خطاب التنصيب. ونادى بالاصلاح الاقتصادي والسياسي ودعا الاحزاب والمنظمات السياسية الى حوار يهدف الى صياغة دستور جديد تأتي بعده الانتخابات الاشتراعية ثم المحلية. وأرفق الاجراءات الأمنية القوية التي اتخذها بالعفو عن المعارضين المتطرفين لقاء تسليم اسلحتهم. زرت الجزائر في آذار مارس 1996 عندما كنت مساعداً لوزير الخارجية الأميركي للتعبير عن مساندة الولاياتالمتحدة لهذا البرنامج. واخبرت الرئيس زروال خلال اجتماع معه استمر ساعتين ان الولاياتالمتحدة ستجد السبل للبرهنة على هذه المساندة عندما تتخذ الجزائر خطواتها لتنفيذ البرنامج. واكد لي بالمقابل التزامه اتخاذ الخطوات الكثيرة المطلوبة لاقامة بنية حكومية جديدة بمؤسسات تشريعية وقضائية فاعلة تشارك السلطة التنفيذية في المسؤولية. والتزمت الولاياتالمتحدة جانبها من الصفقة، وساعدت الجزائر على اعادة جدولة ديونها وصوتت في البنك الدولي لمصلحة اقراض الجزائر، وفي صندوق النقد الدولي لمنحها ترتيبات مالية احتياطية. كما اعاد بنك التصدير والاستيراد وضع الجزائر على قائمة ضماناته للديون القصيرة والمتوسطة الأمد، واعادت واشنطن العمل ببرنامج القروض الزراعية. وحصلت الشركات الأميركية على الاذن بتوفير تقنيات حساسة للجزائر، وذلك بدرس كل طلب منها على حدة. وكان يمكن لسياسة التأييد المشروط هذه ان تتقدم أبعد وبوتيرة اسرع لولا النواقص في تطبيق الجزائر لبرنامج الرئيس زروال. ووجدت عناصر مهمة من الطبقة السياسية الجزائرية نفسها معزولة بدل دمجها في قاعدة سياسية موسعة للنظام الجديد. وكذّبت الرقابة على الصحف ادعاء الحكومة التزام الانفتاح والاصلاح. فضلاً عن ذلك، هناك تناقض واضح بين تأكيدات الحكومة على تحسن الوضع الأمني والموجة الجديدة من المجازر والتفجيرات والكمائن. أدت الصعوبة في الحصول على معلومات موثوق بها من الجزائر الى اثارة التكنهات عن امكان تورط القوات الحكومية في المجازر الأخيرة. واذ لا اعتقد ان هذا ما يحصل فقد يصعب على الحكومة القبول بالتفسيرات البديلة الممكنة. من بين هذه ان الهدف الأساسي لجيش قائم على التجنيد الاجباري هو السلامة الشخصية. من هنا، اذا كان الجيش على استعداد للقيام بدوريات نهارية فإن وحدات المجندين لا تريد مغادرة معسكراتها المحصنة ليلاً لمواجهة الهجمات على المزارع والقرى. وكان الجيش الأميركي واجه وضعاً مشابهاً في حرب فيتنام. التفسير الآخر الذي يقدم هو ان بعض المجازر التي تطال عائلات بكاملها هي من اعمال الانتقام لمظالم وانتهاكات تعود الى اوائل سنين الثورة. ويمكن للخلافات على ملكية الأراضي ان تشكل دافعاً مادياً يضاف الى الأعراف القبلية القائمة على الشرف والثأر. وقد نجد ان بعض الميليشات المسلحة حديثاً موالية لهذا الطرف أو ذاك وليست قوات محايدة لا يهمها سوى المحافظة على النظام والقانون. كما قد يكون السبب في بعض الحالات مزيجاً من اليأس والغضب يشابه ذلك الذي أشعل اعمال العنف في حي واتس في لوس انجليس منتصف الستينات. مهما كانت الاسباب فهناك قلق دولي مشروع ازاء مقتل هذا العدد الكبير من الأبرياء. وعلى حكومة الجزائر ان لا تفهم تعبير المنظمات الدولية والحكومات والهيئات الخاصة عن ذلك القلق على انه موجه ضد سيادة الدولة ويشكل تدخلاً في شؤونها الداخلية. الحقيقة هي ان سفك الدماء تجاوز كل حدود. وكلنا نريد ان نرى الجزائر وهي تطوي هذه الصفحة المظلمة والصعبة من تاريخها. على الحكومة ان ترحب بتعبير الأطراف الخارجية، الرسمي منها والخاص، عن القلق، وان تفكر في كيفية توظيف هذا الاهتمام لمصلحة الاستمرار في تنفيذ البرنامج الذي اعلنه الرئيس زروال. ان مؤسسات الحكم الجديدة موجودة فعلاً، مهما كانت النواقص التي رافقت انتخابها، والمطلوب توطيدها وتقويتها. وللحكومة، في سعيها الدائم الى توسيع قاعدتها السياسية وتهميش دعاة العنف والتطرف، ان تنظر في شكل ايجابي الى ما يمكن للدعم الخارجي ان يقدمه في مجالات الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. كما يجب اتخاذ سياسة اعلامية جديدة تركز على الدقة والموثوقية والشمول. من الضروري أيضاً مواجهة مشكلة الاسكان، وليس عن طريق المشاريع الحكومية التي تفتقر حالياً الى التمويل، بل بتشجيع شركات الرهون والاعمار في القطاع الخاص. وهناك حاجة ملحة لتحسين اداء الجهاز القضائي لحل الخلافات على الأراضي وضمان نظام لتسجيل الملكية يقوم على الشمول والشفافية والبعد عن التأثيرات. ويمكن للسلطة، عن طريق هذه الخطوات التي يساهم كل منها في تقوية حكم القانون وتعزيز ثقة الشعب بالمؤسسات الحاكمة، أن تحصل على دعم دولي فاعل، وان تجد طريقها، تدريجاً لكن أيضا بمثابرة، للخروج من دوامة العنف واليأس التي تبدو كأنها من دون نهاية.