صورة الواقع السياسي والاجتماعي التي رافقت واقعة حوزة بعلبك الدينية، والتي اثمرت انفكاكاً لا عودة عنه بين الشيخ صبحي الطفيلي وأنصاره، و"حزب الله"، صورة اسهم في رسمها وتظيهر ملامحها، عقد ونصف عقد من الاستثمار الإيراني والضبط السوري للمنطقة. والقبض على سهل البقاع وعلى طبائع اهله وعائلاته وعشائره، بعد تجربة له مع الدولة اللبنانية وقبلها مع السلطنة العثمانية ثم الانتداب الفرنسي من قبل كدولتين وسياستين متفقتين على ضرورة بقائهما فيه وعلى ثنائية ولاء السهل وأهله، ومختلفتين في طريقة ادارة هذا الولاء، افضى الى عدم استقرار المنطقة على شكل نهائي. حاول "حزب الله" وهو نقطة تتقاطع عندها الرغبتان السورية والايرانية البقاء في السهل، خلال اكثر من عقد من اقامته في حمى عشائر البقاع وعائلاته وبلداته ومدنه، مع اعادة تأليف الحياة في السهل من جديد، مسرعاً خطواته في هذا الاتجاه ومدخلاً على علاقات ابنائه عناصر اختلاف واتفاق ولحمة وتفتت جديدة، ومستفيداً من حال الانقطاع المزمنة عن معنى وجود منطقة ضمن دولة ومجتمع عام ومؤسسات تنظم الحياة وترعاها. ولعل عملية انفصال الشيخ صبحي الطفيلي عن "حزب الله"، مع كل الظروف التي احاطت بهذا الانفصال وأسهمت فيه، هي في احد وجوهها صراع بين المحلي والمدخل، وهي صورة مؤلمة ل"الاقليمية" إو "الجهوية" التي وقع البقاعيون فيها. ومظاهر تخلي الحزب عن الشيخ بدأت تتسرّب الى حياة البقاعيين، عبر رصدهم انفصال الاداء المالي اولاً، لان "حزب الله" بما فيه الطفيلي، اصبح يدير حياة مدينة بعلبك ومحيطها عبر شبكة من الخدمات المتداخلة والمعقّدة التي اذا انسدّت احدى قنواتها تغيرت الدورة كلها. فعلى ابواب العام الدراسي مثلاً قنّن الحزب قيمة الفواتير التي يقدمها طلاب المدارس الى المكتبات لشراء الكتب. وعلى رغم ان هذا التقنين شمل الكثيرين من البقاعيين، إلا انه تركز اساساً على طلاب بلدة بريتال، بلدة الشيخ الطفيلي، والامر نفسه حصل بالنسبة الى اقساط المدارس، اذ اشتكى عدد من مديري المدارس الخاصة وتحديداً في بلدة بريتال من عدم التزام الحزب الفواتير المقدمة من الطلاب والموقّعة من تنظيم الحزب في تلك القرية. وقبل ان يؤشر هذا التقنين الى سوء علاقة الحزب مع الشيخ، فانه يؤشر الى مدى دخول الحزب المعادلة اليومية لحياة البقاعيين، وهو امر لا يقتصر على الكتب والمدارس. فمؤسسات "حزب الله" في البقاع تطاول مختلف انواع النشاط الاقتصادي والتربوي والصحي والزراعي، ويعمل فيها مئات من الحزبيين، موظفين وعمالاً وحرفيين واختصاصيين، والبعض يقول آلافاً. وتؤلف هذه المؤسسات دورة كاملة لمن يرغب في الانخراط فيها. فتبدأ بالمؤسسات الصحية، اذ شيد مستشفى ضخماً اطلق عليه اسم مستشفى "دار الرحمة"، وفي موازاة هذا المستشفى انشأ شبكة من المستوصفات والمراكز الصحية التابعة للهيئة الصحية الاسلامية، وشبكة صيدليات عاد وأقفل معظمها بعدما تصدت نقابة الصيادلة للصيدليات غير المرخّصة. وعلى المستوى التربوي تعتبر مدرسة "الهداية" من اكبر مدارس البقاع. واستأجر الحزب عدداً من المدارس الخاصة الاخرى وألحقها بها. وتقيم التعبئة التربوية في الحزب على ابواب كل عام دراسي معارض للكتب بأسعار مخفضة، وترتبط مع معظم مكتبات بعلبك باتفاقات لبيعها الكتب. ويمتد اهتمام الحزب بقضايا التعليم ليشمل مسألة التعليم الديني ومؤسساته في هذا المجال المتعدد الاهتمامات والمقاصد والارتباطات. وما يعود منها مباشرة الى الحزب جمعية التعليم الديني التي تخرّج اساتذة لتعليم مادة الدين الاسلامي في المدارس، ومؤسسة القرآن الكريم وأهدافها مشابهة. هذا اضافة الى الحوزات الدينية التي تخرّج رجال دين شيعة، كحوزة الامام المنتظر التي دارت في حرمها المعركة الاخيرة. ولكن لهذه الحوزات ارتباطات اخرى برجال دين على مسافة غير مرئية من الحزب كالسيد محمد حسين فضل الله، وبعض المراجع الدينية الايرانية. واشترى الحزب اخيراً مزارع "ليَول" للدجاج، وهي من اكبر مزارع البقاع. وأقام في محيط نهر العاصي مزارع سمك نهري، وفي مدينة بعلبك مطعم "الفجر" الذي تتفرع منه "ملحمة الهدى". وأقام شبكة من التعاونيات الاستهلاكية، يصرف فيها، الى السلع الاخرى، منتوجات مزارعه ومشاغله، وأنشأ مشاغل خياطة لحياكة الألبسة الشرعية التشادورات وضَمِن مساحات في السهل لاقامة المشاريع الزراعية. وتدير معظم هذه المشاريع هيئة حزبية اسمها "مؤسسة الاقتصاد"، اضافة الى "مؤسسة الشهيد" وهي من اكبر مؤسسات الحزب ومهمتها رعاية ايتام الحزب والعائلات التي فقدت معيلها. ومن مهامها ايضاً ربط هذه العائلات بالعمل الحزبي، خصوصاً ان مَنْ كان صلة الوصل بينها وبين الحزب استشهد. ويبدو ان "حزب الله" رجل اعمال ناجح استطاع تحييد اعماله عن متطلبات العمل السياسي والخسائر التي يمكن ان تلحقها بها، لا بل انه في احيان كثيرة تمكن من تثمير ازدهاره العسكري والامني ووضعه في خدمة هذه المؤسسات التي تحولت مؤسسات قطاع خاص بالمعنى الكامل للكلمة. ولم تعد اطاراً لنهوض الاقتصاد البقاعي عموماً والبعلبكي خصوصا. فالعاملون في هذه المؤسسات هم من الحزبيين المؤطرين في تنظيمات "حزب الله" المختلفة، ودخول ملاكات العمالة لا يشترط انتساباً الى الحزب وحسب، بل قرباً من دوائر الناشطين في سلك مؤسساته الاقتصادية. اما الحزبيون المتفرغون للعمل الحزبي والذين يتقاضون رواتب وتتناقص اعدادهم شيئاً فشيئاً وكذلك مهامهم، فهم يشعرون بدنو ساعة الاستغناء عن خدماتهم. ويقول شوقي... ان شقيقه المتفرغ في الحزب يبحث اليوم عن دولة اوروبية او اميركية تستقبله. اما حسين وهو من بلدة بريتال ومن سكان بعلبك، وهو متفرغ ايضاً في الحزب، فيقول ان الشيخ صبحي الطفيلي اخطأ في انفصاله عن الحزب. فيقاطعه قريبه ويقول انه خائف على راتبه الشهري. فيبتسم حسين لقريبه ابتسامة الموافق. والوظائف التي تؤديها مؤسسات الحزب من بيع وشراء وتطبيب وتعليم هي وظائف تجارية، ويمكن ان تكون حزبية. اي بمعنى انها توظف في خدمة الحزب، لكنها ليست اهلية، لا بل ان اهالي بعلبك يقولون ان اقساط "مدرسة الهداية" مرتفعة اكثر من اقساط المدارس الاخرى في المنطقة، وكذلك اسعار التعاونيات الاستهلاكية، وهذا ما اكتشفوه اخيراً بعدما فتحت في المدينة تعاونيات بيروت والمناطق فروعاً لها هناك. اما بالنسبة الى مستشفى "دار الرحمة" فتعرفة الاستشفاء فيها هي نفسها تعرفة الاستشفاء في باقي المستشفيات الخاصة. في السياسة لم يتمكن "حزب الله" من اختراق البنى العشائرية، على رغم انه انشأ علاقات مختلفة ومتفاوتة مع العشائر والعائلات. لكنه بدأ ينمو ويتسع داخل العائلات الصغيرة، او تلك التي لم تتمكن من التصدر ومن ايجاد دور لها في الحياة العامة. ويجمع البقاعيون على ان العشيرة وحدة سياسية فعندما تحالف لا تنتمي الى الجهة الحليفة، ولا تخاصم إلا اذا كان الخصم خصم العشيرة لا خصم الحزب الحليف. فعشيرة آل جعفر الحمادية تقليدياً انتقلت بولائها الى "حركة أمل" بعد حربها مع عشيرة ناصر الدين، ودعم الحركة لها في هذه الحرب، وبعدما حوّلت الحركة امكاناتها الخدماتية المستمدة من حصتها في الدولة اللبنانية الى هذه العشيرة. لكن هذا لا يعني ان آل جعفر "أمليّون". ولعل علاقة "حزب الله" بعشيرة شمص ابلغ دلالة الى موقع الحزب بين العشائر وطبيعة علاقتهم به. ففي العام 1992 كان مرشح هذه العشيرة للانتخابات النيابية النائب السابق يحيى شمص في لائحة منافسة للائحة الحزب واستطاع اختراقها. لكن في العام 1996، عام الانتخابات النيابية الثانية في الجمهورية اللبنانية الثانية، كان يحيى شمص في السجن وكانت حسابات العشيرة مختلفة، ففاوضت "حزب الله" على اصواتها في مقابل ان يلعب دوراً في السعي لإخلاء سبيله. ثم ان للحزب مداخل اخرى على هذه العشيرة تتمثل بوجود عدد من طلاب الحوزات الدينية التابعة له من ابنائها، لكن يبقى ان العشيرة حليفة للحزب وليست مناصرة له، وتحالفها معه تفرضه ظروف لها علاقة بمصالحها، وهي خاصمته انتخابياً عندما كان لها مرشح في لائحة منافسة، ثم اعطته اصواتها في انتخابات اخرى، بعد وعود بدعم قضيتها. اما عشيرة ناصر الدين وهي من اكبر العشائر وهي ايضاً من ناصرها الحزب في معركتها مع عشيرة جعفر، فشيخها نواف ناصر الدين تربطه صلات ليست جديدة بالسوريين، وهو بهذا المعنى ليس في حاجة الى الارتباط بطرف محلي لحماية العشيرة او لتأمين خدمات لأبنائها، وتبقى صلة الحزب بها خاضعة لمنطق المصالح المتبادلة. وموقع الحزب بين العائلات كان اقوى من موقعه بين العشائر. فالأولى اكثر قابلية للتوزع افخاذاً وأجباباً، لكنها ايضاً معنية بحسابات سياسية تقليدية اولاً، ومرتبطة بطموحات عدد من ابنائها ووجهائها ثانياً. وقد ادى الحزب دوراً في تلك المساحة التي ترجحت فيها العائلات، بين قابليتها للتفتت، ورغبة وجهاء جدد في تصدرها، واستطاع اجتذاب الافخاذ الضعيفة من هذه العائلات. فنائب الحزب في البرلمان حسين الحاج حسن من قرية حوش النبي الصغيرة، في حين تتمركز عائلته في بلدة شمسطار ولا تربطه قرابة مباشرة بأبنائها. ولم يتمكن الحزب من اختراق آل حيدر بعدد كبير من المناصرين واقتصر حضوره في هذه العائلة الكبيرة على بعض الحزبيين في الطبقة الدنيا منها. اما آل حمية الذين برزوا في النصف الثاني من الحرب اللبنانية، فانقسموا فروعاً بعدما فُصل عقل حمية من "حركة أمل"، وهو كان مسؤولها العسكري، وبرز بينهم متصدرون جدد اقاموا مشاريع سياحية وزراعية في منطقة زحلة، واستطاع الحزب ان يفوز ببعض ابناء هذه العائلة، فيما استمر عدد آخر على ولائه ل"حركة أمل". وفي مدينة بعلبك اقصيت العائلات شبه المدينية كآل عثمان ومرتضى ورعد، والتي كان لها حصة في تمثيلها السياسي والنيابي. وحلّت مكانها وجوه جديدة بعضها من المدينة وأخرى من المحيط. وهذا ايضاً ما اصاب العائلات السنّية كعائلة الرفاعي، وكان ابناء الطائفة السنّية يعدون اكثر من ثلث سكان المدينة، اما المسيحيون الذين كانوا يشكلون نحو 25 في المئة فلم يبقَ من ملامح سكنهم فيها الا تمثال الشاعر خليل مطران، وبعض العجائز والمسنّين الذين يقيمون في حارة المسيحيين. من بين هذه الشقوق والفجوات، أطلّ الشيخ صبحي الطفيلي، وتقاطعت عند حركته مصالح المهمّشين والمتضررين من هذا الخليط الجديد - القديم، الحزبي والسياسي والعشائري والعائلي، مع رغبة اقليمية بوجود ردائف لقوى شرعت في التعاظم، وأدّى بها تعاظمها في احيان كثيرة الى فهم ملتبس لحقيقة وضعها وارتباطاتها. وهذا ما حصل مع "حزب الله" خلال انتخابات العام 1996، والنقاشات والتجاذبات التي رافقت تشكيل لائحة البقاع الانتخابية. واستطاع الطفيلي خلق نزعة بقاعية في مواجهة تعاظم اهتمام الدولة و"حزب الله" على حد سواء بالجنوب. ففي هيئة مجلس اعيان الطفيلي محاولة توحي بالحرص على ان يعكس التركيب الاجتماعي في المنطقة، وهو وزع دعواته لحضور جلساته على وجهاء العشائر والعائلات وأظهرته هذه الخطوة كأنه يستأنف تقليداً تجاسرت السياسات المتعاقبة على البقاع على تجاوزه وعدم الاكتراث به. وفي مقابل تنظيم "حزب الله" الحديث والهرمي، الذي لا يراعي حكماً ولا يكترث لنظام اللحمة الأولي، اراد الطفيلي لحركته لوناً محلياً يعرف في اعماقه الازمات التي سببها اتيان الاحداث والواقع عليه. ومن آل شمص لبى دعوة الطفيلي عباس شمص وهو وجيه غير مجمع عليه في العشيرة، وسبق له ان ترشح ولم ينل الكثير من اصواتها. وعيّن الطفيلي الشيخ مصباح ناصر الدين نائباً لرئىس المجلس، وهو وجيه في العشيرة لكنه ليس وجيهها، ومن آل حمية عيّن حسن محمد حمية من بلدة طاريا اميناً للسر، لكن عائلة حمية موزعة الولاءات بين "حزب الله" و"حركة أمل"، والطفيلي لاحقاً. كذلك عيّن الدكتور محمد سليمان حيدر من بلدة بدنايل عضواً في المجلس، وهو من فقراء آل حيدر، كذلك استقطب وجيهاً آخر من آل حيدر من الاغنياء الحديثين الذين لم يتمكنوا من اقامة علاقة مع "حزب الله"، فوجدوا في الطفيلي على ابواب الانتخابات البلدية والاختيارية منفذاً للإطلال على الشأن العام. وباختصار فان مجلس اعيان الطفيلي هيئة من عائلات مرهقة وقوى محطمة ومثقلة بسلاسل استتباعها، وجرّها لولاءات تدرك حجم كارثة ولائها لها. ويقول ابو محمد وهو من فكّر بتلبية دعوة الطفيلي اليه لحضور مجلس الاعيان ثم تراجع: "في البقاع لم تعد العائلات عائلات ولا العشائر عشائر، وكلنا نساق الى مصائرنا مكرهين". من الذي يسوقكم؟ لا يجيب ابو محمد، ثم يعود ويستعرض بمرارة المشاريع التي تشاد فوق رؤوس البقاعيين ويقول "جاؤوا الينا بمكتب الأممالمتحدة للتنمية، فتحوّل مسؤوله وجيهاً يلقي الخطابات في المناسبات، ويصرف الموازنة رواتب للموظفين الذين حشرهم النواب والمسؤولون في المكتب، ثم باعتنا الدولة البقر الأميركي بأسعار مرتفعة عن اسعار السوق فتبيّن انه لا ينجب ولا يدرّ حليباً. قالوا لنا ازرعوا الشمندر السكري واحتكروا معمل السكر. وامتصوا قيمة الدعم الذي تدفعه وزارة الاقتصاد لهذه الزراعة". يشعر البقاعيون بعد حادث الحوزة الدينية بالعراء الكامل. وكأن سحب "الغطاء الاقليمي" كما يسمّونه لم يقع على الطفيلي فقط انما اصابهم جميعاً، وهو كان مخيماً على كل البقاع، الى حد انهم فقدوا وجهة الكلام فيه. اما بلدة بريتال 25 الف نسمة، معظمهم من مناصري الطفيلي وهي حصن الشيخ الأخير، فتبدو اليوم مشدودة الى جردها الكبير حيث صعد الشيخ ذات ليلة مع مئة من مسلّحيه وتحصّن في الشعاب. وعادت ألسنة البقاعيين تروي حكاية ابو علي ملحم قاسم الذي تترجح صورته في مخيلتهم بين البطل المحلي الذي حارب الفرنسيين وأعياهم، وقاطع الطرق وغازي القرى وناهب القوافل وموزع المغانم على انصاره.