طرفة يتداولها ابناء الوسط السينمائي الدمشقي تقول: "ان هناك فيلمين سوريين سوف يظهران هذا العام، أحدهما قصير، والثاني طويل. الأول ثلاث دقائق اما الطويل فست دقائق"... في تلميح الى لجوء المخرجين لصناعة افلام قصيرة للمحافظة على حرارتهم الفنية والمهنية من جهة، ولتجاوز مسائل التمويل ومشاكلها التي لا تنتهي في حال التفكير في تنفيذ فيلم طويل. واذا كانت الطرفة تلمح الى ضيق الفرص الانتاجية لتنفيذ الفيلم الطويل، فانها ايضاً تلمح الى نجاح الفيلم القصير من الناحية الفنية والفكرية. وهذا ما حصل مع الفيلمين اللذين انتجتهما المؤسسة العامة للسينما، وكانا من حاصدي الجوائز في مهرجان دمشق الاخير، بالاضافة الى الوقع الطيب الذي تركاه لدى المشاهدين والنقاد، محلياً ودولياً. الفيلم الأول "مذكرات رجل بدائي" لموفق قات، وهو فيلم كرتون مدته خمس دقائق يعتبر الأول من نوعه في سورية، في اعتماده على تقنيات الكومبيوتر في الرسم والتصميم، يفتتح به قات الشوط للدخول الى عالم التكنولوجيا المترامي. انه فيلم يحمل ادانة واضحة للتكنولوجيا في اشكالها الشوهاء، حيث تبدو بسبب طريقة استخدامها اكثر بدائية وتخلفاً من الرجل البدائي ذاته... والذي قدمه المؤلف المخرج المصمم، كشخصية نموذجية لديها طاقة الاستمرار في اعمال قادمة على غرار الشخصيات الكرتونية المعروفة، اذ يمكن استخدامها كحامل لمضامين فنية بشكل متجدد، من دون الوقوع في حالات التكرار. فهذا الرجل البدائي الذي لا يحمل من البدائية الا شكلها الخارجي وحاجاتها الداخلية البريئة يصلح كنموذج للبراءة والاستقامة، والاهم الصراحة. يقدم على افعال كي يلبي حاجاته حقوقه الانسانية الطبيعية ببساطة وأمان في تداخل مع عصر تركيبي معقد وخرائبي. في "مذكرات رجل بدائي" أو الجزء الأول منه كما نستطيع ان نسميه، يخرج البدائي من كهفه صباحاً، يتمطى، ثم يتجه الى شجرة النخيل المقابلة كي يؤمن طعامه الصباحي، ولكنه يدرك ان ثمار النخيل العالية لا يمكن قطفها الا باستخدام وسيلة ما أداة، فيبدأ بتجريب ادواته في محاولة للحصول على طعام ليس الا... ما يؤدي الى كسر أحد اغصان الشجرة. وينتقل الفيلم الى المعاصرة مباشرة عبر طرح صارم للغاية، مسلطاً الضوء على الزيف والتعقيد والانانية في التعامل مع المستجدات من افكار وشعارات، فيصل الى مكان "جريمة" كسر غصن شجرة النخيل الحشد المعاصر من السيارات والطائرات والخطباء المتملقين وعربات الاسعاف واصحاب المصالح، في محاولة لردع عدوان الرجل البدائي على الشجرة ووقف محاولاته الاعتداء على البيئة من دون الالتفات الى تأمين لقمة عيشه. ويقود الفيلم المتفرج بسلاسة وطرافة الى اسقاطات معاصرة وواقعية، حول العلاقات الانسانية المطروحة بمعانيها السياسية والاجتماعية، بحيث يمكنه ببساطة تذكر علاقة العالم الغربي بالعالم الثالث، او علاقة البيروقراطيين المتسلقين بالمواطن العادي او حتى علاقة محدثي النعمة بالدراويش. فالنموذج الذي طرحه قات يمتاز بالصلاحية المعبرة، فالرجل ليس بدائياً بالمعنى الاخلاقي في مواجهة وحشية صارمة بالمعنى نفسه للطرف المقابل على رغم اختلاف الوسائل من الناحية الحداثية. اما من الناحية التنموية البنائية فقد استطاع الرجل البدائي ان يمثل منطوق الجماعة او دورة الحياة المتصالحة مع مواردها، بينما اوحى الحشد المقابل بتعبيره عن مصالح الافراد. وهنا يكمن التوازن الفني للجدل القائم والساخن بين الرجل البدائي و"الجماعة الحداثوية"، ما يجعل الفيلم وشخصية الرجل البدائي وجبة فنية دسمة تضع المتلقي في لجة الكثير من الاسئلة وتضفي على هزيمة الرجل البدائي صفة المؤقت لانه استطاع ان يصنع مع المشاهد ذاك التحالف الجميل للوصول الى غابات ونتائج نظيفة. اما الفيلم الثاني "فلاش" فمن اخراج نبيل المالح عن فكرة وسيناريو للممثل بساممكوسا الذي قام ببطولة العمل ايضاً. وقد قدما عملاً درامياً كثيفاً يعبر بقوة عن نوع من السينما ذات الموازنات الصغيرة جداً بوجود خبرات ثرة امام الكاميرا وخلفها وحتى قبلها وبعدها. واستطاعت هذه الخبرات على رغم ضيق الوقت ان تصنع فيلماً روائياً شديد الرحابة لاعتماده على اشراك المتلقي في الصياغة الدرامية، وكأن الفيلم يقدم نتائج على شكل شخصية متبدلة يجد المشاهد نفسه مجبراً على صياغة مقدمات لها ما يوسع الحدود الفيزيائية للفيلم خارج نطاق الثلاث دقائق ويجعله مفتوحاً على صياغات متنوعة تسرد تحول الشخصية الوحيدة المتوالي انطلاقاً من الانسان المقهور وصولاً الى الانسان القاهر. في سبعة مشاهد كثف بسام كوسا، كمؤدي ومؤلف، ونبيل المالح كمخرج، سيرورة شخص مهمش فقير ومرعوب اختارته يد خفية ليقف تحت اضواء الكاميرا، فينقله صوت وضوء "فلاشها" بالمعنى الرمزي الى حالة اخرى تحمل ملامح بسيطة ومتراكمة لسلطة ما... ملامح فيها قسوة جلاد منتظر. وتتابع الفلاشات وتوغل الشخصية في سلطتها وقسوتها وفي تساقط ملامحها ايضاً حتى تصل في المشهد الاخير الى اقصى حلات التسلط فلا يبقى الا جسد منتج منفوخ وعصى غليظة، ويغيب الوجه على انغام ضحكة نتنة ساحباً معه بقايا ملامح الانسان. واذا كان الثنائي مالح وكوسا يناقشان غريزة التملك الانسانية في حالتها الطارئة، او بمعنى آخر غير المجتمعية، الا انهما اطلا بقوة على صدمة الحداثة الاجتماعية التي تسعى بالانسان المجتمع نحو الانسان الفرد النموذج الاميركي على سبيل المثال والذي يتابع معركة الملايين على انها معركة اللقمة. فالحداثة بصيغها غير الناضجة تؤدي الى فردانية قاسية ومتوحشة ومتوالدة، تحول المجتمع الى افراد يتناهبون الغنائم بشراسة وهمجية، واضعين الشرط المجتمعي على رفوف النسيان. فالضعيف المفرد المتروك لوحده سوف يتابع فرديته وعدم امانه حتى عندما يقوى ويشبع لأنه يفسر الآخر على انه فرد صاحب اطماع، وسوف يتمترس في جبهة مواجهة للآخرين الذين يبحثون عن اللقمة كأفراد... وعندها تتوالد الشراسة والقسوة. وبالتالي فان الفيلم يقرع ناقوس الخطر باتجاه التنبيه الى الفردانية التي تغزو المجتمع من خلال الحداثة المستوردة، والتي رمز اليها المخرج بصوت الكاميرا وضوء الفلاش المفاجئ الذي يخطف الابصار، فتبدو صدمة الفلاش الذي تتعرض له الشخصية والمشاهد معاً كفاصل بين مرحلتين تسردان علاقة الانسان بالاغراء الناتج عن تحول الحاجات في ظل الغرائز. واذا كان الفلاش، كحل تقني، بدائياً بعض الشيء الا انه بدا كبوصلة ارشاد باتجاه الحكايا الدرامية التي تقود الشخصية من مرحلة الى اخرى، والتي على المشاهد ان يكتبها او ان يختزنها في عقله ليعيد صياغتها خارج الصالة محولاً الدقائق الثلاث الى فيلم طويل. من هنا يبدو صوت وضوء الفلاش ضروريين كحل تقني لانهما يجعلان الصدمة اكثر اكتنازاً ودلالة بالنسبة الى التحول الشرطي للشخصية المطروحة وذلك عبر المزج بين النموذج والواقع والخيال. يقودنا نبيل المالح وبسام كوسا في شريط سينمائي مختصر وجارح الى مساحات نفرد عليها اوجاعنا وامراضنا بحيث تفرحنا دهشة المعرفة لذاتها وتفرحنا اكثر المشاركة في صناعة هذه المعرفة وهذه الدهشة، لأن هذا الشريط يدلنا على اكثر من جرح فينا يحتاج الى علاج!