هل يمكن القول أن توم كلانسي من المؤمنين باللا عنف؟ كلا، ليس تماماً. لكن المؤلف الواسع الشعبية لروايات مثل "تصيد الغواصة اكتوبر الأحمر" فتح نيرانه على ادارة كلينتون لما اعتبره افتقارها الى الوضوح العملياتي والتخطيط الاستراتيجي اذ تقترب من الحرب مع العراق. اتسم هجوم كلانسي بالحدة والتهجم الشخصي. وكتب ان الرئيس كلينتون اذا استعمل القوة ضد العراق من دون أي تمهيد مناسب أولاً، فإن ذلك "سيكون جريمة أكبر بكثير من تلك التي يُتهم بها الآن في واشنطن". في امكاننا افتراض ان كلينتون قرأ باهتمام وقلق مقالة كلانسي التي نشرها في "نيويورك تايمز". ذلك ان كلانسي يحظى بكثير من الاحترام في أوساط القيادة العسكرية الأميركية، بسبب عنايته الكبيرة في رواياته بالتفاصيل التقنية للعمل العسكري وأيضاً لأنه ساهم الى حد كبير في اعادة الاعتبار الى التفكير الوطني المتشدد. ويحرص كلينتون، الذي تهرب من الخدمة العسكرية في فيتنام، على ان يأخذ بجد مواقف كبار العسكريين. اذا نظرنا الى النغمة السائدة في معظم رواياته نجد في مقالته الكثير مما يدعو الى القلق. فقد جاء في المقالة: "من التعابير المتداولة عملة الضربة الجراحية. لكن هل هناك عملية جراحية تجرى بالقنابل؟ بل انها تجرى بالمشارط الصغيرة بأيدي أطباء ذوي مستوى عالٍ من التدريب. بالمقابل فان في أمكان قنبلة وزنها الف كلغ أن تقتل البشر على مسافة مئات الأمتار من موقع الانفجار، ولا يهم شظايا القنبلة اذا كان هؤلاء نساء ام رجالاً، صغاراً ام كباراً. لذا من الضروري قبل القاء قنبلة كهذه ان نعرف ما هو الهدف، وهل له ما يكفي من الأهمية لكي نخاطر بقتل أو جرح اي شخص يكون قربه بالصدفة"؟ وسأل: "من أوضح للشعب الأميركي لماذا علينا ان نرسل اولادنا الى الخطر؟.. ومن عقد تحالفاً مع تلك الدول التي نحتاج منها الى المساعدة لكي نستعمل قوتنا بنجاح؟ من حدد مواقع الأهداف التي يجب تدميرها؟ من قام بتهيئتنا وتهيئة العالم للنتائج المريرة التي تأتي بها حتى الضربة الناجحة؟ ماذا نحاول ان ننجز؟ ما هو معيار النجاح؟ ما هو احتمال الفشل وما هي نتائجه"؟.. وخلص الى القول: "هل هناك أي جواب عن أي من هذه الأسئلة، ناهيك ان يكون جواباً مقنعاً يبرر القتل؟ اذا كان هناك جواب لم يتح رؤيته". لم يكن كلانسي الشخصية الأميركية المعروفة الوحيدة التي بدأت، منذ منتصف الشهر الجاري، بدق جرس التحذير من اندفاع الادارة الأعمى نحو الحرب. علينا ان نلاحظ ان معظم التحذيرات جاء من مصادر عسكرية او قريبة من الدوائر العسكرية، وليس من النخبة السياسية المدنية، التي يبدو قادتها كأنهم يتنافسون في العواء مثل الكلاب الوحشية مطالبين بالمزيد والمزيد من التدمير للعراق. الجنرال برنارد ترينر في موقع يمكنه من تقديم صورة واضحة لمواقف القيادة العسكرية الحالية. وكان ترينر يعتبر من بين كبار المفكرين العسكريين الأميركيين، قبل تقاعده في نهاية الثمانينات، وهو منذ ذلك الحين رئيس لدائرة الدراسات الاستراتيجية في مدرسة كنيدي للحكومة التابعة لجامعة هارفرد. ويقصد الدائرة، طلباً لفهم أفضل للقضايا الاستراتيجية الشمولية، الكثيرون من القادة المستقبليين للمؤسسة العسكرية الأميركية. وعزا ترينر، في مقالة تزامنت مع مقالة كلانسي، الى كبار المسؤولين العسكريين في البنتاغون الرأي القائل بأن "هناك فجوة واسعة بين الأهداف السياسية التي طرحتها ادارة كلينتون وامكانات التوصل اليها عسكرياً". وأضاف ان هؤلاء المسؤولين "يعتقدون ان الهجوم الجوي لن يقضي على برنامج صدام حسين التسلحي أو يخرجه من السلطة. من هنا يبدون تشككهم في كل خطط القصف الجوي، التي وصفها واحد منهم بأنها لا تتجاوز احداث حفر جديدة في الصحراء". واستتنتج ترينر ان "القوة الجوية وحدها، باستعمال أسلحة غير نووية، لم تجبر احداً على الاستسلام أبداً". تمتاز هذه الشخصيات عن كلينتون وعدد متزايد من النخبة السياسية عموماً بخبرتها المباشرة بالحرب وأكلافها، وبفهم لمقولة كلاوزفتيز الدائمة الصحة، في ان "الحرب امتداد للسياسة بوسائل اخرى". لكن الغريب في أزمة الخليج الحالية حتى الآن هو الافتقار العميق والمخيف الى الجدية في نقاشات الكونغرس ووسائل الاعلام الأميركي حول الهجوم الكبير المحتمل على العراق. على العكس من ذلك لم يحصل الرئيس السابق جورج بوش في أواخر 1990 على موافقة الكونغرس على الحرب لتحرير الكويت الا بهامش بالغ الضآلة. ودارت بين الأعضاء نقاشات طويلة جادة تناولت قضايا مثل امكان وقوع خسائر أميركية كبيرة وتصاعد التوتر السياسي في الشرق الأوسط وغيره جراء الحرب، واحتمال خسائر كبيرة في الأرواح بين المدنيين العراقيين. أما الآن فلم يعبر اي عضو في الكونغرس عن الاهتمام بأي من هذه القضايا، ربما لأن الحرب الماضية كانت من السهولة على الطرف الأميركي بالطبع بحيث لا يرى هؤلاء حاجة الى تناولها في 1998. لكن اهداف الحرب هذه المرة أقل وضوحاً بكثير، ما يثير احتمالاً كبيراً بتورط طويل المدى مثلما في فيتنام، أو فشل مشين في تحقيق الهدف مثل عملية "عناقيد الغضب الاسرائيلية" في جنوبلبنان في 1996، أو الاثنين معا. لكن لا يبدو ان ذلك يثير قلقاً في اوساط النخبة الأميركية - عدا العسكريين الذين يعرفون انهم، مثلما حصل في فيتنام، سيوصفون بأنهم "قتلة الأطفال" بسبب القرارات الحمقاء أو الاجرامية التي يتخذها سادتهم السياسيون. امام هذه الاحتمالات يمارس جماعة كلينتون اللعبة السحرية القديمة، المتمثلة ب"خفض التوقعات". ففيما أكدوا أولاً ان الضربة المرتقبة ستكون ساحقة وتدمر تماماً قدرة صدام حسين على انتاج السلاح البيولوجي والكيماوي، تحولوا عن ذلك منذ أوائل الشهر الى وصفها بأنها "حملة لخفض برامجه البيولوجية والكيماوية وعرقلتها". هل يمكن القول ان التعبيرات عن قلق العسكريين وأيضاً "خفض التوقعات" تشكل اتجاهاً يعرقل التحرك الحثيث نحو الحرب وقد ينجح في لجمه؟ لا اعتقد ان في امكاننا افتراض ذلك حتى الآن. لأنه لا يزال هناك، ضد الداعين الى الحذر ومحاولي التحجيم، من يصر على كلمة الباطل الشهيرة تلك - "الصدقية". الصدقية بالطبع جزء مهم من استراتيجية الردع. أي ان الطرف "أ" اذا أراد ردع الطرف "ب" في شكل فاعل، عليه ان يوجه اليه تهديداً تتوفر له الصدقية. ويعني هذا ان الطرف "أ"، اذا وجه تهديده واستمر الطرف "ب" في سلوكه المرفوض، مضطر الى تنفيذ التهديد لكي يحافظ على "صدقيته". هذا التحجج بالصدقية لا يزال مقنعاً بالنسبة الى الكثير من الأميركيين، على رغم ان الولاياتالمتحدة اكتشفت بسرعة، حيثما وجدت نفسها مدفوعة الى المواجهة بسبب مجرد "الصدقية" مثل لبنان في الثمانينات، مدى التخبط الذي يمكن أن يؤدي اليه هذا النوع من التفكير. هناك، اضافة الى اعتبار "الصدقية"، حب الأميركيين التقليدي للمعارك الكبرى التي توفر فرصة اذهال العالم من قوة السلاح الأميركي وتفوقه التكنولوجي الساحق. الحرب، بهذا المعنى، مثل الألعاب النارية، أو لعبة فيديو كبيرة، وهي ما تمتعت به غالبية الأميركيين خلال المعارك ضد صدام حسين في حرب الخليج، مع فارق أنهم موعودن الآن بأسلحة أكبر و"أذكى" من التي استعملت وقتها. لا يمكننا ان ننسى خلال كل هذا مهما اردنا ان ننسى الأهمية المستمرة للفضيحة الجنسية التي لا تزال تهدد الرئيس، ولا نعرف أي اتجاه ستأخذ خلال الأيام والأسابيع المقبلة. فالقضية تثير ما لا يحصى من التكهنات والتعليقات. وكتب المعلق توم فريدمان عن القلق من ان قضية لوينسكي قد تكون أضعفت قدرة كلينتون على "تعبئة الأمة" في أي أزمة. وتساءل: "ما النتيجة بالنسبة الى كلينتون اذا لم يستطع السيطرة على صدام لأنه لم يستطع السيطرة على نفسه؟". كما كتب المعلق المخضرم أيب روزنتال: "اذا اراد الرئيس القضاء التام على صدام حسين، عليه أن يهيىء الأميركيين لاستعمال القوات الأرضية في القتال. ولكن يتزايد الاعتقاد بصعوبة ذلك على كلينتون اذا لم يُستبعد نهائياً امكان اضطراره الى الاستقالة. وهكذا فقد يكون على قرار استخدام القوات الأرضية ان ينتظر الرئاسة المقبلة، متى جاءت. التأخير هو عقوبة أميركا على الفضيحة الجنسية". بالمقابل هناك من يؤكد ان تعرض كلينتون للهجوم بسبب الفضيحة قد يدفعه الى اثبات وجوده عن طريق التصلب تجاه صدام حسين. الواقع ان للرئيس من القدرة والرصيد السياسيين ما يكفي للتراجع عن المواجهة. ذلك ان شعبيته لا تزال بالغة الارتفاع، وله ان يستعملها، اضافة الى صلابته تجاه صدام حسين حتى الآن، للخروج بموقف مناسب ل"رجل دولة" يشمل بعض الرغبة في التفاوض مع بغداد. ولنا ان نفترض ان الكثيرين من القادة العسكريين مستعدون للوقوف الى جانبه اذا اختار ان يعلن ذلك في اجتماع عام، وسيجد الجمهوريون وقتها صعوبة في مهاجمته. من المحزن تماماً ان حرباً بشعة دامرة قد تنفجر مرة اخرى في الخليج. وكل ذلك بسبب اثنين من المراهقين يحاول كل منهما اخفاء ما كان يفعله في قصره الجمهوري!