قبل أيام من بدء مؤتمر قمة دول الكومنولث في أدنبرة احتفت دار "ماكميلان" في حفل جامعي في لندن بصدور كتاب في فن الديبلوماسية المعاصرة لنائب أمين عام سابق لتلك المنظومة من الدول أو رئيس سابق لپ"الجمعية الملكية للكومونولث" شارك في عقد عدد من مؤتمراتها وصياغة جمهرة من مقرراتها كما مثل المملكة المتحدة في مجلس الأمن. وبالاضافة الى تلك المهام عمل سير بيتر مارشل، مؤلف الكتاب، مستشاراً ومحاضراً جامعياً زميلاً وترأس جلسات ثلاثة مؤتمرات عالمية عن مستقبل الديبلوماسية لما بعد العام ألفين. من بوتقة التجارب والخبرات والعلاقات تلك ورحابتها خرج هذا الكتاب غنياً بحكمة مؤلفه ودافئاً بانسانيته وبهيجاً بظرفه اللماح ومرحه الهادئ. ومن تجربة مؤلفه في التدريس الجامعي استفاد الكتاب عظيم الفائدة بتبويب فصوله على شكل محاضرات عشر متدرجة مستساغة في محاور رئيسة هي: الديبلوماسية وليدة عالم متغير، طبيعة المجتمع الدولي الراهن، السيادة القومية وحدودها، الأممالمتحدة، الاقتصاد العالمي، البنية الأوروبية، رسم السياسات الخارجية، مؤسسات العمل الديبلوماسي، اكتساب المهارات الديبلوماسية، عشرة مبادئ ديبلوماسية، بالاضافة الى ملاحق وقائمة بمراجع مفيدة. مع توطئة للبروفسور جاك سبنس المدير السابق للمعهد الملكي للشؤون الدولية. وجلي ان هذه الاحاطة تستوجب مساحة واسعة يضيق بها كتاب واحد ولا يحتملها ساعد طالب مثقل بالأعباء والكتب أو ديبلوماسي متأنق وقور وآخر ملاحق بالواجبات والمواعيد، الا ان المؤلف يوفق في ذلك التحدي الذي يواجهه كل كاتب ولا يجتازه سوى القلة وهو تفريغ المعلومة الوافية في القالب الوجيز الميسر من دون الايحاء ببتر أو تقصير "الكثير من المعاني بالقليل من اللفظ" كما يقول الجرجاني. ويبدو هذا التحدي صعباً بل أصعب من أي وقت مضى حيث يشهد عصر العولمة اتساعاً لم يسبق له مثيل في مساحة العمل الديبلوماسي واجهزته ومعارفه ونوعية الضالعين فيه، فيتحرك الديبلوماسي ممثلاً لدولة بعينها أو منظمة عالمية أو هيئة غير حكومية في عالم متشابك المصالح والمخاوف والطموحات ومتململ في أحايين عدة من الأطر الضيقة للمصالح الوطنية ليعالج قضايا شاملة مثل الاقتصاد المعولم والتهديد البيئي والحاح وحساسية حقوق الانسان وثورة المعلومات وضجيج الآلة الاعلامية التي تطن حول الكوكب وفي ثنايا حواضره والوتيرة السريعة اللاهثة للأحداث والمستحدثات. وفي التعريفات التي يطرحها المؤلف للديبلوماسية عبر ستة تعريفات رئيسية، يمايز مارشل بين السياسة الخارجية والعمل الديبلوماسي على اعتبار ان الأولى تتناول ماهية الفعل بينما يعني الثاني بالكيفية التي يكون عليها. لكنه يوضح ان التمايز شديد التبسيط ذلك ان الكيفية قد تحدد الماهية. وفي سعيه الى استجلاء دور الديبلوماسية في المناخ العالمي الحالي يشرح المؤلف الفرق بين الديبلوماسية القديمة التي أوصلت العالم الى أتون الحرب العالمية الأولى وتميزت بالسرية والنخبوية وخدمة مصالح القوى الأوروبية والديبلوماسية الجديدة التي بات عليها ان تعمل في اجواء من الانعتاق والمشاركة والديموقراطية والشفافية والمحاسبة. وبديهي ان ذلك الانتقال من القديم الثابت الى الجديد المتحول حتم على ممتهني الديبلوماسية بل وهواتها أيضاً التعامل مع قضايا جد واسعة ومعقدة ومتداخلة. والقدرة على التكيف مع هذا الوسط واستشراف الآفاق هما في طليعة ما يميز الديبلوماسية الناجحة عن تلك المتعثرة أو القعيدة. وفي سياق القضايا التي يعالجها الكتاب مركزاً على ضرورة التكيف والمرونة يقدم عدداً من الأرقام والاحصاءات بهدف دعم الحجج التي يسوقها. ففي عرضه لاحصاءات الخارجية البريطانية عن عدد العاملين فيها ستة آلاف موظف مع سبعة آلاف وأربعمئة موظف محلي والعقارات التابعة لها في أنحاء العالم حوالى أربعة آلاف عقار وميزانيتها للعام الفائت ثلاثة آلاف وثمانمئة وعشرة ملايين دولار يتوخى المؤلف تبيان أهمية التمثيل الديبلوماسية بالنسبة الى بريطانيا موضحاً ان قدراً متواضعاً من الرقم السابق مثلاً أنفق على النشاطات الديبلوماسية التقليدية بينما استثمر الجانب الأكبر من الانفاق في أنشطة اقتصادية واعلامية وادارية وثقافية، وهي الأنشطة التي يراها المؤلف الاهتمامات الرئيسية للآلة الديبلوماسية في المستقبل. وليست القضية هنا حجم التمثيل أو الانفاق بل فاعلية العمل ونجاعته. وفي البيئة الديبلوماسية الجديدة التي أصبحت تذخر بدول انعتقت رسميا من ربقة الاستعمار أو التبعية وترى ان انشاء سفارات في الخارج مسألة حتمية مرتبطة باعتبار الدولة وهيبتها، تصبح النصيحة التي يمكن ان توجه الى مثل تلك الدول ان تقتصد في مثل ذلك التمثيل التقليدي وترشده بل وتتكافل مع دول متجاورة في انشاء أو استئجار السفارات في العواصم المهمة. وفي الختام يمكن القول ان عنوان كتاب مارشل يعكس الروح والأسلوب الايجابيين اللذين كتب بهما كما يعكس هدفه بتوضيح جوانب من تاريخ ومهاد الديبلوماسية وتفاعلها مع أزمنتها المختلفة وخدمتها لقضايا الحوار والتعايش والسلام والمصلحة المشتركة والحاجة اليها ما دامت النزاعات واحتمالاتها وما دام السعي الى القوة والسلطان ديدن المجموعات البشرية والسياسية. ويتركز الكتاب على الفعل الديبلوماسي والثقافة والخبرات التي يتوجب اكتسابها وتسخيرها في سبيل الاداء السليم ومحاولة التوفيق عموماً بين السرد والتحليل يتميز الكتاب وينضم الى مؤلفات اخرى كتلك التي أصدرها في السنوات القليلة الماضية أمثال ديكي واندرسن وهوكنغ وهاملتون ولانغورن. كما يمتاز بتقليديته المعتدلة مع استيعابه للمتغيرات وترحيبه المتعقل بها عن كتابات أكثر ثورية كما لآربيجي ووكر وجيم جورج وفيليس بنيس مثلاً تدعو الى تغيير جذري في الأولويات الانسانية وفي هيكلة العلاقات الدولية وبنية الأممالمتحدة ومجلس الأمن بالذات وبتفاؤله العام وحثه الدؤوب على ايجابية العمل الديبلوماسي يتغاضى الكتاب أحياناً عن اخفاقات ذلك العمل مع انه يفرد بعض الصفحات المتفحصة والمتفائلة ايضاً لدراسة الوصمة الفاجعة في البوسنة وعملية مداراتها. وهو في رحابة انسانيته وشغفه بالمنحى التدريسي ولا أقول التسويقي لا يعرض كثيراً للذكريات الشخصية ولا يركز وليس ذلك من همومه وأهدافه على الاسهامات القيمة لأمم مثل العرب والمسلمين في اذكاء العمل الديبلوماسي وتطويره عبر الأجيال، لكنه يعرض شجاعاً للزوبعة التي أثارها صامويل هنتغتن في مقاله سيء السمعة عن صدام الحضارات واضعاً اياها في الفنجان الاكاديمي الذي تستحقه وعلى طاولة التعددية المذهلة الراهنة في عدد ونوعية ممارسي الديبلوماسية من دول وهيئات وأفراد يستخدمون الكلمة والضغط والاقناع والانترنت ومنوها بجهود القس هانس كونغ وأمثاله في الحض على لقاء الأديان وتوظيف قيمها للتصدي لقيم السوق التي تكاد تبلع روح الديبلوماسية الرسمية.