لمرة جديدة يتصدر المخرج الإيراني الشهير عباس كيارُسْتَمي قائمة أشهر المخرجين العالميين ليكون أكثر المخرجين الإيرانيين شعبية وفق إحصائية موقع سينمائي فرنسي. فقد سأل الموقع السينمائي الفرنسي La Cinetek ستة وعشرين مخرجاً عالمياً عن أفضل الأفلام في تاريخ السينما وفق رأيهم، وقد ضمّت هذه القائمة أفلاماً لعباس كيارُستَمي. أما المخرجون الذين شاركوا في هذه الإحصائية فكانوا من أبرز المخرجين العالميين، ومن بينهم: «بونغ جون-هو»، «جاك أوديار»، «أوليفير أساياس»، «برتراند بونيلو»، «جيمس جراي»، «ميشيل هازانافيسيوس»، «لوك موليه»، و»كريستيان مونجيو»، «لين رامزي»، «إيرا ساش»، و»باسكال فران». وقد اختارت المخرجة الفرنسية الشهيرة «أنياس فاردا» والتي حصلت هذا العام على السعفة الفخرية من مهرجان كان السينمائي، وتعتبر من أهم مخرجي الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، وواحدة من المتبقين من جيلها، فيلم «طعم الكرز» لكيارُستمي كواحد من أفلامها المفضلة. أما المخرج التايلاندي «أبيتشاتبونغ فيراستاكول» الحائز على السعفة الذهبية لمهرجان كان فقد ذكر فيلم «الواجب المدرسي» لكيارستمي. وكان من بين أفلام فيراستاكول المفضلة، الفيلم الوثائقي الرائع الذي أخرجته الشاعرة الإيرانية «فروغ فرُّخ زاد» عام 1963 تحت عنوان «البيتُ أسود»، عن حياة المجذومين في دار لرعايتهم في مدينة «تبريز» الإيرانية، ويعتبر من أفضل الأفلام الوثائقية الإيرانية حتى يومنا هذا. وأشار المخرج الفرنسي البارز «لوران كانتيه» إلى فيلم «تحت أشجار الزيتون» لكيارستمي كأحد الأفلام المحبّبة إليه من بين أفلام السينما العالمية. أما «برتراند بونيلو»، المخرج الفرنسي الآخر، فقد ذكر فيلمين إيرانيين ضمن قائمته لأفضل الأفلام العالمية: «كلوس أب» لكيارستمي، وأيضاً «البيت أسود» ل«فُروغ فرُّخ زاد». وقد أدرج مخرجون آخرون ك«كريستيان مونجيو»، و«إيرا ساش» فيلم «كلوز أب» لكيارستمي أيضاً ضمن قوائمهم. أما «لوك موليه»، المخرج والناقد الفرنسي فقد اختار فيلم «أين بيت الصديق» لكيارستمي، الفيلم الذي اختاره أيضاً المخرج والكاتب الفرنسي «كريستيان رود». يذكر أن 26 مخرجاً عالمياً شاركوا في هذه الإحصائية، وقد طلب منهم أن يختاروا 50 فيلماً مفضلاً لديهم من بين كل أفلام تاريخ السينما. حياة مبدع ولد المخرج، والمصور، والمنتج، والسيناريست الإيراني عبّاس كيارُستَمي في 22 حزيران (يونيو) عام 1940 في طهران. حصل على بكالوريوس في الرسم من جامعة طهران، ويعمل منذ بداية سبعينات القرن الماضي في مجال السينما. وقد أخرج حتى اليوم ما يتجاوز 40 فيلماً ما بين الروائي والوثائقي والقصير، من أشهرها «أين بيت الصديق» (1987)، «كلوز أب» (1990)، «طعم الكرز» (1997)، و«ستأخذنا الريحُ معها» (1999). باعتماده على البساطة في صناعة أفلامه، وحضور الأطفال كأبطال القصص في الأفلام، ثم اللمسة الوثائقية التي تغطي أفلامه الروائية، والأجواء الشاعرية، وفي كثير من الأحيان، الأجواء القروية، والإيقاع البطيء، يتميّز كيارستمي عن سائر المخرجين، وبأفلامه يعتلي قمة «الموجة الحديثة» في السينما الإيرانية. ومن السمات الأخرى التي يتميز بها هذا المخرج وقد تعتبر مجازفة سينمائية كبيرة غير أنه قام بها بكل الجرأة، هي حذف دور المخرج في صناعة الأفلام والاعتماد على الأبطال والحوارات التي تكررت في أكثر من فيلم له وهي تدور بين شخوص الفيلم في السيارات. حصل كيارستمي على جوائز عالمية عديدة في السينما، وقد ترشّح لأكثر من خمس مرات للسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، والتي حصل عليها عام 1997 في دورتها الخمسين، وقد حضر في هذا المهرجان ومهرجانات عالمية أخرى كعضو في لجان التحكيم مثل مهرجان فينيسيا (1985)، مهرجان لوكارنو (1990)، ومهرجان سائو بائولو (2004). ولا ينحصر نشاط كيارستمي الفني في السينما وحسب، بل إنه مصور بارع ومن أبرز المصورين في مجال تصوير الطبيعة، وقد بيعت صورة من مجموعة صوره عام 2008 في مزاد كريستي في دبي بسعر 130 ألف دولار. وتتسع نشاطاته لتشمل التأليف الموسيقي، وتصميم الديكور، والبوسترات، والأزياء في السينما، والمونتاج، والجنيريك، وحتى الإخراج الأوبرالي في باريس، ولندن. كما أنه عرّج على الأدب أيضاً وأصدر كتابين يضمّان مختارات للشاعرين الإيرانيين حافظ، وسعدي الشيرازي. أخرج كيارستمي عام 1970 فيلم «الخبز والزقاق»، ثم فيلم «جرس الفسحة» (1972)، وقد ذاع صيته منذ عام 1974 بفيلمه «المسافر». وهكذا واصل كيارستمي صناعة أفلامه والتي أسس بها أسلوباً سينمائياً مختلفاً بكل سماته والميزات الخاصة به، والذي أخذ الكثير من المخرجين بتتبعه، إلى أن حصل عام 1997 على جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان. فرادة المسار ومنذ فيلمه الأول كان من الواضح أنه سيواصل مسيرة فنية فريدة، فكان يحكي ذلك الفيلم القصير (الخبز والزقاق، 10 دقائق) والذي ينتمي إلى مدرسة «الواقعية الجديدة»، قصة طفل فقير يحاصره كلبٌ متوحش. ويقول كيارستمي عن هذا الفيلم أن: «(الخبز والزقاق) كان تجربتي السينمائية الأولى، ولا بدّ أن أقول بأنها كانت صعبة جداً، فكان عليّ أن أعمل مع طفل صغير، وكلب، وفريقِ إخراجٍ غير محترف سوى المصوّر والذي كان ينقنق ويعترض طوال الوقت. وقد كان على حقّ لأني لم أكن أتبع طريقة الإخراج الذي كان هو معتاداً عليها». أما شهرة كيارستمي السينمائية فتجاوزت إلى ما وراء الحدود الإيرانية ليعرفه الجمهور العالمي للسينما، بعد فيلمه «أين بيت الصديق؟» (1987). ويتحدث هذا الفيلم عن طالب صغير صادق ووفيّ، يحاول أن يوصل دفتر الواجبات المدرسية الخاص بصديقه إليه، ويسكن الصديق في القرية المجاورة، ويرى الطفل أنه لا بد من أن يوصل هذا الدفتر، فإن لم يوصله إليه سيطرد الصديق من المدرسة. وقد صنع كيارستمي هذا الفيلم من وجهة نظر ذلك الطفل، فكلّ شيء من الوفاء حتى الأجزاء والتفاصيل الصغيرة في تلك الحياة كانت مصوّرة من منظار الطفل، وقد استمدّ كيارستمي الجمال من المشاهد الشاعرية في القرية، وأكّد خلال الفيلم على تصوير مشاهد الحياة كما هي في الواقع. أما عام 1994 فقد ترشّح كيارستمي للسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي عن فيلمه الرائع «تحت أشجار الزيتون»، وأشاد به كثير من النقاد، وهو الذي حصد جائزة الهوجو الفضية من مهرجان شيكاغو الدولي للأفلام. أما فيلم كيارستمي الآخر الذي أثار ضجة واسعة في عالم السينما كان فيلم «كلوز أب» (1989) ويحكي الفيلم قصة حقيقية، عن رجل عاشق للسينما (حسين سبزيان)، يعرّف نفسه إلى عائلة بأنه المخرج الإيراني الشهير «محسن مخمَلباف»، وفي نهاية الفيلم يظهر «مخملباف» الحقيقي، ويعترف حسين أمام المحكمة أن سبب هذا الانتحال كان حبّه البالغ للسينما. وقد نال كيارستمي جوائز عدة عن هذا الفيلم من كلّ من «كوينتن تارانتينو»، و«مارتن سكورسيزي»، و«ناني مورتي»، و«جان لوك غودار»، ومخرجين آخرين. وقد عرض فيلمه في أكثر البلدان الأوروبية. وعام 2012 تم إدراج فيلم «كلوز أب» ضمن أفضل خمسين فيلم في تاريخ السينما العالمية من قبل مجلة «سايت أند ساوند»، كما أنه حصد جوائز عالمية عدة. أما فيلم كيارستمي الآخر والذي أثار انتباهاً عالمياً كبيراً فكان فيلم «طعم الكرز»، ويروي قصة رجل ينوي الانتحار. وقد حصل عنه على السعفة الذهبية من مهرجان كان عام 1997، وأيضاً جائزة أفضل فيلم أجنبي من قبل اتحاد نقاد الأفلام في بوسطن. وقد اختاره الاتحاد العالمي لنقاد الأفلام كأفضل الأفلام الناطقة باللغة الأجنبية. كما اعتبرته مجلة «تايم» أحد أفضل 10 أفلام في تاريخ مهرجان كان. عام 1999 أخرج كيارستمي فيلم «ستأخذنا الريح معها». تدور قصة هذا الفيلم حول فريق من الصحافيين يسافرون إلى قرية في محافظة «كردستان» الإيرانية من أجل تصوير فيلم عن طقوس المأتم، غير أن المرأة الطاعنة في السنّ، والتي من المقرّر أن تموت ليصوروا مأتمها، لم تمت. في هذا الفيلم لم يظهر كثير من شخوص الفيلم إلا بأصواتهم، من دون رؤية وجوههم. وعن هذا الفيلم ترشّح كيارستمي لجائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينيسيا للأفلام، غير أنه حصل على الأسد الفضّي من المهرجان ذاته. كما أنه اختير كأحد أفضل مئة فيلم في السينما العالمية من قبل مهرجان تورونتو الدولي للأفلام. وهكذا استمرّ إبداع هذا المخرج الكبير ليصنع عام 2002 فيلم «عَشرة»، الذي تجري أحداثه في سيارة، تقودها امرأة تتحدث طيلة مدة الفيلم وخلال عشرة مشاهد مع عشرة أشخاص، من ضمنهم امرأة عجوز، وعاهرة، ومع ابنها، وأختها. وترشّح هذا الفيلم أيضاً للسعفة الذهبية لمهرجان كان عام 2002، واعتبرته مجلة «دفاتر السينما» الفرنسية كواحد من أفضل عشرة أفلام في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. أما فيلمه «شيرين» والذي أخرجه عام 2008، فيصوّر نظرات 113 ممثلة، ينظرن إلى الكاميرا من دون أي كلام، ويُسمع صوت قراءة أبيات لحكاية «خسرو وشيرين» الشعرية، والتي نظمها الشاعر الإيراني «نظامي الكنجوي» في القرن السادس بعد الهجرة. وكلّ الممثلات إيرانيات، إلا «جوليت بينوش» الفرنسية والتي استمرّ تعاونها مع كيارستمي لتكون بطلة فيلمه «نسخة طبق الأصل» والذي أخرجه عام 2010، ليكون أول فيلم لكيارستمي يصوره خارج إيران. ويتحدث هذا الفيلم عن لقاء امرأة فرنسية تدير غاليري للفن، بكاتب بريطاني وتجري أحداث الفيلم في ولاية توسكانا الإيطالية. وقد حصلت الممثلة بينوش من أجل تمثيلها في هذا الفيلم على جائزة أفضل ممثلة من مهرجان كان السينمائي عام 2010. وعام 2012 أخرج كيارستمي فيلم «مثل عاشقٍ ما»، الذي تمّ تصويره في اليابان، ليترشّح عنه كيارستمي للمرة الخامسة للسعفة الذهبية في مهرجان كان. ويصوّر الفيلم قصة استقدام رجل متقدّم في العمر لطالبة ليقيم علاقة معها ليوم واحد من أجل تأمين تكاليف دراستها في الجامعة. أما عطاء هذا المخرج الذي يظهر عادة بالنظارة السوداء بسبب حساسية عينيه بالضوء، فلا ينحصر بكل هذه الإنجازات، بل إنه وحسب إيمانه بالشباب يعتقد أنه يتعلّم الكثير منهم وهو يعلّمهم، ومن هذا المنطلق يأتي تشكيله لورشات سينمائية خاصة بالشباب، يقبل عليها كثير من الشباب المحبين للسينما والإخراج. ويقول كيارستمي: «أنا لا أرضى من نفسي إلا عندما أقوم بتعليم الشباب، ومتأكد أني أتعلّم منهم بمقدار ما أعلّمهم».