لا يمكن القول أن من بين أسباب ضعف المستوى الفني والفكري الملحوظ لفيلم «سكر مرّ» أن أبطاله مشوهون، فالتشوه كثيراً ما يخفي في باطنه كنوزاً مخبأة عن النفس البشرية. ولا يمكن القول ان مأزقه يكمن في أن معظم أبطاله يٌقيمون علاقات سريعة أو يعانون من التفكك والتشويش والإخفاقات العاطفية المتتالية، أو لأن التحول في شخصياتهم بلغ حد التناقض. فهذه إشكاليات يعاني منها الكثير من الشباب والشابات في العصر الحالي. بل على العكس يمكن للسمات السابقة أن تكون مادة خصبة وثرية لأفلام جذابة لو كانت وراءها موهبة واعية قادرة على الكتابة بفن وعمق وتمتلك الإحساس الصادق. ومن دون أن نغفل أن السيناريو غير محكم وملفق في محاولة الربط بين الشخصيات، وأن طريقة الحكي غير جذابة بل مربكة، يُعتبر أخطر عيوب هذا الفيلم أمران: الأول يتعلق ببناء الشخصيات وعددها الذي بلغ عشر شخصيات رئيسية، والثاني يرجع إلى استخدام «الفلاش باك» بكثرة زائدة عن الحد، والأمران يرتبطان ببعضهما البعض أشد الارتباط. فلو نجح الخط الأول ربما أمكن الإفلات بنسبة كبيرة من فخ «الفلاش باك»، حيث إن تجربة فيلم «21 غرام» للمخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليز إيناريتو أكدت أن بإمكان السينما - تماماً كما في الرواية - استخدام الفلاش باك بحيث يسير الزمن في شكل دائري أو متعرج، فيعود إلى الماضي، ثم يتقدم إلى الحاضر أو يقفز إلى المستقبل ثم يرتد إلى الماضي ثانية وثالثة وأحياناً عشرات المرات. شخصيات مسطحة توظيف الفلاش باك يحتاج إلى الوعي بأن الغرض منه خلق الإحساس بالزمن النفسي الذاتي الشعوري، ورصد التغيرات والتطورات الحادثة للشخصية عبر مدة طويلة زمنياً يصعب تناولها في خط كرونولوجي، فيضطر المبدع لاختيار أهم اللحظات المليئة بالحياة والكاشفة للتحولات، لكنه أمر محفوف بالمخاطر. مع ذلك نجح إيناريتو في «21 غرام» وبمهارة غير عادية، في تجاوز هذا المأزق لأن الفيلم كان يرتكز أساساً على شخصية رئيسية تتحرك في محيط فيه شخصيات في أدوار مساعدة وأخرى فرعية. أما فيلم «سكرّ مرّ» الذي كتب له السيناريو محمد عبد المعطي - بعد تجربة أولى غير ناجحة أيضاً في فيلم «المهرجان» - وأخرجه هاني خليفة الذي يعود بعد غياب طويل يتجاوز العشر سنوات من إنجاز فيلمه الأول اللافت «سهر الليالي»، حيث اختار أن تقوم ببطولته عشر شخصيات رئيسية من الرجال والنساء في عمل مدته ساعتان تقريباً، من دون أن نغفل وجود شخصيات فرعية وثانوية تتحرك في محيط مليء بالتفاصيل وحركات الكاميرا والتنقلات السريعة، فكانت النتيجة مربكة. هنا ربما يقول البعض إن عدد الشخصيات ليس مشكلة لأن «سهر الليالي» كان أيضاً بطولة جماعية. ويمكن الرد على هؤلاء بأن «سهر الليالي» كان أبطاله ثمانية فقط وليس عشرة، فإن تأخذ مساحة من فيلم مدته ساعتان لتضيف شخصيتين رئيسيتين بكل سماتهما وملامحهما ومشكلاتهما الشخصية وتحولاتهما، لا بد أن يتم ذلك على حساب باقي الشخصيات، أضف إلى ما سبق أن مؤلف «سهر الليالي» كان قادراً على تحليل المأزق النفسي لشخصياته ومعاناتها حتى لو فعل ذلك بشكل مباشر أحياناً. إذن لن ننفي أنه ربما ينجح كاتب ملهم في حل تلك المعضلة لو نجح في فهم شخصياته من الداخل وكشف توتراتها وتعقيداتها المتوارية. لكن مؤلف «سكر مرّ» لم يعط لنفسه فرصة تعميق كل شخصية لتصبح ذات بنية، قوية أو ضعيفة، متفردة من لحم ودم ينفعل بها المتلقي كما حدث مع «سهر الليالي» الذي يعتبر بناؤه الفني أصعب لأنه يدور تقريباً في 48 ساعة أو تحديداً في ثلاث ليالي، بينما «سكر مر» يدور تقريباً في خمس سنوات مستنداً على الفلاش باك لاختيار اللحظات الزمنية المؤثرة والتي تخدم فكرة صناعه. لكن القفز المستمر والسريع بين عشر شخصيات رئيسية صعَّب عملية التعميق، واكتفى بالمرور على السطح، وبالتالي كانت النتيجة أن المتلقي أصبح مشوشاً بين الشخصيات وغير قادر على متابعتها، مثلما أصابه الملل رغم الإيقاع السريع اللاهث. طعم الهوى الفيلم يحكي خمس قصص من المفترض أنها «علاقات حب» ومن المفترض أن يتفاعل معها المتلقي أو مع بعضها على الأقل، فالحب من أقوى التيمات الجاذبة للجمهور. وعنوان الفيلم مقتبس من أغنية شهيرة لماجدة الرومي بعنوان «مفترق الطرق» كلمات صلاح جاهين، تقول كلماتها: (حبيبي سكر مر طعم الهوى/ فرق ما بينا البين، ماعدناش سوى/ حرام عليك يا عذاب، نبقى كده أغراب/ دا البعد جرح من غير دوا.) لكن المتأمل للشخصيات لن يجد بينها قصة حب واحدة حقيقية تنطبق عليها كلمات الأغنية. فالثنائيات عند خليفة جاءت خالية من الحب الحقيقي، هي مجرد علاقات جسدية أو إعجاب أو بحث عن شريك من أجل الاستقرار، بعضها نفعي أو هروبي، أو تمضية وقت، لكن لا يوجد بينها حب حقيقي، ربما باستثناء الثنائي المسيحي الذي لم ينجح في الحفاظ على هذا الحب وقتله الملل في مشاهد شديدة الرتابة. فجاءت كل النماذج إما انتهازية أو أنانية أو غير قادرة على تغيير نفسها. والمشكلة الأكبر أنه حتى أثناء رسم تلك العلاقات لا تجد بها شيئاً يُوقظ الوعي، أو يحرك الوجدان، لأن مؤلفها اهتم بشكلها فقط ولم ينجح في سبور أغوارها. تنتمي الشخصيات الى مستوى اجتماعي ميسور مادياً باستثناء الثنائي المسيحي والدكتور بكلية الفنون الجميلة المتسلق، لكن الشخصيات، مع ذلك، لا تعاني مأزقاً مادياً خطيراً. تبدو أغلب الشخصيات متحررة، متعددة العلاقات حتى لو في مرحلة من حياتها، فالصديقة ترتبط بحبيب أقرب صديقاتها، والعكس صحيح، إلا أنها في أغلبها نماذج سلبية مشتتة مفككة متناقضة مبتذلة، وهو أمر رغم كونه مرهق للمتلقي لكن التجاوز عنه كان وارداً لو تم التنقيب تحت جلود تلك الشخصيات وكشف خباياها وتطويرها وفق منطقها الخاص. فمثلاً علاقة مروان (نبيل عيسى) بنازلي (أمينة خليل) والتي بدت أكثر اختياراً حراً بين الطرفين حيث في لحظة ما وُلد بينهما حب قادهما للزواج رغم أن تركيبة مروان كانت ضد الزواج، لكن المؤلف لم ينجح في تطوير هذا الثنائي بتلقائية، ولأنه يمتلك نتيجة جاهزة يريد أن يصدرها للمتلقي قام بربط المشاهد بشكل تعسفي، واستنطق الشخصيات بلسانه هو. ففي أحد المشاهد نرى مروان يعترض على أسلوب زوجته في الترحيب بأحد أصدقائها. للوهلة الأولى يفهم المتلقي أن الغيرة هي السبب، ثم ترد الزوجة عليه بمشهد مماثل. المثير للدهشة أن الاثنين عندما يعترضان على تصرفات بعضهما يفعلان ذلك تحت دعوى الحفاظ على صورتهما أمام الآخرين، وذلك رغم أنهما أصلاً شخصيتان متحررتان في سلوكهما وملبسهما وهيئتهما ولم يكونا يهتمان بالآخر، ويتصرفان كما يحلو لهما، ثم ينتهي بهما المطاف إلى الطلاق. ونكتشف في نهاية الفيلم أن نازلي ارتدت الحجاب فجأة بالتوازي مع مشهد مصطنع وساذج في مباشرته لأيتن عامر التي تأخذ مكان شخصية نازلي. هنا لوى المؤلف عنق المشاهد والشخصيات ليثبت فكرته التي فحواها أن كل العلاقات فاشلة، لينسف فكرة الحب، لينسف منظومة الزواج، وليؤكد أن البشر يتغيرون من النقيض إلى النقيض. التعسف الدرامي صحيح أن الفيلم يتحدث عن «التحولات المتناقضة للشخصيات»، وصحيح أنها فكرة موجودة في الواقع، لكن الإشكال الذي وقع فيه كاتب السيناريو - ولم ينجح المخرج في علاجه - أنه انشغل برصد التحول الشكلي من حالة إلى نقيضها. التحول الوحيد المبرر في الفيلم كان ارتداء شري عادل الحجاب عقب وفاة أمها فجأة أمام عينيها. أما التحول في حياة الآخرين، وخصوصاً شخصية هيثم أحمد زكي، من حياة السكر والعربدة إلى التدين والقرب من الله في لحظة وهو راقد إلى جوار عشيقته تم تنفيذه بأسلوب غير مقنع سينمائياً أو درامياً. هناك دوماً أسباب وراء تحولات البشر، حتى لو لم تُعلن هذه الأسباب، لكن ذلك لا ينفي وجود أسباب دفينة وراء التغيير، واكتشافها يحتاج إلى نظرة واعية، إلى قدرة تحليلية وبصيرة على إدراك خبايا النفس البشرية وتعقيداتها، هنا تكمن قيمة العمل، في تصوير رحلة التغيير، فالطريق الذي قاد إليه هو الأهم، هو جوهره الحقيقي. يعتبر «سكر مر» مشروع شخصيات سينمائية يمكن العمل عليها مطولاً حتى تنمو وتتحرك باستقلالية، أما الفيلم في هيئته الحالية فهو مجرد عمل شكلي لم يجرؤ أن يغوص أعمق، لم يعرف كيف يناقش خواطر هؤلاء الضائعين، ولا هواجسهم، ولا كوابيسهم التي لم نر منها شيئاً تلميحاً أو تصريحاً، حيث اكتفى صنّاعه بالنظر إليهم من الخارج، كأنهم يحكون عن عالم لا يعرفون عن دخائله شيئاً، ولا عن الصراع الضارب في باطنه، بينما لو نجحوا في تصعيد وتعميق الشعور لكان المتلقي قد بدا متفاعلاً أكثر وكأنه مشارك في إعادة اكتشاف جزء ولو ضئيل من الحياة.