كانت باناما ولا تزال تعتبر "الابنة الشرعية" للولايات المتحدة الاميركية، بمعنى انها الدولة الاميركية اللاتينية التي تحتاج اليها واشنطن بأكثر مما تحتاج الى اي دولة اخرى: من ناحية لأنها الممر الطبيعي الذي يصلها بالقارة الجنوبية، ومن ناحية ثانية لانها تحتوي على واحدة من اهم القنوات في العالم: قناة باناما التي تصل ما بين المحيطين الاطلسي والهادئ لكن على الرغم من هذا كانت باناما، خلال فترات عدة من تاريخها الحديث تمثل نوعاً من "الابنة الضالة". ذلك انها كثيراً ما تمردت على الدولة - الأم، وكثيراً ما ابدى قادتها نوعاً - وان محدوداً في اغلب الاحيان - من عدم الاذعان للأوامر والمواقف التي تملى عليهم من أعلى، اي من واشنطن. ولكي لا نبتعد كثيراً في الزمن حسبنا ان نذكر عهد الزعيم البانامي عمر توريخوس الذي قاد انقلاباً ناجحاً في اواخر العام 1968، في البداية كان الانقلاب مناصراً للولايات المتحدة، وإن بصورة خفية، اذ من غير المعقول ان يقوم في باناما انقلاب مضاد لها، ففي نهاية الامر تحتل الولاياتالمتحدة، عسكرياً، منطقة القناة حيث لها قاعدة عسكرية وجنود يمكنهم ان يتدخلوا حين تدعو الحاجة. ولكن بصورة تدريجية، وكما يحدث عادة في هذه الدولة ذات الوضع الفريد، راح توريخوس "ينحرف" نحو مواقع عالمثالثية، حين راح ينتهج سياسة قومية تزداد عداء للأميركيين بالتدريج، وذلك تحديداً تحت وقع تأثير توريخوس بالرئىس العربي جمال عبدالناصر. وكان من الطبيعي بعد ذلك ان يسعى الاميركيون للتخلص من توريخوس. شيء شبيه بتلك المرحلة وبتلك السيرورة حدث في العام 1988، ففي السابع والعشرين من شهر شباط فبراير من ذلك العام قام الجنرال نورييغا بانقلاب عسكري اطاح بحكومة الرئىس ديلغال، الذي كان قد حل في السلطة منذ سنوات استقر فيها الوضع للأميركيين. ولكن خلال تلك السنوات كانت الاضطرابات قد بدأت تحل في باناما من جراء اشتداد التحركات الطالبية المعادية للأميركيين. والغريب ان "الزعيم" الذي جسد الارادة الشعبية بالنسبة الى تلك المطالب، كان واحداً من الطاقم الحاكم وهو الجنرال نورييغا، القائد الأعلى للقوات المسلحة. بالنسبة الى الطلاب والنقابيين اليساريين المتحركين، كان نورييغا متمرداً مثلهم، ذلك انه كان منذ فترة قد بدأ يعلن عن مواقف تضعه في معسكر العداء للإمبريالية، الى جانب فيديل كاسترو ودانييل اورتيغا زعيم الساندينيين الذين كانوا يحكمون نيكاراغوا في ذلك الحين ويغيظون، بذلك، الولاياتالمتحدة الاميركية غيظاً كبيراً. اما بالنسبة الى الاميركيين فلم يكن نورييغا إلا رجلاً من رجالهم ها هو الآن يحاول ان يتمرد عليهم. والواقع ان نورييغا كان معروفاً، للأميركيين، منذ سنوات بكونه واحداً من اخلص المتعاملين مع وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي.آي.إي. ولكن فجأة بعد ان وصل الى طاقم السلطة كقائد للجيش حاول نورييغا، ولو في الظاهر ان يتناسى ماضيه كمتعاون مع المخابرات الاميركية ويحاول ان يمحوه وبخاصة عبر تقاربه مع المعسكر المعادي للامبريالية. هنا، وكما يحدث عادة في مثل تلك الظروف والعلاقات المعقدة، اخرج الاميركيون من محفوظاتهم السرية تاريخاً لنورييغا يجعله مهرّباً للمخدرات، وبالفعل حوكم غيابياً وحكمت عليه محكمة اميركية في ميامي بالسجن. هنا، غضب نورييغا غضباً شديداً، وبدأ يحرك الشارع ضد الاميركيين، فحاول هؤلاء ان يحركوا ضده اجهزة الحكم المنصاعة لإرادتهم، وهكذا اصدر الرئىس اريك ديلغال قراراً بتنحية الجنرال نورييغا عن منصبه كقائد للقوات المسلحة. غير ان المشكلة مع هذا الاخير كانت انه، هو، تحول خلال الفترة الاخيرة ليصبح الرجل القوي في البلاد. وكان بالفعل مسيطراً على الجيش وعلى الشارع معاً. وهكذا ما ان علن عن القرار الرئاسي، المتخذ كما ادرك الرأي العام البانامي، بالتنسيق مع الاميركيين، حتى انتفض الشارع وبدأت المظاهرات المعادية للأميركيين تسود المدن البانامية. وما كان من الجمعية الوطنية مجلس النواب إلا ان انصاع، هو، لإرادة نورييغا، فأقال الرئىس ديلغال، فيما كان الجيش البانامي يحاصر الشوارع الرئيسية والمباني الحكومية. حدث ذلك، في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات، وفي اليوم نفسه اضحى نورييغا زعيماً أوحد لباناما من دون ان تحاول القوات الاميركية المرابطة في منطقة القناة ان تحرك ساكناً ... غير انها سوف تتحرك بعد فترة لتطيح نورييغا وتنهي حكايته، لكن تلك حكاية اخرى بالطبع.