بدا زهير… عاتباً على "العولمة". هذا هو الاسم الذي اختاره للكارثة التي المت به حين اضطر الى اغلاق مطعم انشأه قبل عامين كي يكون "مطعماً للأصدقاء". "العولمة انتصرت على الصداقة" كما قال، فانكسر المطعم وحل محله آخرٌ يختلف عنه كثيراً. الأول كنت تدخله فتجد، على الأقل، خمسة أشخاص أو ستة تعرفهم، وقد تسهر فيه وتطلب من زهير ان يؤجل تسديد الحساب، فيفعل بابتسام وطيب خاطر. اما الثاني، الجديد، فلا تعرف أحداً من رواده ولا تشاهد أحداً من مدرائه أو القيّمين عليه. تستقبلك على مدخله حسناء تعرف كيف تبتسم بأناقة واقتصاد يحفظان المسافة بين الزبون والمطعم. فالتفكير بتأجيل المحاسبة، هنا، بمثابة الحرج الذي يستحيل ان يجترحه خيال أخصب المتخيلين. المطعم الأول كان شخصي الطابع ينقسم غرفاً يتوزع كلَ واحدة منها جو أهلي يتبادله الأصدقاء وعارفو بعضهم بعضاً. والثاني مجردٌ، يمتد على قاعة واحدة أُحسِن استخدام الحيّز المكاني فيها، تمتلئ جدرانها بلوحات حديثة تجريدية وتعبيرية تحيل الأمكنة ظلال امكنة فتزيد الغربة والابهام. الأول ديكوره شرقي واسمه عربي، والثاني شكله نيويوركي واسمه غربي مستقى من فيلم هوليوودي شهير. والأول، عندما شاء ان يبتكر نحا نحو الماضي فخرج بقائمة طعام عباسي، اما الثاني فيقوم بعض طعامه على تعددية ثقافية مفتوحة، وعلى تركيب ومزاوجة يكادان يجعلانه مستقبلياً. وهذا الأخير يبدو، الا اذا انتكس الوضع اللبناني، مرشحاً لحياة مديدة ونجاح متعاظم بدليل الزبائن الكثيرين من قاصديه، الشيء الذي يختصره زهير بكلمة "العولمة" التي تعني له احلال الربح محل الصداقات والعلاقات الاخوانية. وما يقوله زهير بلغة تسترخي وتتسلى، يقوله كُتاب وأحزاب كثيرون بلغة تتوتر وتتشنج، فيدينون العولمة ويحذرون من خطرها ومن هجمتها، كأنما هم يدعون الى عالم مغلق تنتصب الأسوار بين أجزائه، فيما تمضي العادات على قديمها المألوف. وهذه العولمة تعبيراتها كثيرة ومتفاوتة في بيروت اليوم. فاللغات الأجنبية لم تعد حكراً على الصالون، أو الجامعة الغربية، كما كانت قبلاً، بل غدت تتواتر في المقاهي والمطاعم الكثيرة ذات الوجبات السريعة والمآكل الكوزموبوليتية المنتشرة ما بين المطبخ المكسيكي والمطبخ الياباني، ناهيك عن الأطعمة المركبة كما تُركب المواد الكيماوية. ولئن راحت الانكليزية تطرد الفرنسية في هذه البيئات والدوائر، كما تتقدم الموضة الأميركية فتقضم مواقع احتلتها الأناقة الأوروبية، فإن الموسيقى الغربية على أنواعها الأحدث عهداً تتكفل بالباقي، يساعدها في بناء الاحتفالية الجديدة عدد من المجمّعات التجارية التي يضم معظمها حداثة المعمار الى ضخامة المشهد. لكن التليفونات النقالة، أو الخليوية، التي يبلغ عددها في لبنان عشرة أضعاف عددها في الأردن رغم تقارب السكان، توحي كأن البلد كله متورط في جهد طارئ ومُلح الحاح متابعة أسعار البورصة. والحال ان بعض الأمكنة البيروتية تُشهر الخليوي بنسبة لا يعدلها الا ما نراه في "السيتي" اللندنية أو "الوول ستريت" النيويوركية أو ربما هونغ كونغ. في هذه الغضون يحتل الپE - Mail في كلام الناس موقعاً لم يسبق لأي العناوين ان احتله، بينما تنتج الشبيبة مصطلحات ومداخل كلامية خاصة بها ككلمة man الانكليزية التي يتخاطب بها فراس… وأصدقاؤه المتفاوتة أعمارهم بين الثامنة عشرة والثانية وعشرين. هكذا يخاطب فراس صديقته ريما بپman من دون ان يستوقفه للحظة انها woman. وقد يقال ان هذا الاقبال على الجديد باختلافه له ما يبرره في سنوات الحرب، وليس في الاستهلاك أو المحاكاة وحدهما. فانقطاع التليفون طويلاً يفسر جزئياً انتشار الخليوي، كما تفسر رداءة البريد وخدماته شيوع الپE - Mail. مع هذا فبرامج التلفزيون توضح ان المسألة اعقد مما يُظن. ذلك ان المواضيع المجتمعية، من زواج وطلاق وجنس ومُساكنة وسفاح قربى وتعليم، تنتزع لنفسها صدارة لا تنافسها عليها أية "سياسة" بالمعنى البسيط للكلمة. حتى الطلاب المسيّسون لم تعد الأفكار والنظريات مدخلهم الى السياسة على ما كانت الحال في الستينات والسبعينات، فتبدو سياستهم الآن خليطاً من أهواء الحياة وأمزجتها، أو ربما من ممانعة المراهقة وعمرها. بهذا تلوح نزعة التسييس غير مُدججة بالأفكار وغير مُثقلة بها، كما لو انها سهلة التجاوز حال عبور المراهقة ومعاودة الاحتكام الى تجارب الحياة. وقد يصح، هنا، الانتباه الى تقاطعات تجعل مناضلاً سابقاً في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" قيادياً حالياً للشبيبة العونية المسيحية، أو تفيض بتشي غيفارا عن ضفاف اليسار فتطرحه على القارعة مشاعاً شبابياً. وبدوره فالقيادي الطلابي خالد… لم يملك أياً من التوتر والتعبوية اللذين كانت تُعرف بهما القيادات الطلابية، بينما حمل تنظيمه اسماً سينمائياً أو لاعباً، أو ربما شابهَ عنواناً لزاوية ثابتة في صحيفة: "بلا حدود". أبعد من هذا يتراءى ان السياسات العليا، اذا جاز القول، تتأثر بالسياسات المجتمعية على نحو لم تعهده قبلاً. هكذا تكتسب دعوة الرئيس الياس الهراوي الى الزواج المدني والردود عليها، حجماً ملحوظاً في تشكيل الاصطفاف والأحلاف والمواقف. ويعوّل الصحافي بول أشقر على وعي مدني ينبثق من الانتخابات البلدية والتوعية بها كواحد من واجبات المواطنة. غير ان ما يلمع ليس كله ذهباً. فالسياسات الموصوفة ليست فقط نتاج التأثر بالمجتمعي، اذ هي أيضاً نتاج محاصرة السياسة والتضييق عليها حين يصل الأمر الى الجد، حتى ليحتار المرء: هل ان صعود المجتمعي هذا خلاصة تقدم بازغ أم هو مهرب وتحايل على السياسي الممنوع؟ فالموضوع السوري، وموضوع الجيش اللبناني لا يزالان من المحرمات التي لا تقبل النقاش، ناهيك عن المس. ويبدو ان الحجم الذي اكتسبته المقابلات التلفزيونية التي اجريت مؤخراً مع معارضين كأمين الجميل وميشال عون، أقرب الى دليل على الشوق الى السياسة، بينما الشعبية التي يحظى بها نواب كنجاح واكيم وفنانون كزياد الرحباني، دليل آخر على الشعبوية التي تنمو حيث تتراوح السياسة ما بين انعدام المعنى واختلاطه وتعثّر البدايات. والحال ان اشارات كثيرة تنم عن الشعور بالعارض والموقت، رغم صلابة المباني التي تنهض في الوسط التجاري وبعض أنحاء العاصمة. فعندما كان وصول كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة متوقعاً، كما كان متوقعاً نقله للسوريين واللبنانيين الموقف الاسرائيلي غير المشروط من القرار 425، ظهر الاحراج سيد الموقف في بيروت. ومثل هذا االاحراج الذي ترفعه الاحتمالات العراقية والتركية الى مصاف الخوف، مصحوبة بأزمة الوراثة في سورية على اثر اعفاء رفعت الأسد من نيابة الرئاسة، تندرج كلها في الحسابات الداخلية للطوائف. انها الحسابات التي لا تحول عولمة زهير دون قوتها النامية في الخفاء. هكذا يقرر الوزير الدرزي وليد جنبلاط ان ينفتح على خصومه المسيحيين، انطلاقاً من دوري شمعون "الشوفي" مروراً بالكتائب والكتلة الوطنية والله اعلم ماذا بعد. وفي نطاق يوازي التموج الذي اشتهر به جنبلاط، تُسمع أصوات نقدية للسوريين غير محسوبة تقليدياً على نقّاد دمشق. فمن حبيب صادق ونجاح واكيم الى محسن ابراهيم والحزب الشيوعي، تترجع أصداء تحمل على التساؤل عن الباعث على النقد: هل هو أرض تزحل تحت الأقدام بحيث يتجرأ الذين ضمرت حصتهم في حصص "الجمهورية الثانية" وامتيازاتها، ام ثمة احتمالات لم تمت حقاً تزعمها محاولات حزبية جديدة كالتي يرعاها الكاتبان فواز طرابلسي وجوزيف سماحة؟ والى العارض والملتبس والطائفي المُحوّر، والى عيش الزمن يوماً بيوم، هناك أفكار تزداد اتساعاً في وسط النخبة اللبنانية لا تتميز فيها، الا بدرجة الادعاء، عن الرائج لدى زميلاتها العربية. ففي مقابلة تلفزيونية مع شاعر ومسؤول عن صفحة ثقافية مؤثرة في بيروت، حكم المتحدث بأن اليهود يسيطرون على الصحافة الفرنسية، ولم يَفتْه الزعم، بكثير من العجرفة، ان "اليساريين" ممن ينتقدون روجيه غارودي سبق لهم ان طالبوا برمي اليهود في البحر! وهناك، بالمناسبة، رائحة عفن في هذا الوسط تنبعث من مصدرين، هما على اختلافهما، من تعابير ضبط السياسة وتحوير الحس الطائفي: أحدهما يميني يرتاح الى نقد اليسار لا من موقع ليبيرالي يحتج على التوتاليتارية، بل من موقع جانح الى الفاشية، متعايش مع "الدولة" التي تُبنى و"الإعمار" الذي يحصل. والثاني مسيحي يترجح بين احباط يعميه عن رؤية العالم الفعلي، فلا يرى في "مونيكا غيت" مثلاً الا مؤامرة يهودية، وبين ذمية مذعنة تجهد الى التطابق مع الأكثرية ومع الحكم السوري، عبر جلد الذات وتحميل أميركا واليهود مسؤولية كل ما يدب على الأرض. بيد ان عفن التفتت المجتمعي يأتيك قوياً وصريحاً في المناطق. فالذين خالوا ان المقاومة توحد اللبنانيين، فاتهم ان هذه المقاومة من أسباب تفتت الطائفة الشيعية نفسها. فالبعلبكي، نايف، الذي كان يشرح لي حركة صبحي الطفيلي توقف فجأة عن الشرح ليوحي بمسحة يأس بادية كما لو ان البقاعيين محتارون في مَن يكرهون أكثر: السوري أم الايراني أم الشيعي الجنوبي؟ "لقد حل شعار الموت لحسن نصرالله، أمين عام حزب الله، محل شعار الموت لأميركا"، كما قال. وما لبث نايف ان اسطرد وقد استولى علىه يأس أكبر: "في السابق كانت أوضاع كهذه تعيد ربطنا بالدولة اللبنانية. اما الآن، وفي ظل هذه الدولة، فالارتباط مراوحة في المكان نفسه". صحيح ان المقاومة "مقدسة" على شفاه البقاعيين، الا ان حساباتها، في القلوب، مختلفة. فهي صناعة جهازية أكثر منها في الجنوب، فيما البقاعيون لا يتمثلون في مجلس شورى "حزب الله"، الوكالة السرية للمقاومة، الا بواحد فقط هو محمد يزبك الذي تعرض نجله لاعتداء في بعلبك. ومع تراجع العائدات المالية التي تفد من ايران، وتراجع التعويضات والتقديمات تالياً، تشرذمت بيئة المقاومة البقاعية الى عدد من الباحثين عن عمل أو عن هجرة، يقابلهم عدد من الذين أثروا واستقر بهم الحال من جراء امساكهم بالشركات والمؤسسات التي راح ينشئها المال الايراني منذ وفادته الأولى. وما قاله الصديق البقاعي على مقربة من تمثال الشاعر خليل مطران الذي يبدو في مدينته مكتّفاً حزيناً، سمعناه معكوساً من صديق جنوبي وصف اجواء المقاومة في منطقته. قال حسين ان شبان حزب الله الجنوبيين يتسابقون فعلاً للحصول على التكليف الشرعي بالعمل الجهادي، فإذا حصل عليه احدهم من دون آخرين أسف الأخيرون وحزنوا حقاً لأن الشهادة فاتتهم. وروى حسين قصة مهندس من حزب الله قام بعمليات استشهادية عدة من غير ان يوفق بالشهادة، فبادر الى بناء قبر له من قبيل الاستباق وتقصير المسافة الفاصلة عن الجنة. ومنذ انشائه يتوجه المهندس كل ليلة لينام ساعتين أو أكثر في القبر الذي بناه. على ان الاستغراق الجهادي هذا لا يحول دون تناقل الجنوبيين، ما بين جد ومزاح، تعابير وتمنيات من نوع "ان شاء الله يُضرب بيتك" تدليلاً على دسامة التعويضات في ظل الحجم الجنوبي في السلطة وثقل حركة "أمل" في الادارة وسخائها. وأبعد من هذا ان الاستغراق الجهادي لا يلغي سياسات قليلة الاتفاق مع التسامي الموصوف. فالضعف الذي انزلته حركة الطفيلي بحزب الله، مثلاً، مرشح لأن يزيد عمليات المقاومة ضد اسرائيل، بحسب حسين، فيرتفع منسوب الدم. هكذا تستيقظ الأمجاد في سرير الوضاعات. لكن في حال الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، الى أين ستتوجه طاقة العنف هذه؟ فالطاقة المذكورة هي، تبعاً لوليد، الجامعي المسيحي واليساري السابق، أخطر من أي حدث سياسي بذاته، انتصاراً كان أم هزيمة. فالعنف اياه سبق ان تكفّل، على مدى السنوات الماضية، بتحويل المدن الساحلية اللبنانية المنفتحة على العالم الخارجي، الى مدن داخلية وذكورية منكفئة على نفسها. وما يستوقفه في هذا مسألتان يراهما مزعجتين جداً: الأولى ان التيار الأعرض من المسلمين غير مبالٍ اطلاقاً بالعزوف والتهميش المسيحيين، على عكس ما كانت عليه حال المسيحيين الذين انضموا الى اليسار، قبل 1975، احتجاجاً منهم على الغبن النازل بالمسلمين. اما الثانية فمفادها ان غالبية رفاقه السابقين في اليسار من المسلمين، "قنعوا بالمزرعة الحالية على انها هي الدولة التي ناضلنا لاقامتها". وبمرارة يخلص وليد الى الاستنتاج التالي: "ان خصوصية لبنان في محيطه تجعل المسيحيين، نظرياً، ذاك المحور الذي يمكن ان ينهض من حوله المجتمع والدولة من جديد. والمسيحيون، من ناحيتهم، خسروا خاصياتهم مثلما خسر المسلمون خاصياتهم. فقد انزلت بهم الحرب والهجرة والتهجير والتهميش افقاراً تدل عليه حال كفاءاتهم واسهاماتهم الثقافية ونظرتهم المحلية الضيقة الى العالم، فضلاً عن احتقان الوعي الطائفي في أوساطهم بنتيجة العوامل المذكورة مجتمعة. واذا فسد الملح فبماذا يُملّح؟". فهل تستطيع العولمة التي يكرهها زهير ان توحد ما لم تنجح المقاومة، ابنة الحرب الأهلية وامتدادها، في توحيده، وما لا يوحي المسيحيون انهم سينجحون فيه؟ للعولمة اسم جامع في لبنان اليوم هو رفيق الحريري. والحريري يبقى أرقى من نقاده الشعبويين الذين يمثلون وعياً حِرَفياً قديماً، كما يبقى أكثر تعقيداً من الحالات الطائفية المبسطة: فهو، على سنيّته، أقل سنية، مثلاً، من الشيعية التي في نبيه بري أو الدرزية التي في وليد جنبلاط. وهو، بمعنى ما، مناضل في سبيل الرأسمالية، مندفع لاقامتها ولاقناع الناس بها وبفضائلها في آن. ومع انه موّل معظم الميليشيات الا انه لم يصدر عن ميليشيا، ولم يرتبط اسمه مباشرة بأي نشاط مسلح. رغم هذا، أو بفعله، يهندس الرجل العالم الجديد الموعود بمعزل عما يحصل من سلام أو توتر في الشرق الأوسط، وبغض النظر عن دروس كشفت عنها تجارب الانهيار المالي في آسيا قبل فترة قصيرة. وهو يفعل ما يفعله من دون كبير مراعاة للمؤسسات، أكانت مُلكه فيديرها بعلاقات القرابة والمنطقة والمحسوبية والولاء، ام كانت مُلك غيره فيحاول اختراقها بشتى السبل والوسائل. وأخطر ما في الحريرية التي عطلت عمل السوق وقيامها على حرية العرض والطلب، انها وازت الدولة وقدراتها بقدرات تكاد تساويها، فامتصّت الكثير من سيولة العمل الحزبي أو النقابي أو الصحافي أو، حتى، الثقافي. وفي الحدود السياسية المباشرة غطت الحريرية الوجود العسكري السوري في لبنان، فأمنت له، رغم تناقضاتها معه، ثقلاً لا يستطيع ان يؤمنه أي سياسي لبناني آخر، مسلماً كان أم مسيحياً. وفي النهاية بدا ان الطبقة الوسطى تتعرض لضربات سورية في خاصرتها السياسية، وأخرى حريرية في خاصرتها الاقتصادية. بيد ان الحريرية، في مصادر تكوينها، عبرت عن ثقافة رأسمالية من دون تاريخ رأسمالي، أي من دون تعلم الاحتكاك اليومي والمباشر بحركة المطالبات ترفعها نقابات وأحزاب، وتستوعبها دورة سياسية. فإذا بها رأسمالية ضيقة الأفق شكاكة بالليبيرالية. ومن ناحيته جاء ظهورها وسط انهيار الدولة والمؤسسات، ليجعلها خلاصية ورؤية، تتكامل، ولو ضدياً، مع الرؤيوية التي ينشرها حزب الله بين الشيعة، أو تلك التي يشيعها ميشال عون بين المسيحيين. الا ان انبثاقها هذا من الدمار الحربي والعدم المؤسسي، غذّى فيها نزعة التصرف بعيداً عن الرقابة التي كان ليفرضها وجود مؤسسي راسخ ومتين. وخلاصة التجربة هذه كانت عَوَجا يُستدل عليه في مناح شتى. فالجنة انما تُبنى على بُعد أمتار قليلة من جهنم، وهي دائماً يراد لها ان تكون جنة مطلقة تقابل الجحيم اللصيق المطلق. اما النعيم فيتطلب سكاناً أكثر بكثير من المتوافرين فيه، أو الذين يمكن ان يتوافروا حتى لو حل السلام العربي - الاسرائيلي الذي يتقدم خطوة ليتراجع مئة خطوة. وقد التقط الكاتب محمد أبي سمرا بعض مفارقات الحريرية حين لاحظ التزامن بين شهر التسوق و"ثورة الجياع" في بريتال. والتقط اخرون مفارقات دلت عليها الماركات التي تبيعها مخازن المجمعات التجارية الجديدة حيث لا تجد الطبقة الوسطى نفسها ما تستطيع شراءه. اما الذي يقصد، كما فعلت أنا، منطقة كعكار أو اخرى كبعلبك، فيتراءى له ان الشعب اللبناني موزع بين عاطل عن العمل وعامل مياوم وعارض، لكنه كله يسعى الى الهجرة التي سُدت أبوابها. ولا تكتم حوادث الموت على الأوتوسترادات المبنية حديثاً بعض دلالات التعمير الحريري. فالطرق العريضة المعدة لقادمين لا يزالون وهميين، تترافق مع رداءة قوانين السير، واهتراء السيارات، والشروط السهلة للحصول على رخصة للقيادة، وهذا مجتمعاً بمثابة وصفة اخرى للموت الذي يتكاثر من غير ان يهتز أحد أو شيء. انه الموت الآخر استجابةً لجنة أخرى. انه الموت، يا زهير، لا العولمة.